بهاء محمود
أعلنت وزيرة التجارة الدولية في المملكة المتحدة آن ماري تريفيليان في 22 يونيو 2022 عن إطلاق مفاوضات التجارة الحرة مع مجلس التعاون لدول الخليج العربية. وتُعوّل المملكة المتحدة عقب خروجها من السوق الأوروبية الموحدة، وفقدانها المزايا الاقتصادية الأخرى لعضوية الاتحاد الأوروبي، على عقد شراكات تجارية مستقلة تُمكّنها من مواجهة خسائر "بريكست"، لذا ترغب المملكة المتحدة في أن تغطى اتفاقيات التجارة 80% من تجارتها عبر الحدود، وتتطلع إلى مجلس التعاون الخليجي كسوق رئيسي يساهم في تحقيق هذا الطموح، لاسيما أن دول الخليج العربية تُعد سابع أكبر سوق للصادرات البريطانية، حيث بلغ إجمالي التجارة بينهما في عام 2021 نحو 33.1 مليار جنيه إسترليني.
مفاوضات التجارة الحرة: المسار والأبعاد
تم تدشين الخطوة الأولى في مسار مفاوضات التجارة الحرة بين "المملكة المتحدة لبريطانيا العظمى وآيرلندا الشمالية" و"مجلس التعاون لدول الخليج العربية" (الذي يضم ست دول) خلال زيارة وزيرة التجارة الدولية البريطانية آن ماري تريفيليان للرياض في 22 يونيو 2022، ولقائها الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي نايف الحجرف، واجتماعها مع وزراء التجارة في دول المجلس. وتُعد تلك الخطوة الثالثة في سياق إيجاد اتفاق تجاري بين الطرفين، فقد تمثلت الخطوة الأولى بإجراء الحكومة البريطانية مشاورات في شهر أكتوبر من العام الماضي مستطلعة آراء الخبراء ومجموعات المصالح، وجاءت الخطوة الثانية في يناير الماضي من خلال إجراء المشاورات بين الجانبين الخليجي والبريطاني.
وعلى إثر تلك الخطوات يمكن حصر أبرز النقاط المستهدفة في مفاوضات التجارة الحرة بين المملكة المتحدة ومجلس التعاون الخليجى كما يأتي:
خفض الرسوم الجمركية: ترغب بريطانيا في تقليل -أو إلغاء- الرسوم الجمركية التي تفرضها الدول الخليجية على السلع البريطانية، وبخاصة الأغذية والمشروبات التي بلغ حجم الصادرات منها في عام 2021 نحو 625 مليون إسترليني، في حين أن نسب الرسوم المفروضة على الصادرات البريطانية عامة تتراوح ما بين 5.5% و25%، ومن شأن تخفيض الرسوم على الأقل زيادة حجم الصادرات البريطانية وخفض تكلفتها.
دعم الاستثمار المتبادل: بلغ عدد الشركات الخليجية الناشطة في بريطانيا عام 2019 نحو 600 شركة، وفّرت حوالي 25 ألف وظيفة، فيما يقدر حجم الاستثمارات الخليجية في بريطانيا حتى عام 2020 حوالي 15.7 مليار جنيه إسترليني، في حين بلغت الاستثمارات البريطانية في منطقة الخليج 13.4 مليار جنيه إسترليني. ويعوَّل على اتفاقية التجارة الحرة لتزيد حجم الاستثمار المتبادل للطرفين، حيث تمهد الاتفاقية لاستثمار دول مجلس التعاون الخليجي في العديد من الصناعات البريطانية، مثل الطاقة المتجددة والبنية التحتية والتكنولوجيا، كما تمنح الاتفاقية المستثمرين البريطانيين وصولاً أكبر إلى السوق الخليجي.
دعم الابتكار والتجارة الرقمية: بلغت صادرات الخدمات الرقمية البريطانية إلى دول مجلس التعاون الخليجي عام 2019 حوالي 7.8 مليار جنيه إسترليني، وارتفعت هذه القيمة في عام 2020 لتصل إلى 9.3 مليار جنيه إسترليني. وتعزز اتفاقية التجارة الحرة فرص إنشاء مشاريع تجارية مبتكرة في مجالات التكنولوجيا الناشئة، والذكاء الاصطناعي، والأمن السيبرانى، وهو ما يدعم جهود التحول الرقمي في منطقة الخليج.
