هشام النجار
لم يكن الجدل الذي صنعته تصريحات وزيرة التعليم العالي بفرنسا فريدريك فيدال بشأن ما وصفته باليسارية الإسلامية مؤخرا، قاصرا على الدوائر الغربية، بل تصاعدت تداعياته على الساحة العربية.
وكانت فيدال قد حذرت من اختراق هذا التوجه للجامعات وإضراره بالمجتمع، مطالبة بمراقبته وتكثيف الدراسات حوله، لكن ذلك لن يكون معزولا عما يجري في الواقع العربي من اختراقات أكثر حدة واتساعا.
واتخذ مصطلح اليسارية الإسلامية، أو اليسار الإسلامي، الذي استخدمه الفرنسيون لوصف اليساريين المتحالفين والمتعاطفين مع الإسلاميين المتطرفين والمتغاضين عن مخاطر النزعات الانفصالية، منحى متطورا طوال العقد الأخير في الحالة العربية، متجاوزا حيز الأطروحات الفكرية والتصورات الأكاديمية لبعض المفكرين إلى عقد تحالفات بالمكاتب المغلقة وميادين التظاهر للمنتمين إلى تيار اليسار الراديكالي وجماعات الإسلام السياسي.
يُعد تأثير هذا التلاقي بين التيارين بالدول الأوروبية أقل مقارنة بتأثيراته في الواقع العربي، على الرغم من الدور الذي لعبه في الترويج له بعض المفكرين والمنظرين الغربيين، لذلك قوبلت تحذيرات فيدال وقبلها وزير التعليم جان ميشال بلانكيه، حينما استخدم المصطلح نفسه محذرا من “الإسلام اليساري” بردود أفعال أبدت استغرابها من تلك المصطلحات الجديدة الدالة على تفاهمات غير مألوفة بين تيارات متناقضة في الحالة الغربية.
المسكوت عنه
إثارة الملف المسكوت عنه في الغرب، خاصة في ما يتعلق بجامعات الضواحي التي يتحكم بها اليسار الفرنسي، وجرت فيها بلورة صيغة تحالف بين اليساريين المتطرفين والنشطاء المقربين من جماعة الإخوان وغيرها من التنظيمات الإسلامية المتشددة، أتت بعد جريمة ذبح المعلم الفرنسي صمويل باتي، عقب إشارات لوزير التعليم بوجود اليسار الإسلامي في المدرسة التي كان يعمل بها المعلم المغدور.
بينما تأثيرات وانعكاسات صيغة التقارب تلك ممتدة وقديمة بالحالة العربية، فضلا عن إسهامها في أحداث كبرى وتحولات خطيرة شهدتها المنطقة العربية، بحجم انتفاضات وثورات الربيع العربي، بالنظر للدور الملحوظ الذي لعبه سياسيون ومفكرون غربيون ينتمون إلى اليسار الراديكالي، واكتظاظ إدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما بهم، والتي كان لها الإسهام الأكبر في دعم أصحاب التوجهات اليسارية الراديكالية بشخصيات ومؤسسات معروف علاقتها بجماعة الإخوان المسلمين.
تشوش الرؤية والخلط المنهجي المبني على أطروحات مفكرين غربيين منتمين إلى اليسار الراديكالي، والانحياز للحركات المتطرفة الإسلامية باعتبارها المعبر الحقيقي عن المسلمين وعن الشعوب العربية المقهورة، نتج عنه ظاهرة لا تزال تعاني منها البلاد العربية انعكست مؤخرا على دول أوروبا، عندما تأثر بتلك المقولات العشوائية الآلاف من الشباب النشط بتيار اليسار الراديكالي الغربي، وقادته للانضمام لتنظيمات تكفيرية إسلامية كداعش بالعراق وسوريا وغيرهما.ومنح دخول أجنحة من اليسار العربي في فلك الإسلام السياسي بدفع من منظرين غربيين وعرب، جماعة الإخوان الإمكانية في تلميع اسمها بمشهد الانتفاضات العربية، تحت عناوين وشعارات اجتماعية وسياسية لم تستخدمها طيلة مسيرتها، وهو السياق الذي لم يقتصر على الموجة الأولى نتيجة حالة الوهم اللحظي الجماعي في العام 2011، بل امتد مع مناسبات تالية متزامنة مع كل ذكرى للثورة، حيث استجاب نشطاء يساريون لدعوات الإخوان للتظاهر حتى بعد ثبوت انتهاج الجماعة للعنف المسلح.
