فهد سليمان الشقيران
حزمة الإصلاحات التي تجري بتونس أثرت منذ يومها الأول على الحركة الإسلامية بالمنطقة. منذ الثمانينات و«الإخواني» راشد الغنوشي مؤسس حركة «النهضة» يُوصف لدى الأصوليين والمتطرفين بأنه من «المفكرين المرموقين»(!). كتابه:«الحريات العامة في الدولة الإسلامية» من أوائل المؤلفات التي تريد التجاوز من مباشرة سيد قطب إلى تأسيس خطاب مخاتل، وهي مخاتلة قاتلة، جمع من العلمانيين والمفكرين الليبراليين انطلت عليهم خدعة الغنوشي، لاحقاً صارت هذه المؤلفات متوفرة مثل كتاب «السياسة والحكم» للترابي، و«أسئلة الثورة» لسلمان العودة، وسواها من الكتب التي تتناول مشروعها السياسي الأصولي من منطلقاتٍ لا تخلو من ثلاث هي: الحريات العامة، الديموقراطية، مشاركة المرأة. وهذه الخطابات غير علمية ولا فلسفية وإنما سياسية محضة، وآية ذلك أن الغنوشي حين ظهر في ندوةٍ متلفزةٍ مع محمد أركون لم يستطع فهم العدة الفكرية والفلسفية التي يحملها أركون ويستعملها، كان النقاش حينها عن كتاب أركون«اللامفكر فيه» وكان طبع حديثاً.
الهتافات الشعبية العفوية ضد الغنوشي لم تكن مفتعلة، وبرغم هجوم المنصف المرزوقي الضاري على إصلاحات قيس سعيد، غير أن تونس تعيش «عودة إلى الأساس» البورقيبي على مستوى روح الدولة، ولكن مع ضمان ديموقراطية وسلطة تداولية تقوم على مبادئ «نهاية الزعيم الأوحد»، ولكن ضمن إجراءات دستورية تضمن عدم تكرار كارثة مجيء الأصوليين إلى الحكم. بعد استلام «النهضة» مسؤوليات الحكومة كتب عدد من الليبراليين مغتبطين بعهده، المشكلة أننا لا نقرأ الأدبيات التي يتلونها بعينٍ فاحصة، أن الغنوشي لن يكون بمباشرة سيد قطب أو بمفاصلة أسامة بن لادن، فالأصولية لها وجوهها المتعددة، الإرهابي اليوم من الممكن أن يلبس أحدث الموضات، ويقوم بيومياته الطبيعية مع الناس ولكنه ينتظر لحظته المناسبة لتنفيذ الضربة.
لقد قابلتُ العديد من رموز «الصحوة»، يكفّرون الدولة سراً، لكن تصريحهم بذلك يعرضهم لخطر الملاحقة والانكشاف السياسي، بالإضافة لنزع المؤسسات الدينية مشروعيتهم ومن ثم تفريغهم من التأثير الاجتماعي. رأينا كيف استخدمت «الصحوة» اسم ابن باز متترسةً به، رغم أنهم يمقتون الشيخ ابن باز ومشروعه وتوجهه، ولكنهم كان مضطرين للاحتماء به، وإلا من يحرس منابرهم من منع الحكومة؟! لاحقاً تفاضح المشايخ فيما بينهم أحدهم روى تلفزيونياً موقف رمز «صحوي» من ابن باز. اللافت أن هذا الرمز ألقى محاضرةً عنه، والسبب منع أي تشويش يمكن أن يصل إلى الشيخ تجاهه.
إن المواقف الصارمة ضد التطرف في معظم دول المنطقة اليوم وعلى رأسها السعودية والإمارات ومصر، تضمنت خطوات شديدة الدقة وتبويباً قانونياً محكماً جعل حركة الأصوليين أبطأ وتأثيرهم أقل. الآن تعود تونس إلى أصلها، إلى الروح المدنية، إلى الأكاديميا المتطورة التي جعلت كبار الفلاسفة يدرّسون فيها (دروس فوكو عن ديكارت ألقاها في تونس) وهذه العودة أساسية ولا بد أن تعضد بدعمٍ إقليمي كبير وهو موجود. الدرس المستفاد من وضع الغنوشي أهديه هذه المرة لجمع من الكتاب المرموقين انساقوا وراء أفكار الغنوشي المخاتلة ظانّين عن حسن نية أنه تراجع عن مشاريعه الأصولية، لنتأمل ونعتبر.
عن "الاتحاد" الإماراتية