
ما يزال تنظيم داعش يمثل أحد الأعباء الأمنية والسياسية، خاصة في الغرب؛ حيث إنّ التنظيم الإرهابي ضمّ بين صفوفه أعداداً ليست بالقليلة من المقاتلين الأجانب الذين تدفقوا من عواصم مختلفة، عربية وآسيوية وأوربية. فمنذ هزيمة التنظيم الإرهابي على يد قوات "قسد" بالتعاون مع التحالف الدولي، والقضاء على آخر جيوبه في الباغوز بشمال شرق سوريا، صعد ملف عودة المقاتلين إلى بلادهم ومحاكمتهم، الأمر الذي يبرز تعقيدات قانونية وحقوقية عديدة، فضلاً عن المخاطر الأمنية، وإمكانية إعادة دمج العناصر، مرة أخرى، بمجتمعاتهم المحلية. وقد سبق للأمم المتحدة أن أوضحت وجود "ما يزيد على (40) ألف مقاتل أجنبي، قدموا من (110) دول، دخلوا سوريا والعراق للانضمام إلى جماعات إرهابية".
لغة الأرقام
وثقت دراسة للمركز الدولي لدراسات التطرف التابع لـ "كينجز كولدج" في بريطانيا، مدعومة بالبيانات الرسمية والأكاديمية ومن مصادر أخرى، أنّ عدد الأجانب في صفوف التنظيم الإرهابي تحديداً يبلغ (41490) شخصاً، بواقع (32809) من الرجال، و(4761) امرأة و(4640) طفلاً، من (80) دولة. وخلص الباحثون إلى أنّ (18852) من هؤلاء الأجانب قد وفدوا من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، و(7252) من شرق أوروبا، و(5965) من آسيا الوسطى، و(5904) من أوروبا الغربية، و(1010) من غرب آسيا، و(1063) من جنوب شرق آسيا، و(753) من الأمريكيتين وأستراليا ونيوزلندا، فضلاً عن (447) من جنوب آسيا، و(244) من جنوب الصحراء الكبرى. ويبلغ عدد الأجانب الملتحقين بتنظيم الدولة من المملكة المتحدة قرابة (850) شخصاً، منهم (145) امرأة و(50) طفلاً.
وقد سبق لكين مكالوم، رئيس جهاز الاستخبارات البريطاني "MI5"، أن صرّح بمخاطر تنظيمي داعش والقاعدة على المملكة المتحدة. وألمح إلى الخطر المتزايد للتخريب المدعوم من روسيا وإيران، وأضاف أنّ التوترات في الشرق الأوسط قد تؤدي إلى عمل إرهابي في بريطانيا. وتابع: "إنّ هذه الأفعال الخطيرة التي يتم تنفيذها بتهور متزايد تؤدي على وجه التحديد إلى التأثير المعاكس لما تنوي الدولة الروسية القيام به في دفع عملية تنسيق عملياتية متزايدة مع الشركاء في جميع أنحاء أوروبا وخارجها".
أزمة في بريطانيا
إذاً، عاود ملف المقاتلين الأجانب حضوره لدائرة النقاش في بريطانيا، مؤخراً، بالتزامن مع المخاوف التي ألمح لها برلمانيون، إثر عودة أكثر من (400) مقاتل بريطاني من تنظيم داعش الإرهابي إلى المملكة المتحدة من دون أن يواجهوا المحاكمة. وقد أثار ذلك نقاشات حادة على خلفية المخاطر الأمنية القائمة، والتحديات المتمثلة في إمكانية تحقيق العدالة، وتوافر المعلومات والأدلة لمحاكمة الإرهابيين.
فقد انضم حوالي (850) بريطانياً، كما سبقت الإشارة، إلى صفوف تنظيم داعش الإرهابي، وتورطوا في جرائم حرب وخروقات ضد الإنسانية، شملت القتل والتعذيب والسبي والإبادة العرقية. وتشير مصادر صحفية بريطانية إلى أنّ أحد أبرز التحديات التي تواجه السلطات البريطانية، هو صعوبة جمع الأدلة الكافية لملاحقة هؤلاء العائدين قضائياً. فعلى الرغم من أنّ القانون البريطاني يجرم الانضمام إلى جماعات إرهابية، إلا أنّ إثبات التورط في أنشطة إرهابية خارج البلاد يتطلب أدلة قوية، غالباً ما تكون غير متاحة بسبب تعقيدات النزاع في مناطق مثل سوريا والعراق.
وقال اللورد ألتون، رئيس اللجنة المشتركة لحقوق الإنسان: إنّ الحكومة لا يمكنها "غسل يديها" من الجرائم التي ارتكبها هؤلاء الأفراد في الخارج، مؤكداً على ضرورة محاسبتهم داخل المملكة المتحدة. كما شدد روبرت جينريك، وزير العدل في حكومة الظل، على أنّ هؤلاء الإرهابيين فقدوا حقهم في العيش في المملكة المتحدة، ويجب سجنهم لحماية المدنيين. وعقّبت الحكومة البريطانية بأنّ سلامة وأمن المواطنين هي أولويتها القصوى. وقد صرّح ناطق بلسان الحكومة البريطانية أنّ بلاده ملتزمة بتحقيق العدالة لضحايا جرائم داعش، وأنّهم سيأخذون نتائج تقرير اللجنة المشتركة لحقوق الإنسان بعين الاعتبار.