أين ولماذا؟
يعكس مصطلح اليسار الإسلامي التعاون القائم بين أجنحة من اليسار الراديكالي وجماعات الإسلام السياسي، وهو مطروح أكاديميا منذ ما يقرب من عشرين عاما عبر الفيلسوف والمؤرخ بيير أندريه تاجيف، الذي رصد تحالفات عسكرية وسياسية بين اليساريين وجماعات الإسلام السياسي، على اختلاف انتماءاتها، بدءا بالإخوان مرورا بالسلفيين وانتهاء بالجهاديين.
وضح التجلي الأبرز حديثا بالحالة العربية في التحالف الذي دشنه الناشط اليساري الفلسطيني عزمي بشارة مع جماعة الإخوان، ومجمل فصائل الإسلام السياسي، مازجا عبر صيغ لفظية مراوغة بين خطابات وأطروحات قومية عروبية وإسلاموية.
الأسس الفكرية التي انطلق منها بشارة والتي جعلته يصوغ تلك الأطروحة الجامعة بين المتناقضات، مروجا لدولة دينية ومدنية ولمشروع الإخوان في السلطة وللقيم الديمقراطية والحريات بنفس الوقت، مستوحاة جميعها من أدبيات مفكري اليسار الراديكالي الغربي، ما جعله يحتل مقعدا متقدما لدى دوائر هذا التيار في الغرب، مدافعا بمقولات رموزه عن أحقية الإسلام السياسي في تمثيل الشعوب العربية، ومجادلا بالمصطلحات والأفكار اليسارية الثورية عن نضال إسلامي ثوري مزعوم في مواجهة الثورات المضادة المدبرة من قبل أجهزة الدولة العميقة.
تدثرت جماعة الإخوان بعد هذا الطرح بتلك المصطلحات، وصار الخروج والتمرد الجهادي المسلح مرادفا للثورة، ورفض الشارع لحكم الجماعة ودفاع أجهزة الدولة عن نفسها وحماية الجيش للشعب الثائر ضد الإسلاميين مرادفا للثورة المضادة.
منح هذا الافتتان بين التيارين مزايا متبادلة، وسعت أجنحة يسارية لتعويض العزلة التي يعاني منها مجمل هذا التيار بعد أفول نجمه في أوائل تسعينات القرن العشرين عبر الاستفادة من الانتشار الجماهيري الواسع لتيار الإسلام السياسي.
الإسلاميون الذين أخفوا تأثرهم بالفكر الشيوعي واستثمار مقولاته، خاصة بعد الفشل الذي لازمهم مع تقوقعهم على أصوليتهم المغرقة في استنساخ النموذج الإسلامي القديم، نجحوا في احتلال مكانة اليساريين الجماهيرية عبر السيطرة على عقل وقلب البسطاء والمهمشين بعد أسلمة المقولات اليسارية وامتلاك المقدرة المادية على توفير خدمات صحية وتعليمية، فشلت في توفيرها الحكومات خلال تلك المرحلة.
في حين كانت الأحزاب اليسارية لا تقوى على تنظيم مظاهرة، كان المنظرون الإسلاميون يزعمون أنهم بديل للشيوعية بنسخة إسلامية لنصرة الفقراء والمستضعفين، وظن بعض اليساريين أن التقرب من القوى الإسلامية التي باتت تمتلك شبكة هائلة من المدارس والمستشفيات الخاصة والمساجد والأحزاب والمؤسسات الاجتماعية والخيرية، سيعيد لهم قوتهم بالشارع من خلال جمهورهم وسط الطبقات الدنيا في المجتمع.
