شيرزان اومت
تجمع ممثلون عن المجتمعات الدينية التركية غير المسلمة خلال هذا الصيف في إسطنبول لتوقيع بيان مشترك يُنكر أن تكون الأقليات تتعرض لأي ضغوط في البلاد. وفضلاً عن الزعماء الدينيين من المجتمعات اليهودية والأرمنية واليونانية، كان أورهان تشانلي- وهو بطريرك الكنيسة الكاثوليكية السريانية في تركيا- من بين الموقعين على البيان.
وعندما أجرى موقع أحوال تركية مقابلة مع رئيس اتحاد الجمعيات السريانية إفجيل توركار في مدينة ماردين جنوب شرق تركيا، كانت لديه رسالة مختلفة كثيراً.
قال توركار “أختلف تماماً مع البيان. الجمعية السريانية في إسطنبول تدعي أنها تشعر بالارتياح، لكنهم بحاجة لزيارة ماردين. هنا يجري الاستيلاء على ممتلكاتنا. قد تكون الحكومة لا تستهدفنا بشكل شخصي، لكن الاستيلاء على أصول مؤسساتنا ما زال يشكل ضغطاً كبيراً علينا. حقيقة إن الجمعيات في ماردين ومديات وإيدل والتي لم توقّع على هذا الإعلان تُظهر أننا لدينا مشكلة هنا”.
عاش السريان في منطقة بلاد الرافدين، التي تضم جنوب شرق تركيا، على مدى خمسة آلاف سنة. ويقول توركار إن “تاريخ السريان في هذه الأرض يمتد إلى حقبة الإمبراطورية الأكدية.. بعد ميلاد المسيحية، كان السريان من بين أوائل الناس الذي قبلوا بالدين الجديد. وبعد اعتناقهم هذه الديانة، نشروها أولاً في هذه المنطقة، ثم توسعوا في نشرها باتجاه الشرق الأقصى”. وللأسف يمتد تاريخ اضطهاد السريان هناك أيضا. “فالحروب الصليبية ألحقت الكثير من الأذى بالسريان. بدأ المسلمون في المنطقة بالحط من قدر السريان، الذين كانوا يتعرضون لضغوط ومذابح بشكل مستمر”.
وفي مواجهة هذا الاضطهاد، كافح السريان من أجل الحفاظ على ثقافتهم وحمايتها. “على مدى 280 عاما، حافظ السريان على مملكة لهم في أورفة؛ لكن اليوم لا يُنطق اسمنا حتى في المدينة. كنائسنا في أورفة تحولت إلى مساجد أو مستودعات للتخزين. مسجد خليل الرحمن في باليكليغول هو في واقع الأمر كنيسة مريم العذراء. وبرج الناقوس القديم مازال سليما لم يُمَس إلى اليوم”. وأضاف توركار أن الزعماء الأتراك كانوا متواطئين أيضا في أعمال الاضطهاد تلك، خاصة في نهاية الدولة العثمانية.
وعلى الرغم من أن السريان كانوا يُسْتَهدفون في مناطق بعينها طوال معظم تاريخهم، فنادراً ما كان الاضطهاد يؤثر على السكان بأكملهم. لكن هذا تغير في العام 1915 “كانت الإبادة الجماعية في العام 1915 المذبحة الأكثر مأساوية بين ما عانيناه. بدأت المذبحة بالأرمن وانتهت بالسريان. لقد غيرت ديموغرافية المنطقة ودمرت ثلثي عدد سكاننا. لقد مُحي السريان من على وجه الأرض في أجزاء كبيرة من المنطقة. لم تكن أجسادهم فقط هي ضحية الإبادة، وإنما ثقافتهم أيضا”.
وبالنظر إلى التاريخ الثري للشعب السرياني، يرى توركار أن الحديث عن التسامح مع الأقليات يعد نوعاً من الاستخفاف بالعقول.
يقول توركار “لقد حطوا من شأننا وقلصوا عددنا حتى صرنا أقلية. هذا مصطلح مؤذ. مازلنا نعاني من صدمة عام 1915، لأن هذه الإبادة الجماعية محتنا من على وجه الأرض التي كنا نسكنها في يوم من الأيام. والآن نحن خاضعون للتسامح. التسامح كلمة مُهينة في واقع الأمر… السريان من أقدم سكان هذه الأرض، ولقد أهدوا العالم حضارة عظيمة وهم الآن ممنونون ومدينون بالفضل لهذا التسامح. ما الذي تقوله تلك الكلمة في الواقع ‘أنتم قلة ونحن نحسن لكم'”.
