على الرغم من الاعتقاد الأمريكيّ بأنّ ظاهرة المقاتلين الأجانب أخذت تضمحل في أواخر عام ٢٠٠٧، حيث تقلّص عدد المقاتلين الذين هاجروا إلى العراق منذ عام ٢٠٠٣ إلى ثلاثة آلاف مقاتل أو أقلّ، إلّا أنّ هذا الاعتقاد سيتمّ دحضه واقعياً مع عام ٢٠١١ إلى عام ٢٠١٤ الذي سيشهد قفزة في عدد المقاتلين الأجانب في الشرق الأوسط داخل العراق وسوريّة، العدد الذي قِيل إنّه وصل إلى ثلاثين ألف مقاتل تقريباً من شتّى أنحاء العالم.
لا يُفتح نقاش عربيّ حول مسألة المقاتلين، وتأهيلهم ودمجهم، وذلك بسبب الخطر الأمنيّ الذي يحوم معهم
أحيتِ الأحداث في سوريّة وظهور تنظيم داعش عام ٢٠١٤ سيلاً من المجاهدين الأجانب الذين تحدّروا من كافّة بلدان العالم، متّجهين صوب العراق وسورية (مركزا التنظيم الأساسيان). وكان هذا الإحياء لظاهرةٍ قديمة-جديدة، هي "المقاتلون الأجانب"، مترافقاً مع نمطٍ جديد مع العلاقات الاجتماعيّة في البيئة التي هاجروا إليها. والحال، أنّ ظاهرة المقاتلين الأجانب غير مقتصرة على الأوروبيين وغير العرب الذين شاركوا في الحرب داخل العراق وسورية، وإنّما نجدُ أنّ هناك توافداً جهاديّاً عربيّاً من دول كالسعوديّة والأردن وتونس. وقد كُتبَ الكثير حول هذه الظاهرة، وبات الحديث اليوم أشبه بضرورةٍ بحثيّة وواقعيّة معاً، سيّما مع ما يُسمّى الآن بـ "عودة" المقاتلين هؤلاء إلى بلدانهم، ما يُصطلح عليه بـ "قضيّة العائدين".
اقرأ أيضاً: مشهد الجهادية الصومالية.. قراءة في الأيديولوجيا والأنماط الفاعلة الرئيسة
ولا شكّ في أنّ الاهتمام بظاهرة المقاتلين الأجانب ناجمة في الخطابات الرسميّة للدول بسبب ما تسببه هذه الظاهرة من قلق أمنيّ، سواء على الصعيد الداخليّ أو الدوليّ، وأيضاً بسبب ما أسماه أوليفي روا بذكاء "الطابع الجيليّ " للمقاتلين الأجانب الشُبّان، الذين أتوا من بلدان تعيش حداثةً على كافّة الأصعدة؛ الأمر الذي أثار السؤال البحثيّ داخل الأروقة الأكاديميّة في حقل ما يُسمّى بـ "علم الإرهاب" أو "دراسات الجهاد" حول ما يجعل شاباً ما جهادياً؟ وما البيئة الاجتماعيّة التي يعيشها؟ وما نمط التفكير الذي ينخرطُ فيه هذا الشابّ؟ وأيّ "قابليّة للردْكلة" توجد بحوزة هذا الفرد؟ وما الدافع النفسيّ وراء انتمائه إلى تنظيم معولم، كتنظيم داعش، عن طريق الإنترنت؟
المقاتلون الأجانب: في المصطلح والإشكال
من المستقرّ والبديهيّ عندما يتبادر مصطلح المقاتلين الأجانب إلى الأسماع، أن يُعرف مَن هم. غير أنّ هناك تفصيلاتٍ داخل ما يُسمّى بـ"الدراسات الأمنيّة" وعلوم الإرهاب الحديث حول من هو المقاتل الأجنبيّ -وهو نقاش طويل، لا يمكن اختصاره ههنا. يمكن القول إنّ المقاتل الأجنبيّ هو كلّ مواطن ينحرطُ في حرب أهليّة في غير بلده، بناءً على أسس أيديولوجيّة أو دينيّة معيّنة. والمقاتل الأجنبيّ يختلفُ عن المرتزق، وفقاً لباحثين لم يعدوا المرتزق مقاتلاً أجنبيّاً. بيد أنّ هذا التجافي التصنيفيّ بين المرتزق والمقاتل الأجنبيّ سيُحلّ مع تنظيم داعش، الذي جنّد مقاتلين أجانب من أعراق كثيرة وبلدان متعددة، وكان يدفع لهم رواتب ثابتة تتراوح من الـ٢٠٠ دولار إلى الخمسين دولاراً شهرياً.