حظي الإسلاميون عبر تلك التفاهمات بمفكرين ومنظرين غربيين داخل تيار اليسار الراديكالي ينفون عنهم طبيعتهم الفاشية الرجعية، ويروجون لهم لدى الحكومات والمؤسسات الغربية باعتبارهم البديل القادم كحركات تقدمية مناهضة للظلم الاجتماعي، ما عوض جماعة الإخوان عن عدم مقدرتها على التسويق لنفسها باستخدام شعارات الليبرالية والديمقراطية.
وجد قطاع من الناشطين والمفكرين داخل اليسار الراديكالي الغربي في الجماعات الإسلامية أداة تحقق ما لم تحققه حركات اليسار بالعنف والسياسة، وحل الإرهاب الإسلاموي الأخضر محل الإرهاب الأحمر الذي شاع خلال عقدي الخمسينات والستينات من القرن الماضي، حسب التوصيف الغربي والأميركي للحركات الشيوعية حينئذ، وهو ما خلق توظيفا متبادلا وضحت آثاره بقوة في الواقع العربي خلال العقد الأخير، ولم تظهر ملامحه في الساحة الأوروبية إلا مؤخرا عقب سقوط مشروع الإخوان في
مصر وانهيار خلافة داعش في سوريا والعراق.
التأثيرات العربية
لم تقتصر تأثيرات ما عُرف باليسارية الإسلامية التي احتضنها تيار اليسار الراديكالي الغربي على قناعات عدد من نشطاء ومفكري اليسار العرب، سواء من انضم منهم للإسلام السياسي حفاظا على استمراريته في المشهد كمفكر إسلامي أو قائد سياسي، أو من ساق منهم المبررات لعنف الجماعات الجهادية واصفا قادتها بالمناضلين داخل إطار من المصالح المتبادلة.
انتقلت العلاقة إلى مستوى التنسيق السياسي، كما وضح في مشاركة كيانات يسارية مصرية لجماعة الإخوان في فعاليات التظاهر وقت جرى تصنيف الجماعة كتنظيم إرهابي في مصر وعدد من الدول العربية.
جزء من اليسار في المغرب، خاض تجربة التحالف مع فصائل إسلامية، كتحالف العدالة والتنمية ذي التوجه الإسلامي، والتقدم والاشتراكية ذي التوجه اليساري، وتحالفَ يساريون مغاربة مع جماعة العدل والإحسان تحت عنوان حركة 20 فبراير، قبل أن تنسحب الأخيرة منها، ضمن محاولات لنقل تجارب تقارب جماعة الإخوان في مصر مع اليسار الراديكالي وحركة النهضة في تونس من الجبهة الشعبية اليسارية.
فشلت جُل هذه التحالفات نتيجة انتهازية الإسلاميين الذين يعملون وفق خطة موحدة، مؤداها توظيف التيار اليساري تكتيكيا ومحاصرته إستراتيجيا بغرض الخروج بأقصى استفادة من جهوده، ريثما يقضون عليه وعلى مشروعه التحرري تمهيدا لانفرادهم بالسلطة.
الانبهار في البداية بشعارات إسقاط النظام قاد كيانات يسارية عراقية لا تملك نفس قوة الإسلاميين في الشارع، إلى الوقوع ضحية انتهازية الإسلام السياسي، وظلت تبحث لها عن قدم في العملية السياسية دون جدوى.
جميع التجارب، في مصر وتونس والمغرب والعراق، وقعت تحت تأثيرات أطروحات اليسار الغربي الداعية للتحالف والتقارب بين اليسار والإسلاميين، الذين تجمعهم كراهية السلطة خاصة الحكومات الملكية وكذلك حلم الوصول للحكم، وجميعها لم تأخذ العبرة من التجربة القاسية لحزب توده اليساري الإيراني الذي ساند الثورة الخمينية عام 1979، ما انتهى بغدر قادة الثورة الإسلامية وإعدام غالبية قادة التيار اليساري.