دلالات التوقيت ودوره
تأتي مفاوضات التجارة الحرة بين المملكة المتحدة ومجلس التعاون الخليجي بعد عامين وأكثر من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، لذا بدأت لندن، ورغم أزماتها منذ "بريكست" مع الاتحاد الأوروبي وعدد من دوله على خلفية قضايا الصيد والهجرة والوضع في أيرلندا الشمالية وغيرها من القضايا الخلافية، البحثَ عن خيارات جديدة وأسواق دولية أخرى تعوض السوق الأوروبي الذي يضم 500 مليون نسمة تقريباً.
تُعد منطقة الخليج أحد الخيارات المهمة لبريطانيا لعدة أسباب، من أهمها:
التأثير المتصاعد لدول الخليج عالمياً –قبل الأزمة الأوكرانية وبعدها- والعلاقات الوثيقة التي تربط بريطانيا بدول الخليج على المستوى الأمني والسياسي والاقتصادي.
تزداد أهمية منطقة الخليج كبوابة مهمة لمنطقة المحيطَين الهندي والهادي (الإندوباسيفيك) التي زادت أهميتها لدى بريطانيا بعد اتفاق "أوكوس"، لذا سوف تعزز اتفاقية التجارة الحرة بين دول الخليج والمملكة المتحدة مكانةَ الأخيرة في منطقة "الإندوباسيفيك" في ضوء سعيها إلى تعزيز علاقاتها بكل من أستراليا ونيوزيلندا عبر إقامة اتفاقات تجارة حرة معهما في عام 2021، بخلاف مفاوضتها الجارية مع الهند للوصول إلى اتفاق تجارة حرة معها، والسعي في النهاية إلى الانضمام لاتفاقية الشراكة الشاملة عبر المحيط الهادي (CPTPP).
تُعوّل الحكومة البريطانية في سعيها للشراكة الاقتصادية مع دول الخليج على إبراز قدرة بريطانيا بعد "بريكست" في عقد تحالفت كبرى تعزز مكانتها الاقتصادية من جانب، وكذلك محاولة لعب دور في منطقة الشرق الأوسط على خلفية الانسحاب الأمريكي المحتمل من المنطقة من جانب آخر؛ وفي الحالتين يلزم تعزيز العلاقات والروابط مع دول الخليج.
المكاسب لدول الخليج
تعزز اتفاقية التجارة الحرة بين المملكة المتحدة ومجلس التعاون الخليجي عدداً من الحوافز والمكاسب المحتملة للطرفين، فبالإضافة إلى إتاحة أكبر للأسواق، وزيادة حجم الاستثمارات المباشرة، وارتفاع قيمة التبادل التجاري بين الطرفين، يُمكن أن تستفيد دول الخليج من الحوافز الآتية:
المساهمة في التنويع الاقتصادي: تتجه دول الخليج إلى سياسة التنويع الاقتصادي والسعي إلى تقليل الاعتماد على عوائد النفط والغاز –التي تتعرض أحياناً لتقلبات في الأسعار تؤثر سلباً في موازنات الدول واقتصادياتهم- وذلك عبر الاستثمار في مجالات أخرى مثل الموانئ والتصنيع والاقتصاد الرقمي، وغيرها من المجالات. ومن المفترض أن تساهم الاتفاقية في دفع النمو الاقتصادي والتجاري لدول مجلس التعاون الخليجي، وتحفز القطاع الخاص للعمل في القطاعات غير النفطية مثل الكيماويات والملابس والخدمات المالية.
دعم الطاقة المتجددة: تتضمن صادرات بريطانيا إلى الخليج صناعات عالية التقنية، لاسيما تلك التي تتعلق بالتكنولوجيا الخضراء، مثل توربينات الرياح التي تفرض عليها دول الخليج رسوماً جمركية بنسبة 15%، لذا ترغب بريطانيا في أن تشمل الاتفاقية التجارية خفض هذه النسبة أو إلغائها، مقابل المساهمة في دعم خطط الدول الخليجية لتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري، واستخدام مصادر الطاقة المتجددة في توليد الكهرباء. ولعل أبرز مثال هنا هو سعى دولة الإمارات إلى توليد 50% من الكهرباء لديها من مصادرة متجددة بحلول عام 2050، وهو ما يلزمه تكثيف استخدام التكنولوجيا الداعمة للتحول الأخضر.