وأعلنت اللجنة البرلمانية المشتركة لحقوق الإنسان أنّه لم تتم محاكمة أيّ من عناصر داعش الذين يزيد عددهم عن (400)، الذين عادوا إلى المملكة المتحدة، على جرائمهم. ودعت اللجنة الحكومة إلى اتخاذ خطوات لضمان إمكانية محاكمتهم في المحاكم البريطانية، بدلاً من العراق أو سوريا حيث وقعت الجرائم. وقد جاء في تقرير اللجنة: "حيثما تتمتع المملكة المتحدة بالولاية القضائية على الجرائم الدولية، ينبغي عليها السعي للتحقيق في هذه الجرائم ومقاضاة مرتكبيها".
وقال رئيس اللجنة المشتركة لحقوق الإنسان في المملكة المتحدة: "لا يُمكن للمملكة المتحدة التغاضي عن هذا الأمر لمجرد وقوعه في الخارج. نعلم أنّ مواطنين بريطانيين ارتكبوا أفظع الجرائم في العراق وسوريا في ظل نظام داعش، وعلينا واجب تقديمهم للعدالة. وحتى الآن لم يُحاكَم أيٌّ من مقاتلي داعش بنجاح بتهمة ارتكاب جرائم دولية في المملكة المتحدة، ونحن نرى هذا الأمر غير مقبول".
مع ذلك، تشير الصحافة البريطانية إلى أنّ عدداً قليلاً فقط من العائدين قد تمّت محاكمتهم. ففي عام 2019 ذكرت الحكومة أنّ حوالي (40) فرداً قد تمّت إدانتهم بجرائم تتعلق بأنشطتهم في سوريا.
حتمية التعاون الدولي
ويقول الباحث المصري المختص في قضايا الإسلام السياسي، الدكتور عبد السلام القصاص: إنّ سياسات الدول في التعامل مع ملف عودة المقاتلين الأجانب المنضمين لصفوف داعش تحمل تباينات عديدة، لافتاً في حديثه لـ (حفريات) إلى ضرورة "وجود تعاون مختلف مع شركاء دوليين وخبراء حقوقيين وفي ملف الإرهاب، لجهة مراجعة الأطر القانونية لتحقيق العدالة في هذه القضية المعقدة، بالتباساتها العديدة، لا سيّما مع غياب أو بالأحرى عدم إنجاز آلية للتوصل ثم التحقق من المعلومات. فينبغي تحديث القوانين لتسهيل محاكمة الأفراد الذين انضموا إلى جماعات إرهابية، حتى في حال عدم توفر أدلة مباشرة على مشاركتهم في أنشطة إرهابية".
ويقول القصاص: "يتعين تطوير برامج لإعادة تأهيل ودمج الأفراد الذين لم يثبت تورطهم في جرائم خطيرة، مع مراقبتهم عن كثب لضمان عدم عودتهم إلى التطرف. وتمثل عودة المقاتلين البريطانيين أكثر من مجرد تحدٍّ قانوني أو حقوقي أو سياسي، وإنّما هو كلّ ذلك، مع ضرورة الأخذ في الاعتبار ضمان سلامة السياسات والإجراءات التي تحقق العدالة، وتوافر الإمكانات بألّا يتحول هؤلاء إلى خلايا نائمة أو عدوى تنتشر على إثرها أفكار التنظيم، وينجذب لهم آخرون، كما يهدد وجودهم المدنيين. وفي ما يبدو هناك حاجة ملحة إلى تطوير استراتيجيات أكثر فعالية للتعامل مع هذا التهديد المتنامي، والتوازن بين حماية الأمن القومي والاعتبارات الحقوقية".
ويختتم الباحث المختص في قضايا الإسلام السياسي قائلاً: إنّ عواصم غربية تئن من جراء الهجمات الإرهابية التي لا تتوقف، وتفشي ظاهرة الذئاب المنفردة، لا سيّما في ظل صعود اليمين المتطرف الذي يقابله تفشي الإرهاب الإسلامي. ويقول: "وُصف عام 2017 بأنّه عام الإرهاب، على خلفية الهجمات الدموية التي شهدتها بريطانيا بداية من مطلع السنة في هجوم جسر وستمنستر، ودهس المدنيين بسيارة، وطعن شرطي. ومنذ عام 2022 حذّرت أجهزة الاستخبارات من تزايد التطرف اليميني، لا سيّما بين المراهقين عبر الإنترنت، وتصاعد التحريض على العنف عبر وسائل التواصل الاجتماعي. كما برزت محاولات استخدام الذكاء الاصطناعي والمنصات مثل (تلغرام)، في التجنيد والتخطيط، ممّا دفع الأجهزة الأمنية لتحديث وسائلها وتكتيكاتها؛ إذ إنّ هناك موجة معقدة من الهجمات الإرهابية، اتخذت أشكالاً تتراوح بين تفجيرات انتحارية، وطعنات بالسكاكين، وعمليات دهس عشوائية، وهجمات الذئاب المنفردة".