انتهازية على المحك
“مع الإسلاميين أحيانا وضد الدولة دائما”، تبدو هذه العبارة التي صاغها وكررها عدد من مفكري اليسار الراديكالي الغربي بمثابة برنامج العمل لتأسيس جبهة متحدة وفق شعار ليون تروتسكي “السير منفردين والضرب معا”، ما يعني إمكان حفاظ الكيان اليساري على استقلاليته وقراره الخاص وأيديولوجيته، في الوقت الذي ينخرط فيه ضمن جبهة ثورية واحدة مع تيار الإسلام السياسي لتحقيق أهداف مشتركة في مواجهة الأنظمة والحكومات القائمة.
من المرجح أن يُعاد سيناريو هرولة الأجنحة اليسارية العربية للتقارب مجددا مع جماعة الإخوان، وتيار الإسلام السياسي عموما، مع صعود الديمقراطيين للسلطة بالولايات المتحدة الأميركية، دون التعلم من دروس المرحلة السابقة التي استغل فيها الإسلاميون التيار اليساري باعتباره كيانا مساعدا يدفع بشبابه لمقدمة المسيرات والمظاهرات ليتسنى لهم وصفها بالمدنية السلمية.
ستحرص جماعة الإخوان على الاستفادة من الدعايات التي يروجها نشطاء اليسار بالداخل العربي، وفي أوروبا وأميركا، بشأن تبرئة الإسلاميين من الإرهاب والعنف، وتقديمهم في صورة ضحايا استبداد الدولة.
اشتراك التيارين في الاعتماد على قضايا حقوق الإنسان يجعلهما أكثر استعدادا لتطوير نشاطاتهما خلال المرحلة المقبلة، وفق المعادلة التقليدية التي تعمل مع بدء مباشرة الإدارات الديمقراطية مهامها، حيث يطرح اليسار الراديكالي الغربي أفكاره التي يجري ترجمتها من خلال تقارير هجومية عن طريق الإعلام والمنظمات الحقوقية، ما يمنح جماعة الإخوان الفرص للضغط والابتزاز وتحقيق المكاسب السياسية.
ما يحول دون تحقق خطط الإسلاميين واليساريين ويقلل من جدوى تلك النشاطات تراجع سمعة التيارين اليساري والإسلامي في الداخل العربي، نتيجة تركيزهما على المظاهرات والحشد الجماهيري دون العمل السياسي والحزبي، علاوة على العنف الذي تورطت في ممارسته جماعة الإخوان، ما أدى إلى فقدانها حاضنتها الشعبية، مكررة سيناريو انحسار المد اليساري في أوائل التسعينات.
بعد وصول تأثير علاقات اليسار الراديكالي بقوى التطرف والتكفير الإسلامي إلى قلب أوروبا، وهو ما استدعى البدء في دراسة أبعادها وأصولها وتعقب كوادرها ورموزها وفق ما صرحت به وزيرة التعليم العالي بفرنسا، باتت نشاطات المنظرين والمفكرين الغربيين تحت المراقبة ما يعني إمكانية تأثر استغلال الإسلام السياسي للمنظمات والمؤسسات الغربية اليسارية.
شروع الحكومات الغربية في تفكيك التحالفات والتشبيكات الفكرية بين اليسار الراديكالي الغربي وتيار الإسلام السياسي من شأنه كشف أزمة قادة اليسار الغربي، الذين حرصوا طوال السنوات الماضية على تطبيق تصوراتهم الخاصة بالدفع إلى إسقاط الأنظمة وإزاحتها وجعل الحكومات بلا سيادة داخل المنطقة العربية بجهود الجماعات المتطرفة، بعد ارتداد أثر تلك التنظيرات والمناهج إلى العمق الأوروبي.
عن "العرب" اللندنية