تأشيرات السفر: يرجح أن تتضمن المفاوضات مسألة تأشيرات السفر بين الجانبين البريطاني والخليجي، إذ إن حرية وصول المواطنين إلى الدول بدون تأشيرات من شأنه أن يزيل حاجزاً غير جمركي أمام التجارة الثنائية بين الدول. ولعل بريطانيا بدأت في تقديم حافز تأشيرات السفر مبكراً وقبل إتمام المفاوضات مع مجلس التعاون الخليجي، فقد أعلنت أنها ضمت دولة الإمارات إلى قائمة البلدان المؤهلة لنظامها الجديد لتصريح السفر الإلكتروني (ETA) بدايةً من عام 2023، وهو ما يعنى أن مواطني دولة الإمارات لن يحتاجوا مع مطلع العام المقبل إلى تأشيرة دخول إلى بريطانيا. ويمكن أن تمثل خطوة تعميم إعفاء مواطني الإمارات من تأشيرة الدخول لبريطانيا على بقية دول الخليج، أمراً إيجابياً في سياق المفاوضات التجارية بين مجلس التعاون الخليجي والمملكة المتحدة.
العقبات المحتملة
تستمر المفاوضات التجارية الثنائية بين الدول في العادة سنوات حتى لو كانت فيما بينها تحالفات سياسية أو أمنية، فلا يوجد على سبيل المثال اتفاقية تجارة حرة بين بريطانيا والولايات المتحدة، ولا بين الأخيرة والاتحاد الأوروبي. وثمة صعوبات واختلافات في الأنظمة الاقتصادية والتشريعية ومنظومة القيم بين الدول تُطيل في الغالب مسارات المفاوضات، وينسحب هذا الأمر على المفاوضات التجارية بين المملكة المتحدوة ودول الخليج كما يأتي:
صعوبات داخلية: تواجه دول مجلس التعاون الخليجي (ككتلة واحدة) صعوبات في مفاوضات التجارة الحرة؛ فعلى سبيل المثال هناك مفاوضات تجارية مع الصين منذ 2004 ولم تنتهِ حتى الآن، كذلك لم تُثمر مفاوضات التجارة الحرة بين الاتحاد الأوروبي والخليج، التي بدأت عام 1988، إلى الآن عن شيء. ويمكن القول إن دول مجلس التعاون الخليجي ليست متجانسة اقتصادياً، فبداية تختلف مراحل التنويع الاقتصادي من دولة إلى أخرى في المجلس، كما تختلف في الأولويات الاقتصادية، فضلاً عن تباين حجم القوة الاقتصادية والبيئات التنظيمية والضريبية (فعلى سبيل المثال تطبق السعودية والإمارات دون بقية دول المجلس ضريبة القيمة المضافة، كما أقرت الإمارات مؤخراً ضريبة خاصة على أرباح الشركات) وغيرها.
تعارض المصالح: تُظهر استراتيجيات التنويع الاقتصادي لدول الخليج الحاجة إلى سياسة التوطين، أي الميل نحو التوسع في الصناعات المحلية غير النفطية وتحفيز القطاع الخاص، الأمر الذي يجعل لدى الدول الخليجية تحفظات على منح الكثير من المزايا إلى الشركات البريطانية على حساب الشركات الوطنية والصناعات المحلية. فعلى سبيل المثال أطلقت الإمارات "مشروع 300 مليار" لزيادة مساهمة القطاع الصناعي في الناتج المحلي من 133 مليار درهم إلى 300 مليار درهم بحلول عام 2031، والذي من شأنه تشجيع زيادة الإنفاق العام على تطوير صناعات محلية جديدة وتوطين سلاسل التوريد. وبالمثل، دشنت المملكة السعودية برنامج "صنع في السعودية" في مارس 2021 وهو أحد جوانب "برنامج تطوير الصناعة الوطنية والخدمات اللوجستية". كما تفرض الدول الخليجية أيضاً حصصاً للتوظيف المحلي، أي الاستعانة بنسبة ثابتة من العمالة الوطنية، وهو ما تنظر إليه الشركات الأجنبية بوصفه عبئاً مالياً عليها، حيث تفرض مخططات توطين التوظيف على سبيل المثال تكاليف مالية جديدة مثل تكلفة تدريب العمالة غير الماهرة. مما سبق يتضح أن سياسات التوطين، التي هي لازمة لتحول دول الخليج إلى الاقتصاديات غير النفطية، تتعارض مع طموحات الشركات الأجنبية التي ترغب في بيئة تنافسية لا تتدخل فيها الدولة بنوع من أنواع السياسات الحمائية، مع العلم أن دولاً كبرى في الاتحاد الأوروبي قد شرعت في تبني سياسات مماثلة في مواجهة التمدد الصيني في أوروبا.
