
في لقاء حديث مع الإعلامي اللبناني إيلي ناكوزي على قناة (شمس)، قدّم الرئيس مسعود بارزاني رؤية متزنة وعميقة حول مستقبل أكراد سوريا وعلاقتهم مع دمشق في ظل التحولات الكبرى التي تشهدها البلاد. التصريحات التي حملت مزيجاً من التفاؤل الحذر والواقعية السياسية ركزت على معاناة الكرد التاريخية والحاجة إلى حوار حقيقي مع القيادة السورية الجديدة لتحقيق حقوقهم المشروعة بعيداً عن العنف أو التدخلات الخارجية.
هي رؤية نابعة من تجربته العميقة في إدارة التحولات الكبرى داخل إقليم كردستان العراق. بارزاني، الذي يُعرف بقدرته على قراءة المشهد الإقليمي بوعي تاريخي وسياسي، أظهر في حواره رؤية متوازنة حيال انهيار نظام الأسد ومستقبل القيادة الجديدة في دمشق، مع تركيز خاص على معاناة الكرد السوريين وسبل حلّ قضيتهم.
ما يلفت النظر في حديث بارزاني هو إدراكه للتوازنات الدولية والإقليمية التي أثرت في مسار الأحداث السورية. فرغم أنّ سقوط النظام السوري كان متوقعاً من قِبله، إلا أنّ السرعة التي انهار بها النظام شكّلت عنصر المفاجأة، وهو ما يعكس هشاشة البنية الداخلية التي كان يعتمد عليها الأسد في الحكم. ومع ذلك لم يكن سقوط النظام، بحسب بارزاني، نتيجة لتحولات داخلية بحتة، بل جاء مدفوعاً بتحولات في مواقف القوى الدولية، خاصة روسيا وإيران اللتين شكّلتا العمود الفقري لاستمرار النظام خلال العقد الماضي.
بارزاني، الذي يعرف تماماً تعقيدات الحكم في المجتمعات المتعددة القوميات، شدد على أهمية أن تُترجم الأقوال السياسية للقيادة السورية الجديدة إلى أفعال عملية. وبالنسبة إليه، لا يمكن لمجرد الخطاب المطمئن أن يكون كافياً لطمأنة الكرد أو أيّ مكوّن آخر في سوريا، ما لم تكن هناك خطوات ملموسة لإصلاح الماضي ومعالجة المظالم التاريخية. هنا يظهر البُعد الأخلاقي والإنساني لرؤية بارزاني، حيث ربط حل القضية الكردية السورية بنهاية سياسات التمييز والتعريب التي طالتهم لعقود، داعياً إلى بناء علاقة جديدة بين الكرد ودمشق تقوم على الاحترام المتبادل والاعتراف بالحقوق، وممّا يجعل رؤية بارزاني أكثر عمقاً هو تأكيده على أهمية الحوار الداخلي بين الكرد أنفسهم. فهو يدرك أنّ الانقسام الداخلي هو التهديد الأكبر لأيّ مشروع سياسي، ويدعو الكرد السوريين إلى توحيد كلمتهم والتخلص من أيّ نفوذ خارجي قد يعقّد مسارهم السياسي. في هذا الإطار كان واضحاً في دعوته لحزب العمال الكردستاني إلى ترك الساحة السورية، معتبراً أنّ وجوده لا يخدم القضية الكردية، بل يُستخدم كذريعة لتدخلات إقليمية، خاصة من الجانب التركي.
وعلى الرغم من قناعاته الراسخة بحقّ تقرير المصير للشعب الكردي، يظل بارزاني متحفظاً في تحديد شكل الحل النهائي لكرد سوريا، تاركاً الأمر لقرارهم الذاتي ولما يتوافقون عليه مع القيادة السورية. هذا الموقف يعكس نهجاً سياسياً مرناً يوازن بين المبادئ والواقع، مع حرص واضح على تفادي استنساخ تجارب قد لا تناسب السياق السوري بكل تعقيداته.
رؤية بارزاني للفيدرالية كحل سياسي في سوريا تعكس نضجاً في التعامل مع مسألة الحكم في المجتمعات المتنوعة. فهو يعتبر أنّ الفيدرالية ليست تقسيماً، بل وسيلة لضمان توزيع عادل للسلطة والثروة. ومع ذلك يدرك بارزاني أنّ هذا النموذج يواجه معارضة واسعة بسبب الفهم الخاطئ له كخطوة نحو التقسيم. ورغم إيمانه بجدوى الفيدرالية، يؤكد أنّ المهم هو تحقيق العدالة وحقوق جميع المكونات، مهما كان الشكل النهائي للنظام.
في ختام حديثه عبّر بارزاني عن تفاؤله بمستقبل كرد سوريا، لكنّه ربط هذا التفاؤل بالحذر الواجب في التعامل مع التحولات الجارية. التفاؤل بالنسبة إليه ليس غياباً للقلق، بل هو إدراك للإمكانات المتاحة إذا ما تم التعامل معها بحكمة ووحدة. وبروح المسؤولية التاريخية أبدى بارزاني استعداد إقليم كردستان لدعم كرد سوريا سياسياً واقتصادياً، مؤكداً أنّ هذا الدعم لا يهدف إلى فرض نماذج جاهزة، بل إلى مساعدتهم في بناء مستقبل يليق بتضحياتهم وتاريخهم.
إنّ تصريحات بارزاني حول سوريا تكشف عن رؤية سياسية عميقة ومتوازنة، تسعى إلى تحقيق توازن دقيق بين المبادئ الكردية ومتطلبات الواقع الإقليمي والدولي. هذه الرؤية، التي تجمع بين الحذر والتفاؤل، تقدم نموذجاً للقيادة الرشيدة في منطقة تتسم بتعقيداتها وتداخل مصالحها، وتجعل من بارزاني صوتاً حاسماً في رسم مستقبل أكثر عدلاً واستقراراً لكرد سوريا.