المقاتل الأجنبيّ هو كلّ مواطن ينحرطُ في حرب أهليّة في غير بلده، بناءً على أسس أيديولوجيّة أو دينيّة معيّنة
في الأدبيّات المكرّسة عن المقاتلين الأجانب، فإنّ الباحثين عادةً ما يميلون إلى تكريس الحرب الأفغانيّة باعتبارها اللحظة الأمثل لظهور فكرة المقاتلين الأجانب، بيد أنّنا يمكن أن نلمس بوادر لظاهرة كهذه في تواريخ سابقة، غالباً ما تُسرَد داخل الأدبيات المعنيّة بالمقاتلين الأجانب، لكنّها لا تُسرد إلّا على سبيل الاستئناس، وليس كمحطة تدشينيّة.
وبعيداً عن السرد التاريخيّ الذي هو مشهور عن المقاتلين الأجانب، إلّا أننا معنيّون في هذه المقالة برصد التحوّل الأخير لظاهرة المقاتل الأجنبيّ الذي يذهب للقتال في بلدان، عربيّة غالباً، وهو آتٍ من سياق غربيّ علمانيّ. ما الذي يدفعُ شاباً حديث الإسلام، يافعاً، يعيشُ في مدن أوروبيّة كبيرة إلى الانضمام إلى تنظيمات جهاديّة عنيفة كتنظيم داعش؟ بالطبع، نحن نعيش في عصر عولميّ حتّى النخاع. فالإنترنت، الذي جعل العالم موصولاً ببعضه البعض بصورة لم تكن متوفرة في السابق، تمّ استخدامه من قبل الآلة الجهاديّة على يد داعش لتجنيد وتعبئة مقاتلين من شتّى أنحاء العالم إلى التنظيم الناشئ حديثاً.
اقرأ أيضاً: هل تنجح الصوفية في مواجهة الفكر الجهادي؟
إلّا أن هناك سرديّتين للإجابة عن سؤال: لماذا ينضمّ مسلم أوروبيّ/غربيّ إلى التنظيمات القتاليّة كداعش؟ السرديّة الأولى، تنطلق من فكرة التهميش التي يعاني منها هؤلاء الأفراد في مجتمعاتهم الغربيّة من فقر وحرمان وعدم اعتراف فيما يتعلّق بمسائل الهويّة؛ مما يجعل فكرة الانضمام إلى داعش أكثر جاذبيّةً على المستوى الهوياتيّ. بطبيعة الحال، تمّ تحدي هذه السرديّة بالإحصائيات؛ فبيئات الشباب المشاركة في داعش ليست من الفئات المحرومة والمدقعة اقتصاديّاً فحسب.
اقرأ أيضاً: عودة الجهاديين قنبلة موقوتة على أبواب تونس
السرديّة الثانية، التي أشرت إليها في الأعلى، هي سرديّة "الأزمة الجيليّة" التي وصّفها أوليفيه روا في كتابه "الجهاد والموت". حيث يشير روا إلى أنّ هؤلاء الشبان يمثّلون المرحلة الثانية من الجهاد العالميّ، المكملة للمرحلة الأولى التي كانت لدى القاعدة. يقول روا بأنّ هؤلاء الشباب، بسبب الطابع العنيف الذي تلقّوه، لديهم رغبة عدميّة في الموت. الموت بالنسبة إليهم هو فتنة جماليّة، وتقديم للذات على قربان التنظيم للتأكيد على ما هو هوياتيّ بشكل كبير.
اقرأ أيضاً: حماس تنتهج أسلوب "بتكوين الجهاد"
نحن نعلم من السوسيولوجيا المعاصرة بأنّ عدم القدرة على الانخراط في بيئةٍ ما، يدعو الفرد إلى الحمائيّة والهوياتيّة والبحث عن ذات داخل مجتمعات أكثر انغلاقاً يمكن أن توفّر سرديّة للذات تمثّل لها الأمان و"الهابيتوس" الاجتماعيّ الذي تمارس من خلاله تقانات الجسد والاعتراف والكلام والتعبير عن الهويّة.
