النصر المتخيل وأوهام القوة لدى الإسلام السياسي: نموذج حماس وإيران في حرب غزة

النصر المتخيل وأوهام القوة لدى الإسلام السياسي: نموذج حماس وإيران في حرب غزة

النصر المتخيل وأوهام القوة لدى الإسلام السياسي: نموذج حماس وإيران في حرب غزة


17/02/2025

الإيديولوجيا، طول الوقت، لها آليات اشتغالها الخاصة بين مجموعاتها، وتقوم على فكرتين؛ تحقيق الطاعة، ثم تشويش العقل، أو بالأحرى تشويهه، تجاه رؤية الواقع؛ بالتالي تنجح في أن تباعد بين حواضنها والمحيط الخارجي، الاجتماعي والسياسي، وعزلهم، قسراً، كما تتسبب حتماً في العجز عن مراجعة الأحداث ونقد السياسات والتدقيق في المواقف.

والإسلام السياسي ضمن الإيديولوجيات التي تتحرى فرض حمولاتها ومقولاتها وبناء تصوراتها حول الحوادث التاريخية، بما يؤدي إلى تغييب الحقيقة، وتحويل المعرفة إلى وسائط إكراه مباشرة لتحقيق مصالح براغماتية، مؤقتة أو استراتيجية. فتعميم حقائق مؤدلجة إنّما لخدمة رؤية سياسية محددة، وتعويم طبقة في الحكم والسلطة، تحتمي بامتيازاتها ومصالحها، بينما تتولى إدارة هذه المناورات بإرادة القوة الخشنة جنباً إلى جنب مع هيمنة جهازها المفاهيمي، ووسائل الدعاية والتوجيه. أثناء الدفعة الثانية لتبادل الأسرى بين إسرائيل وحركة حماس، كان لافتاً مشهد استعراض القوة، المقصود والمتعمد، ليتماهى مع سردية النصر والتفوق على "العدو" التي أعلنت عنها القوى المنخرطة في "محور المقاومة" سواء في غزة أو "جبهة إسنادها" في لبنان.

غير أنّ مشهد توزيع الحلوى في غزة، رغم الوضع المأساوي (نزوح وتهجير وتدمير البنية التحتية للقطاع)، الذي تسببت فيه مغامرة حماس العسكرية، ودفع ثمنه المدنيون، بينما وضع الإقليم كله على الحافة في ظل معادلات تغيير جيواستراتيجية وأمنية عنيفة، لا يؤشر فقط إلى انعزال عن العالم، أو جمود في المشاعر، أو استعمال البشر والمنازل المتهدمة في نقل عدوى الموت والقبول بالعنف والترويج له، بل الاحتفاء بانتشاره كأنّه سبيل المرور لـ "النصر الإلهي"، إنّما ذلك كله مع رغبة في التأكيد على الطابع الانتحاري للقوى الفصائلية. ولا يكاد يختلف ذلك عن انتشار الدراجات النارية التي حملت أعلام حزب الله وشعارات طائفية، نهاية الشهر الماضي كانون الثاني (يناير)، بغرض استفزاز البيئات المعارضة لحزب "الولي الفقيه" في لبنان. في حين يتبنّى الأخير سردية النصر المتوهم ذاتها.

الإسلام السياسي ضمن الإيديولوجيات التي تتحرى فرض حمولاتها ومقولاتها وبناء تصوراتها حول الحوادث التاريخية، بما يؤدي إلى تغييب الحقيقة

لم يتردد حزب الله في أول بياناته بعد دخول الهدنة حيز التنفيذ بالقول إنّ "المقاومة تمكنت من تحقيق النصر على العدو الواهم". وقال الأمين العام للحزب نعيم قاسم: "قررت أن أعلن كنتيجة بشكل رسمي وواضح أننا أمام انتصار كبير يفوق الانتصار الذي حصل في تموز (يوليو) 2006". وأضاف: "انتصرنا لأننا منعنا العدو من تدمير حزب الله، انتصرنا لأننا منعناه من إنهاء المقاومة أو إضعافها إلى درجة لا تستطيع معه أن تتحرك". 