كما استهدفت السريان محاولاتُ ضم المسيحيين في تركيا خلال الأسلمة القسرية. ففي عام 1915، أجبر الكثير من الأسر على اعتناق العادات الإسلامية، وكانت الفتيات يُختطفن وتجري تربيتهن كمسلمات متدينات.
وبسبب هذه الضغوط الكبيرة، فضلا عن الضرائب التي فرضتها الحكومة لاستهداف غير المسلمين، فر الكثير من السريان هرباً من البلاد. يقول توركار إن كل السريان الذين يعيشون في مدينة الحسكة السورية اليوم تقريباً هم من الأسر التي فرت من ماردين وضواحيها، لتعيش تحت الحماية الفرنسية. والكثير منهم يفرون الآن من تنظيم الدولة الإسلامية وغيره من التنظيمات الجهادية وينتقلون إلى أوروبا. ويعيش نحو ثلاثة آلاف سرياني في أوروبا، معظمهم ينحدرون من تركيا.
أمضى توركار نفسه 24 عاما في الخارج، ويقول إن تجربة العيش بعيداً عن الوطن كانت مؤلمة جداً.
“لا أحد يريد أن يرحل عن أرضه. يقول الناس إن الهجرة كانت نتاجاً للمشاكل الاقتصادية؛ لكن السريان صناعٌ مَهَرة، والسبب الحقيقي في هجرتهم هي المصاعب التي كان عليهم أن يتحملوها. وقد اضطرت السياسات القومية للحكومة الجمهورية التي تأسست بعد الحرب العالمية الأولى السريانَ إلى الرحيل”.
ولد الأمل لدى السريان في العام 2013 عندما بدأت الحكومة التركية عملية سلام مع الأكراد في المنطقة، حتى إن الكثيرين عادوا إلى تركيا وأعادوا بناء بلداتهم. لكن تجدد القتال بين القوات التركية والكردية في صيف عام 2015، فضلا عن حالة الطوارئ التي أُعلنت بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في عام 2016، جددت المخاوف من العودة.
“في وجود حالة الطوارئ، لا يمكن لأحد أن يعبر عن أفكاره وآرائه بحرية.. إحدى القضايا التي تثير قلقنا على وجه الخصوص هي قضية الاستيلاء على ممتلكات السريان. وعلى الرغم من أنه كان واضحا أن الكيانات الخاصة كانت لديها مطالبات بالملكية، تعاملت الحكومة مع الأصول كما لو كان ليس لها صاحب، وجرى تحويل ملكيتها إلى وزارة الشؤون الدينية والخزانة.. أُعيدت بعض الممتلكات التي كانت قد صُودرت، لكن بعض تلك الممتلكات مازالت خاضعة لسيطرة الحكومة”. بيد أن توركار مازال عنده أملٌ في المستقبل. ويحدو توركار الأمل في إمكانية إطلاق عملية سلام جديدة، بحيث تصبح العملية الديمقراطية ممكنة من جديد. وبعد ميلاد أجيال منذ أن أُجبر أسلافهم على التخلي عن ثقافتهم، يلتمس اليوم أحفاد السريان الذين خضعوا للأسلمة مساعدة توركار لكي يعودوا إلى جذورهم. “حالما يتقرب أحد لنا، يصبح من الصعب عليه العودة. ولوهلة يقول أنا سرياني وأريد أن أكون مسيحيا. يقطع علاقته بمجتمعه الحالي وليس لديه أي ضمانات لقبوله في مجتمعه الجديد”.
لكنه أوضح أيضا أن خلفياتهم لم تعد تهم كثيرا.
أضاف “ما يهم هو أن يمثل الناس الوحدة والأخوة بين الشعوب التي تعيش على هذه الأرض؛ أن يحموا الإرث الثقافي الذي تركه السريان وغيرهم من الشعوب. هذه الأراضي تنتمي للسريان والأرمن والأكراد، وكل الناس الذين يعيشون هنا. ما يهم هو أنهم يستطيعون العيش سويا في عدل وألفة”.
عن "العرب" اللندنية