إنّ البحث عن معنى، بالنسبة إلى روا، هو سببٌ رئيس وراء اندفاع ثلاثين ألف مقاتل أجنبيّ وراء التنظيمات الجهاديّة. فالحداثة بما شظّته من مجتمعات وذوات، خلقت حالة من اللامعنى التي تكسي الوجود البشريّ. وبالنسبة إلى متديّن غير قادر على الانتماء في مجتمعٍ ما، فإنّ كلّ حداثة ستغدو بلا معنى. وسيكون البحث عن تنظيم، ولو حاربه العالم، بمثابة المعنى الذي يمكن، من أجل الحصول عليه، أن يفدي بحياته في سبيله.
المقاتلون الأجانب: السؤال العربيّ والإسلاميّ ومسألة "العودة"
باتَ من الواضح، بما سُطِّر وكُتبَ من أدبيات، أنّ داعش لم تكن مسألة إسلاميّة في المقام الأول، بل هي خليط من مشكلات كثيرة، جيوسياسيّة ودينيّة واقتصاديّة، وغيرها. لكن، في السياق العربيّ والإسلاميّ، ارتبط تصور داعش بالتاريخ البعيد والقريب للعرب والمسلمين، ومحاولة إصلاحه من أجل عدم ظهور تنظيمات عنيفة. وكأنّ هناك افتراضاً ضمنيّاً بأنّ النصوص وحدها قادرة على خلق العنف. وبالطبع، يحصل هذا في ضوء إغفال الأبعاد الاجتماعيّة والسياسيّة التي تعيش في البيئة العربيّة اليوم.
أوليفيه روا: الموت بالنسبة للجهادي فتنة جماليّة، وتقديم للذات على قربان التنظيم للتأكيد على ما هو هوياتيّ بشكل كبير
مسألة المقاتلين الأجانب في السياق العربيّ ارتبطت حصراً بالبُعد الأمنيّ لدول هذه المنطقة، فالتعامل مع هذه الظاهرة كان أمنيّاً لما تمثّله من تهديد حقيقيّ. ووفقاً لما ذكرنا من مشاركة عربٍ في الحرب العراقيّة والسوريّة، وظهورة مسألة العائدين في الغرب، وفي المشرق على السواء، فإنّ الأمور تسيرُ نحو حساسيّة أكبر.
لا شكّ بأنّ هناك جدلاً غربيّاً كبيراً حول مسألة العائدين من المقاتلين الأجانب، وحول إعادة تأهيلهم ودمجهم مرة ثانية في المجتمع. صحيحٌ أنّ لذلك أبعاداً أمنيّة لا يمكن إغفالها، لكنّ هناك نقاشاً حول إصلاح نفسيّ واجتماعيّ وجماعاتيّ لهذه المجموعات من العائدين. حتى وإن كانت تسيرُ الأمور بحذر، ولم يؤخذ فيها خطوة كبيرة حتّى الآن.
اقرأ أيضاً: الجهاديون الأوروبيون.. كيف انتهى بهم الحال في سوريا؟
بيد أنّ هناك مضمراً في النقاشات الغربيّة بخصوص العائدين الأجانب؛ إذ يُفترَض دائماً أنّ المقاتل الغربيّ الأجنبيّ "تمّ إغواؤه" من قبل مسلم عنيف وقتاليّ، وأنّه انضمّ بلا إرادةٍ منه. وبالتالي، فلا بدّ من تأهيله نفسيّاً وردّه إلى استقامةٍ معياريّة غربيّة حتى يقاوم سلطة هذا "الإغراء الجهاديّ" وإعادة دمجه.
على الصعيد العربيّ، يُفترض في المسلم العربيّ الذي انضمّ إلى داعش أنّه انضمّ عن "إرادةٍ" منه، وبالتالي فهو "إرهابيّ خطير" لا يمكن إعادة تأهيله ودمجه في المجتمع مرّة ثانية.
في كلتا الحالتين، هناك افتراض استشراقيّ فظيع. فالغربيّ "يُغوى" من المسلمين الجهاديين، بينما المسلم لا يُغوى. إنّه عنيف بطبعه. وما انضمامه إلا عن إرادة.
اقرأ أيضاً: داردو سكافينو: صعود اليمين المتشدّد في أوروبا انتصار للجهاديين
بطبيعة الحال، لا يُفتح نقاش عربيّ حول مسألة المقاتلين، وتأهيلهم ودمجهم، وذلك بسبب الخطر الأمنيّ الذي يحوم معهم. لكن مع الكلام عربياً عن عودة هؤلاء المقاتلين، فإنّه آن الأوان إلى فتح هذا النقاش من قبل الباحثين والسياسيين وعلماء النفس والاجتماع للتعامل مع هذه الظاهرة، بدلاً من الطبيعة الأمنيّة للنقاش.