والموقف ذاته جاء على لسان رئيس حركة حماس في الخارج خالد مشعل، الذي قال: إنّ حماس انتصرت على إسرائيل، لأنّ الأخيرة أخفقت في القطاع على مر عام كامل رغم أنّها حققت إنجازات ضد إيران وحزب الله. واعتبر خسائر "الشعب الفلسطيني" في القطاع "تكتيكية" بينما خسائر إسرائيل "استراتيجية". لكنّ الموقف الحمساوي استفزّ الرئاسة الفلسطينية، فعقب عليه محمود الهباش مستشار الرئيس الفلسطيني، وقال: إنّ "الشعارات الكاذبة لن تحقق مصلحة أو تحمي مواطناً"، وفي تصريحات لـ (العربية) اتّهم إيران بالمتاجرة بالقضية الفلسطينية، مؤكداً عدم دعمها للفلسطينيين إنّما المتاجرة بدمه فقط. وتابع: "حماس فضلت التحالفات الخارجية على المصلحة الوطنية. أولويتنا وقف الحرب وليست المتاجرة بالدم الفلسطيني".

وقال الهباش: إنّ "هجوم 7 تشرين الأول (أكتوبر) جعل رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو في وضع أفضل"، مشدداً على أنّ الانتصار الحقيقي يكمن في حماية الشعب الفلسطيني، وأنّ "من لا يريد الوحدة أو المصالحة يخدم مصالح نتنياهو".

ونجد دائماً في خطابات الهزيمة، خصوصاً لدى الجماعات الإيديولوجية، هذا الطرح المفارق للواقع. البحث عن المظلومية يكون معراج هذه القوى للهروب من وطأة الأزمة. فالمقاربة النفسية تحقق دورها الوظيفي لرؤية الحدث من زاوية صراع الآخر في التاريخ بين فئة مؤمنة تملك تفويضاً إلهيّاً، وأخرى كافرة وهالكة حتماً. وبطبيعة الحال تكون الأولى أمام حتمية أخرى للنصر و"الوعد الإلهي" لجماعتها، لذلك كان خطاب حزب الله ومجموعاته قائماً على عنونة الصراع بالتاريخ الكربلائي لتحريك المتخيل الشيعي. 

إنّ وهم النصر وإنكار الواقع والحقيقة يكاد يكون متلازمة سياسية مستمرة في واقعنا المرير، ولهذا لم يكن مثيراً للدهشة خطاب نعيم قاسم الذي باغت فيه الجميع، وعدّ وقف إطلاق النار بمثابة انتصار. هذا الخطاب يتخطى أو بالأحرى يدوس على فصل كامل مؤلم من حرب دفع ثمنها المدنيون في لبنان، ومن حاضنة الحزب الذي عمد لعسكرة الطائفة، وتحويلهم لرهائن، وذلك بالدرجة نفسها التي جعل فيها من لبنان ساحة لنفوذ طهران وتبعية تامة لـ "الولي الفقيه". وهي محاولة ربما لن تنجح في ترميم حجم الخراب والتدمير الذي شهدته المناطق اللبنانية، أو تحقق نتائج عملية، مع رغبة الدولة ومؤسساتها في لبنان التعافي من مرحلة "اتفاق مار مخايل" المشؤوم. 

كما أنّ مسافة قد حدثت بين حزب الله والحاضنة الشيعية التي تمردت منذ أعوام على سياساته، وتبحث منذ انتفاضة تشرين الأول (أكتوبر) عام 2019 عن طبقة سياسية جديدة، وتخطي مرحلة الطائف، بما اشتملت عليه من واقع لا يستفيد منه سوى ملوك الطوائف. وهذه المسافة التي حدثت راكمتها التناقضات التي فضحتها السياسة وتباين مواقف إيران من حرب غزة في مقابل مواقف وكلائها. وبينما كان الوكلاء المحليون يسعون إلى استمرار الحالة التعبوية، والبحث عن شهداء الله الجدد، في مسيرة كفاحية متخمة بالإيديولوجيا والأسطوري ترقى إلى التضحية بالذوات لحساب لا شيء، فإنّ نظام المرشد الإيراني يلملم أوراقه للتفاوض ويلحّ على التعاطي بـ "عقلانية" مع إسرائيل وعدم الانجرار إلى حرب. 

