الميليشيات في زمن الفوضى

الميليشيات في زمن الفوضى


06/06/2021

محمود حسونة

استقرت الفوضى في بعض الدول العربية بعد أن تمكنت الميليشيات من خلخلة الاستقرار ودفن الأمن ونشر الخوف وإخراس الألسن، وإذا كانت الولايات المتحدة في زمن جورج بوش الابن قد وعدتنا بفوضى «خلاقة» على لسان وزيرة الخارجية سيئة الذكر كونداليزا رايس، فإن الميليشيات أرادتها هدامة، وباعتبارها جهة التنفيذ فقد استطاعت أن تفرض إرادتها وإرادة صانعيها ومشغليها ومموّليها غير المعلنة، وتجعلها هدامة للدول ومدمرة للمدن وقاتلة للبشر، سواء الذين أزهقت الميليشيات أرواحهم، أو أولئك الذين تركتهم أحياء، وهم يعلمون أن الأموات أفضل حالاً منهم، بعد أن تمكن منهم الرعب ونال من إنسانيتهم الذعر الذي تزرعه الجماعات المسلحة في أكثر من بقعة عربية. 

خلال العقدين الأخيرين نجحت الميليشيات في تغيير ملامح منطقتنا، وبعد أن كانت محدودة الوجود حتى نهاية القرن العشرين، حيث كان المصطلح لا يطلق إلا على بعض القوى المتقاتلة في لبنان خلال الحرب الأهلية، وفي السودان وفي الصومال والميليشيات الدينية في بعض الدول العربي، أصبحت (بعد الاحتلال الأمريكي للعراق) كثيفة الوجود، وازدادت عدداً وعتاداً في بعض الأقطار العربية خلال العقد الأخير، للدرجة التي تجعلنا نُفاجأ من وقت لآخر بميليشيات جديدة تظهر، لتزاحم السابقات عليها قتلاً وتخريباً ونشراً للخوف، وليس أمامنا إلا تصديق ما أورده تقرير إعلامي لإحدى المحطات الإخبارية العربية قبل أشهر من ظهور 9 ميليشيات جديدة في العراق خلال 10 أشهر فقط!. 

لعل إعلان الحاكم الأمريكي للعراق بول بريمر، بعد الاحتلال عام 2003 عن تفكيك الجيش وتسريح عناصره، كان بمثابة إعلان رسمي عن بدء زمن الميليشيات، واليوم أصبحت المصالح الأمريكية والجنود الأمريكيون هدفاً للميليشيات التي صنعها قرار حل الجيش العراقي وبشرت بها رايس المنطقة برمتها. 

ومع إسقاط أو إضعاف الجيوش في أكثر من بلد عربي عقب ما أسموه «الربيع العربي»، بدأت الميليشيات تنتشر في الأرض العربية وتنشر الخوف بين أهلها، وتجعل أعزة أهلها أذلة في زمن الإذلال والهوان العربي، فمن يهن عليه الرقص فرحاً بسقوط جيش بلاده، يهن عليه التفريط في أمنه وأمان أهله، ولم يعد عصياً على أحد استيعاب أن الجيوش هي الضمان الأوحد لاستقرار وقوة الدول، وأن الميليشيات هي الوكيل الرسمي للفوضى والموت والخراب، ولا يمكن أن تجد أرضاً خصبة لتكاثرها وانتشارها وفرض سطوتها إلا في ظل غياب الجيوش الوطنية أو ضعفها. 

الميليشيات في العراق، أصبحت ملء السمع والبصر، تسعى لأن يكون صوتها أعلى من صوت الدولة، وسطوتها كالسيف على رقبة الحكومة، وسلاحها مسلط كل الوقت على رقاب الناس. والأسبوع الماضي كانت بغداد على موعد مع حلقة جديدة من مسلسل التجاوز «الميليشياوي» في حق الدولة عندما انتشرت ميليشيات الحشد الشعبي في بغداد مهددة الحكومة ومتوعدة الدولة، ومطالبة بالإفراج عن أحد قيادييها الذي اعتقلته قوة أمنية لمحاكمته بتهمة قتل المتظاهرين، حاولت الميليشيات كسر هيبة الدولة، ولكن رئيس الحكومة صمد ولم يرضخ للتهديد وأصر على أن ينال كل مخطئ عقابه، مهما كان الثمن، ولكن أمام التهديدات المتتالية والاستعراضات المسلحة والجرائم التي ترتكبها هذه الميليشيات، هل سيحافظ الكاظمي وغيره من كبار المسؤولين في العراق على الصمود؟ 

نتمنى أن تصمد الحكومة العراقية وأن يعي مسؤولوها أن الاستجابة لما يمارس عليهم من ضغوط لمرة واحدة، ستكون بمثابة كتابة شهادة وفاة للدولة وسلطتها، وللقوى الأمنية وسطوتها وللجيش وهيبته. 

الميليشيات في العراق استهدفت الحراك الشعبي عندما صرخ في وجهها وقتلت عدداً من ناشطيه، واستهدفت الدولة مراراً، والهدف هو ألا يتقدم العراق خطوة إلى الأمام، ويظل الفساد جاثماً على صدره، والانفلات سائداً في ربوعه، ويظل الاستقواء بالخارج قانوناً يتحكم فيه، ولن تقوم للعراق ولا لغيره من الدول العربية التي تعاني وباء الميليشيات قائمة، إلا بالوقوف في وجهها وتجريدها من سلاحها بقوة القانون وبقوة الدولة، وعدم السماح بالتسلح لأي فصيل أو حزب أو جماعة، حتى تسطيع بلادنا العربية المقيدة والمشلولة أن تفك قيود الميليشيات وتنفض غبار الفوضى وتحاصر قوى الإرهاب، وتخطو إلى المستقبل واثقة الخطى لتتجاوز هذه الحقبة الرديئة من التاريخ العربي.

عن "الخليج" الإماراتية

الصفحة الرئيسية