الاختلاف في القيم: يأتي ضمن أسباب تعثر مفاوضات التجارة الحرة بين الخليج والاتحاد الأوروبي تمسك الأخير بإدراج مشروطية حقوق الإنسان في مفاوضات الاتفاق التجاري. وعلى المسار نفسه، ثمة ضغوط تمارس على الحكومة البريطانية لوضع قضايا حقوق الإنسان، والنقابات العمالية، والتمييز بين الجنسين في العمل، ودعم المثلية، في مشروطية الاتفاق التجاري مع مجلس التعاون الخليجي. ولعل هذه الضغوط الغربية والبريطانية لا تبدو في معظمها منطقية، فعلى سبيل المثال ما علاقة اتفاقية التجترة الحرة بدعم المثلية؟ ولماذا تقترن قضايا التمايز في الأجور بين الجنسين بمفاوضات التجارة الحرة؟ بالرغم من قضية التمايز في الأجور بين الجنسين مازالت تثار في أوروبا ولم تنتهِ بعد، بل لا تزال هناك فجوة في الأجور بين الجنسين في كبرى الدول الأوروبية، ومنها بريطانيا التي تعاني حتى الآن من فجوة في الأجور بين الجنسين. ولعل تضمين الحكومة البريطانية للقيم السابقة في شروط المفاوضات مع دول الخليج قد سيصبح عائقاً في مسار الاتفاقية التجارية، وإن كان ثمة تقارير تتحدث عن احتمالية تغاضيها عن تلك القضايا الخلافية، وعدم طرحها على طاولة المفاوضات مع مجلس التعاون الخليجي.
آفاق المفاوضات الخليجية-البريطنية
تتوقف سير مفاوضات التجارة الحرة بين المملكة المتحدة ومجلس التعاون الخليجي على عدة عوامل، من أهمها آلية التفاهم على القضايا الخلافية السابقة، ومعالجة التحديات والعقبات المحتملة، ومنها تلك المرتبطة ببيئة العمل في الخليج، وبخاصة ضبط عملية تعارض المصالح بين سياسات التوطين الخليجية وتعويل بريطانيا على تحقيق وصول أكبر إلى الأسواق الخليجية.
ومن المتوقع أن يرتفع طلب الدول الخليجية على السلع والخدمات الدولية بنسبة 35% في عام 2035، بما يعادل 800 مليار جنيه إسترليني (نحو 968.399 مليار دولار). في حين يتوقع تقرير بنك "ستاندرد تشارترد" الخاص بمستقبل التجارة في 2030، أن ترتفع صادرات السلع السعودية من 171 مليار دولار في عام 2020 لتصل إلى 354 مليار دولار في عام 2030، كما يتوقع التقرير نفسه أن تنمو الصادرات الإماراتية (خلال الفترة نفسها) من 166 مليار دولار إلى 299 مليار دولار، مع العلم أن الدولتين (السعودية والإمارات) تستحوذان على نحو 73% من إجمالي تجارة بريطانيا مع دول مجلس التعاون الخليجي.
وطبقاً لتحليل نشره قسم التجارة الدولية –التابع للحكومة البريطانية- حول نهج بريطانيا في التعامل مع مفاوضات التجارة الحرة مع الخليج، فإنه من المتوقع أن يزيد حجم التجارة بين بريطانيا ودول مجلس التعاون الخليجي بنسبة 16% حال وجود اتفاق تجارة حرة بين الجانبين. كما سوف يساهم الاتفاق أيضاً في إضافة نحو 1.6 مليار جنيه إسترليني سنوياً إلى الاقتصاد البريطاني، فضلاً عن دعم أجور العاملين في بريطانيا بما يتخطى قيمته 600 مليون جنيه إسترليني سنوياً. وطبقاً لنفس التحليل الحكومي فإن متوسط الرسوم السنوية على الصادرات البريطانية إلى دول مجلس التعاون الخليجي يبلغ نحو 525 مليون جنيه إسترليني سنوياً، بما في ذلك 65 مليون جنيه إسترليني فقط رسوم على صادرات السيارات.
لذا ليس من مصلحة المملكة المتحدة أن تتعثر مفاوضات التجارة الحرة مع مجلس التعاون الخليجي، مع الأخذ في الحسبان أن مسار المفاوضات بين الطرفين قد يسير وفق اتجاهين: الأول، وهو الأفضل لبريطانيا، أن تتم اتفاقية التجارة الحرة مع مجلس التعاون الخليجي خلال المدة التي أعلنتها وزيرة التجارة الدولية تريفيليان، في حدود عام ونصف العام، حتى لا تزيد خسائر بريطانيا بعد فقدانها ميزة السوق الأوروبية الموحدة، حيث تراجعت صادرات بريطانيا إلى الاتحاد الأوروبي في عام 2021 بقيمة 20 مليار جنيه إسترليني مقارنة بعام 2020 قبل تفعيل اتفاقية "بريكست"، على أن تجرى المفاوضات مع الجانب الخليجي في ضوء موقف موحد. وعلى الرغم من ذلك ونتيجة لاختلاف مراحل ومحاور التنويع الاقتصادي، والأولويات الاقتصادية بين دول مجلس التعاون، سوف يكون من الصعب التفاوض وفق وجهة نظر ورؤية خليجية موحدة. وهو ما يعنى أن تقبل بريطانيا بوجود اتفاقية تجارة حرة لا تحقق فيها كل المزايا المطلوبة والمُرضية لها، وذلك حتى تراعى أولويات كل دولة خليجية على حدة.
أما الاتجاه الثاني المتاح أمام بريطانيا فهو عقد اتفاقات تجارة حرة على المستوى الثنائي مع كل دولة خليجية على حدة، وهذا الاتجاه من شأنه أن يعيق الأهداف الجيوسياسية لبريطانيا في منطقة الشرق الأوسط، كما يحرم الشركات البريطانية من أفضلية أن تكون هناك تشريعات قضائية موحدة على مستوى مجلس التعاون الخليجي يتم اللجوء إليها حال وجود نزاعات.
وفي المقابل فإن الموقف التفاوضي لدول الخليج من حيث العمل ككتلة واحدة أو تفضيل الاتفاقيات الثنائية مع بريطانيا عامل مؤثر أيضاً في مسار المفاوضات، وثمة مؤشرات ترجح استمرار تفاوض مجلس التعاون الخليجي بشكل جماعي –رغم سهولة المفاوضات الثنائية وقصر مدتها- وليس بشكل ثنائي كما يلي:
أن اتفاقية التجارة الحرة مع بريطانيا نشأت بناءً على تشاور مسبق مع مجلس التعاون الخليجي في عام 2021، وبموافقة الدول الخليجية الست، وأن المفاوضات المعلنة تسير وفق التزام جماعي من قبل دول الخليج وبحضور مسئولين من كل دول مجلس التعاون وليس فقط الأمين العام للمجلس.
اختتم مجلس التعاون جولةً جديدة من المفاوضات التجارية مع كوريا الجنوبية في 9 يونيو الماضي، أي قبيل إعلان بدء مفاوضات التجارة الحرة مع بريطانيا، ما يعنى أن هناك تحركاً جماعياً من قبل الدول الخليجية، فضلاً عن وجود تجارب سابقة من عقد اتفاقيات تجارة حرة بين الخليج وأطراف أخرى، مثل اتفاقية التجارة الحرة بين مجلس التعاون ودول "رابطة الاتحاد الأوروبية" (الإفتا)، واتفاقية التجارة الحرة بين مجلس التعاون وسنغافورة، مما يعنى أن العمل الجماعي متاح وليس وليد اللحظة.
المزايا التي سوف تعود على دول الخليج من عقد اتفاقية التجارة الحرة مع بريطانيا تفوق الاكتفاء بوجود شراكات ثنائية فقط مع بريطانيا حتى مع اختلاف السياسات والمصالح الاقتصادية لكل دولة على حدة.
لا تمنع اتفاقيات التجارة الحرة بين مجلس التعاون الخليجي وأي دول أو تكتلات اقتصادية أخري، من سعي كل دولة خليجية إلى عقد اتفاقيات شراكة اقتصادية مع أيٍّ من تلك الدول أو التكتلات، فعلى سبيل المثال وقّعت عُمان وبريطانيا على اتفاية لتعزيز الاستثمار فيما بينهما في 12 يناير 2022.
وفي المجمل في حال نجحت مفاوضات التجارة الحرة بين بريطانيا ودول مجلس التعاون الخليجي -ككتلة واحدة- فإن ذلك سوف يساهم -أولاً- في تعزيز التكامل الاقتصادي لدول الخليج، ويقوي -ثانياً- المكانة التفاوضية لدول الخليج في مفاوضاتها مع الاتحاد الأوروبي في ضوء إطلاق الأخير استراتيجية جديدة تجاه منطقة الخليج تتضمن تسريع التوصل إلى اتفاق تجارة حرة، ويحفز -ثالثاً- الصين إلى تسريع وتيرة مفاوضاتها التجارية مع مجلس التكتل الخليجي، وبخاصة أن الصين أكبر شريك تجاري لدول الخليج، فقد بلغ حجم التبادل التجاري بينهما في عام 2021 نحو 200 مليار دولار.
وتبقى أخيراً نقطة تتعلق بمدى تأثير استقالة بوريس جونسون في مسار المفاوضات البريطانية-الخليجية، فبحسب "كريس دويل" مدير مجلس التفاهم البريطاني-العربي "لم يكن بوريس جونسون مشاركاً بشكل كبير في التفاصيل الدقيقة لمحادثات اتفاق مجلس التعاون الخليجى"، وبالتالي لن يؤثر رحيله في مسار المفاوضات، وبخاصة أن هناك مراجعات تمت داخل بريطانيا العام الماضي وخلُصت إلى أهمية الاتفاقية مع دول الخليج وبناءً على ذلك صدرت عدة تقارير حكومية تشرح وتحلل وتفند مزايا الاتفاق وآفاق المفاوضات والمكاسب المحتملة للطرفين. ومادام المحافظون على سدة الحكم فثمة استمرارية في السياسات الاقتصادية والعلاقات الدولية لبريطانيا وخاصة تجاه منطقة الخليج.
وحتى في حال تأزمت الأوضاع في بريطانيا في سبتمبر المقبل- وهو أمر غير مرجح- وتمت الدعوة إلى انتخابات مبكرة وخسر المحافظون الانتخابات، فليس ثمة تغيرات كبرى في علاقات بريطانيا بدول الخليج مع تولي حزب العمال السلطة لاسيما أن كير ستارمر -زعيم الحزب الحالي- يملك خطاباً معتدلاً تجاه دول مجلس التعاون بخلاف موقف الزعيم السابق "جيرمى كوربين"، فضلاً عن أنه بعد "بريكست" تحتاج بريطانيا إلى مزيد من الشراكات التجارية مع حلفائها الرئيسين ومنهم دول الخليج، وهو أمر لا تختلف عليه حكومات بريطانيا سواء كانت بقيادة المحافظين أو العمال. ولكن قد تتأثر الاستثمارات السيادية الخليجية في بريطانيا في حال تم تغيير السياسات الضريبية، وهذا أمر مرتبط بنهج رئيس الحكومة الجديد، وهو موضع خلاف بين المرشحين لخلافة جونسون، مع العلم أن الضرائب المرتفعة على الاستثمارات الأجنبية في بريطانيا عاملٌ سلبي في جذب الاستثمارات.
عن "مركز الإمارات للسياسات"