مسافة قد حدثت بين حزب الله والحاضنة الشيعية التي تمردت منذ أعوام على سياساته

بالتالي، الحديث عن "المقاومة" دعاية أكثر منه حقيقة وسياسة عملية. مجرد تكتيك لإدارة مصالح خفية والتعمية على علاقات دافئة في العمق حتى مع إسرائيل من دون نفي توترات في لحظات معينة. وهذا ينطبق على تنظيمات الإسلام السياسي في نسختها السنّية أو الشيعية. كل منهما له أدوار وظيفية مؤقتة. فحزب الله الذي تشكل بتسميته الراهنة عام 1985، فتعددت أسماؤه بين حزب الدعوة ومجلس الشورى، أي قبل الاجتياح الإسرائيلي للبنان بنحو (3) أعوام، كان عبارة عن مجموعة ميليشياوية تنتمي بالكليّة إلى إيران "الولي الفقيه"، بينما يتولى عمليات مسلحة إرهابية مثل مشاركتهم في الحرب ضد العراق عام 1980، وتفجير السفارة العراقية في بيروت، والأخير قضت فيه زوجة الشاعر السوري نزار قباني الدبلوماسية العراقية بلقيس الراوي، ووثق في مرثية جانباً من الحقيقة، وقد ألمح إليها عندما كتب في قصيدة حملت اسمها:

 "سأقول في التحقيق:
إنّ اللص أصبح يرتدي ثوب المقاتل
وأقول في التحقيق:
إنّ القائد الموهوب أصبح كالمقاول...

في وثيقة الحزب التأسيسية المعنونة بـ "الرسالة المفتوحة للمستضعفين"، ليست هناك ثمة إشارة لفكرة المقاومة، نظرياً أو عملياً وسياسياً، إنّما توسيع نفوذ طهران السياسي والإيديولوجي، وتشكيل قاعدة في واحدة من ارتكازاتها الجيوسياسية. وبحسب الوثيقة التي جاء فيها: "نلتزم بأوامر قيادة واحدة حكيمة عادلة تتمثل بالولي الفقيه"، عمل مقاتلو الحزب على تنفيذ سياسات طهران التقليدية، ليس على مستوى خطف الرهائن الأجانب، والتي سبق أن حققت لها نتائج في مفاوضتها مع الغرب وواشنطن (فضيحة إيران غيت)، إنّما العداء للرموز الوطنية وخاصة اليسارية والشيوعية، وتصفيتها، مثل حسين مروة ومهدي عامل. فيما ظل هذا السلوك محايثاً للحزب وامتدت ضحاياه بعد "انتفاضة تشرين" قبل أعوام قليلة، وقضى بكاتم الصوت الكاتب والناشر اللبناني لقمان سليم. والأخير كان ضمن لائحة عرفت بـ "شيعة السفارة"، التي ضمت شخصيات لبنانية، سياسية وثقافية وصحافية، ووصمها بـ "العمالة" توطئة لاغتيالها المعنوي قبل قتلها من دون مساءلة.

حتى حرب تموز (يوليو) عام 2006، بعيداً عن ضجيج الدعاية التي صنعها الحزب وأجهزته، كانت في حقيقتها مناورة لتحرير القيادي بالحزب سمير القنطار، بعد فشل المفاوضات مع إسرائيل، وتم خطف جنود إسرائيليين كمحاولة للضغط. وقال حسن نصر الله نفسه في حوار مع صحيفة (الحياة اللندنية): إنّه لم يكن يتوقع واحد بالمئة أن تؤدي عملية خطف الجنود كرهائن لحرب بهذا الحجم (1200) قتيل لبناني و(4400) جريح، فضلاً عن تدمير (78) جسراً و(28) ألف منزل، و65% من البنية التحتية اللبنانية. لكنّ الحرب التي دمرت لبنان كانت فرصة لإيران لتراكم نفوذها، وتحقق مصالحها الاقتصادية عبر "الهيئة الإيرانية للمساهمة في إعمار لبنان"، والفوز بصفقات إعادة الإعمار بالضاحية وبرج البراجنة وحارة حريك. 




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية