لطالما مثّلت المسبحة (أو السُّبحة) لكثير من الثقافات عرضاً مظهرياً للتدين والتصوف والذكر والتسبيح والتهليل، والتهدئة النفسية، وأحياناً للوقار والوجاهة، وأغراض أخرى مختلفة، وحتى المواد التي تصنع منها تتفاوت أيضاً، واختلفت عبر القرون حتى بلغت في التنوع اليوم ما لا يكاد يُحصر، لكن يبدو أنها ستظل مقترنة باسم الدين رغم استخداماتها المختلفة وتباين الحكم في مشروعيتها.
جذور تاريخية
تاريخياً، استخدمت المسبحة لأغراض مختلفة؛ تارة كتميمة أو تعويذه أو غيرها، وكان البعض يؤمن بقدسيّتها، حتى أنّ من الشعوب القديمة من كانوا يغسلون السبحة التي يحملونها بالماء، ويشربونه كدواء، كما يقول الأستاذ صلاح الراوي، أستاذ الأدب الشعبي بأكاديمية الفنون المسرحية، في كتابه "مقدمة في دراسة التراث الشعبي"، مضيفاً أنّها أداة معروفة منذ عصور ما قبل التاريخ، كانت تصنع من نوي البلح وبذور نبات الخروب، وخشب شجر الزيتون والقواقع والأبانوس والصندل.
اقرأ أيضاً: تعرّف إلى 7 استخدامات ومعانٍ للوشم والرسم على الجسد عبر التاريخ
ويؤكد الراوي أنّ المسبحة استعملت، وفق ما تشير الآثار الفينيقية، في المقايضة، كما استخدمها اليهود والمسيحيون، خاصة الرهبان منهم، في التقرب إلى الله تعالى في الصوامع، وكانت عادة انتشرت بين الهندوس والبوذيين كوسيلة للعبادة أيضاً، ومع بدء معرفة الإنسان بالأديان السماوية، استمر وجود السبحة واستخدامها في أغراض العبادة، فاستخدمها اليهود والرهبان المسيحيون وكذلك المسلمون الذين كانوا يفضلون التسبيح والذكر باستخدام العدّ على أصابعهم زيادة في الرغبة في نيل الثواب، وقد ورد في الأثر أنّها لم تكن معروفة لدى العرب، وإنما استحدثت في الصدر الأول من الإسلام كوسيلة للإعانة على الذكر، والتذكير.
استعملت وفق ما تشير الآثار الفينيقية في المقايضة كما استخدمها اليهود والمسيحيون في التقرب إلى الله تعالى
يقول الباحث والمستشرق الألماني، جولد زيهر، وفق ما نقل عبد الرحمن بدوي في كتاب "التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية": إنّ السبحة لم تنتشر في الجزيرة إلا في القرن الثالث الهجري عن طريق مصر، بينما ذكرت الموسوعة الإسلامية أنّ أول استعمال للسبحة كان في أوساط الصوفية، أو بين الطبقات الدنيا للمجتمع، وقد ارتفعت أصوات بإنكارها في القرن الخامس عشر الميلادي، إلا أنّ بعض العلماء أفتى بعدم وجود مانع من استخدامها، طالما ظلت وسيلة للتذكير بعدد الذكر المطلوب من الإنسان أداؤه لله تعالى، ثم تحولت إلى موضوع للفقه، وتأرجحت بين الحلال والحرام؛ فذمها فقهاء بوصفها "بدعة"؛ وامتدحها آخرون وذكروا أحاديث للرسول، عليه السلام، والصحابة، رضي الله عنهم، للتحبيب فيها، قال عنها البعض إنها أحاديث موضوعة.
اختلافات ودلالات
يذكر بكر بن عبدالله أبو زيد في كتابه "السُّبحة.. تاريخها وحكمها" أنّ الجماعات في الدين البرهمي (الهندوسية) تختلف في عدد حبات المسبحة وترتيبها؛ ففرقة شِيْوائية تحدد 84 حبة، ولا تزيد عليها طبقاً لحساب علم النجوم لديها، أما الفرقة الوِشْنَويّة فتعين عددها بــ 108، وهو حاصل ضرب عدد الأبراج (12) في عدد النجوم (9)، وهو عدد زائد عما قررته الفرقة الشِيْوائية؛ لأَنه روعيت فيه أحوال القمر الثلاثة: الاستهلال والاستواء، والاستسرار، أما ترتيب الحبات في المسبحة؛ فالفرقة الشيوائية تميز فيها بين كل مجموعة من تسع حبات، عندما ظهر الدين البوذي بالهند اختار رهبانه سبحة الفرقة الوِشْنَويّة أي ذات مائة وثماني حبات.
اقرأ أيضاً: كيف تحكي قصة الملابس تاريخ البشريّة بتكثيف وإيجاز؟
وعند المسلمين؛ يقول أبو زيد، إنّها كانت في بدايتها خيوطاً ينظم بها خرز من نوى مجزع الذي حُكَّ حتى صار فيه سواد وبياض، لعد الأَذكار، وكانت هناك: سُبْحَة من (33) خرزة، وتسمى: (السُّبْحَة الثُّلَثِيَّة)، وسُبْحَة من (99) خرزة، وسُبْحَة من (1000) خرزة، وتسمى: (السُّبْحَة الألفية)، كما يطلقون عليها "المذكرة بالله، ورابطة القلوب، وحبل الوصل، وسوط الشيطان".
باحثون يؤكدون أنّ السبحة لم تنتشر في الجزيرة إلا في القرن الثالث الهجري عن طريق مصر
ويفيد أبو زيد بأنّ هناك "مسابح رجالية ونسائية، والثانية عادة ما تكون ذات ألوان زاهية ومميزة، واللون هو عادة ما تميل إليه النساء، مفضلات المسابح ذات اللون الأحمر، أو المصنوعة من الفيروز، أو الكريستال، مائلة إلى القطع الناعم والشرابة المميزة الناعمة، بينما يميل الرجال إلى المسابح التي تتميز بتصميم يلفت الانتباه ويميز مسبحته عن المسابح الأخرى، بينما يميل إلى المسابح داكنة اللون، والأكبر حجماً في حبتها"، مشيراً إلى أنّ هناك مسابح "تستخدم في الجلسات، والدواوين الرجالية، وعادة ما تكون كبيرة الحجم وضخمة، ولها مزاج خاص، حيث يسمع وقع الحبة على الأخرى عند استخدامها، وأسميها مسبحة الجلسة أو المزاج".
جامعو السبح
في حي الجمالية العتيق بالقاهرة، وتحديداً خلف مسجد الحسين وبجوار خان الخليلي؛ توجد مصانع السبح، والتي تنتقل فيما بعد لتباع في أكبر أسواق السبح حول الحرم المكي بالمملكة العربية السعودية، والعتبات المقدسة للشيعة بالعراق وإيران.
اقرأ أيضاً: أشهر 7 رموز دينية.. تعرّف إلى معانيها ودلالاتها
وفي العراق؛ ثمة كثيرون مولعون باقتناء الأحجار الكريمة لما يشاع عن ارتباطها بالحظ والأبراج، كما تنتشر تجارة المسابح، خاصة المصنوعة من الأحجار الكريمة، التي صنف فيها العرب كتباً، ومنها "أزهار الأفكار في جواهر الأحجار"، لأحمد بن يوسف التيفاشي، والذي صنف فيه المعادن والأحجار الكريمة، وتحدث عن نشأتها وتركيبها، كما ألف البيروني كتاب "الجماهر في معرفة الجواهر"؛ حيث وصف فيه 81 حجراً كريماً وصفاً جيداً، وهو من أهم الكتب التي ألفت في المعادن والأحجار الكريمة.
وتتفاوت المسبحة في صناعتها ما بين خامات متفاوتة الخصائص، ندرةً ونفاسةً وقيمةً وجمالاً وإبهاراً، خاصة إذا كان صانعها متخصصاً في الأحجار الكريمة.
ومن المألوف في العراق مصادفة جامعي السبح، وهي هواية مثلها مثل جمع الطوابع، أو جمع الأسلحة القديمة، والعملات القديمة.
اقرأ أيضاً: تعرّف إلى أشهر 7 مخلوقات خرافية والحكايات والأساطير المرتبطة بها
أما في تركيا، وفق الباحث مصطفى زهران، فقد استحوذت المسبحة على مكانة خاصة، وكانت إرثاً مشتركاً في الحياة التركية، حيث لا توجد إلا صغيرة، إذ توارثت الأجيال تصغيرها وإخفاءها بدءاً من عصر أتاتورك.
ويضيف زهران في حديثه لـ "حفريات"، أنّه تتعدد أسباب ولع الأتراك بالمسبحة؛ "منها ما هو ديني، أو تراثي أو صحي، مما أدى إلى تنوع أشكال وأحجام وألوان المسابح وحتى المواد المستخدمة في صناعتها"، موضحاً أنّ بعض الأتراك يعتقدون أنّ السبحة "تجلب الحظ، وهناك من يراها تخفف التوتر والضغط، وآخرون يستخدمونها في أذكارهم للتسبيح".
تدين أم تمظهر؟
يذكر أبو زيد في كتابه أنّه في كل منطقة في العالم يختلف عدد الحبات ونوعيتها وألوانها؛ ففي العراق تشتهر الأنواع التالية: الكهرمان "الكهرب"، الفيروز، الحجازي، النارجين، السندلوس الامشست، اليسر، العقيق، حب الرمان، عين التمر، الجاد، عين النمر، العاج، سندلس، العطش، البايزهر، النرجيلة، والأخشاب والبلاستيكية.
اقرأ أيضاً: 7 حيوانات حظيت بمكانة خاصّة في الأديان والثقافات.. تعرّف عليها
كما أنّ لها وظائف متعددة؛ فهي عند غير العرب شعار ديني، لدى أهل الملل من البراهمة والمسيحيين، وغيرهم من الأعاجم، ولهم في اتخاذها أغراض دينية مختلفة على اختلاف مللهم، منها: اتخاذها لِعَدِّ الصلوات أو تعويذة، وتميمة للوقاية من الأخطار والأمراض.
أما في الإسلام؛ فقد تدرجت في أغراضها الدينية؛ حيث اتخذتها الطرق الصوفية لِعَـدِّ الأذكار والتربية الدينية، وتم اتخاذها عند العوام تعاويذ وتمائم، وللوقاية من الحسد والأخطار، وتطويق العنق بها للوقاية من الأمراض، وغسلها بالماء وشربه للاستسقاء، والاستخارة بها، بما يسمونه: "استخارة السبحة".
اقرأ أيضاً: 8 ألوان ارتبطت بمعانٍ ورموز دينية.. تعرّف عليها
ويظن البعض أنّ السبحة في يد صاحبها هي دليل للتقى والورع، وقد ذكر أبو الفرج الأصفهاني، في كتابه الشهير "الأغاني"، قصة طريفة عن مظاهر الورع الخادعة بين عثمان بن حيان المري، والي المدينة، في عهد الوليد بن عبدالملك، ورجل يقال له ابن أبي عتيق نصح امرأة بحمل السبحة في حضرة الوالي لتقنعه بورعها ويعدل عن ترحيلها.
بين التحريم والإباحة
زعم صاحب كتاب "السبحة في حكم السبحة"، محمد بن فنخور العبدلي، أنّ المسبحة لم تكن معروفة في عصر النبي، صلى الله عليه وسلم، ولهذا فهي "ليست من سُنَّتِه لعَدِّ الذكْر"، لكنه عاد وقال: لم أرَ لها ذكراً في نسبتها إلى عصر النبي، صلى الله عليه وسلم، إلا في نصين؛ أحدهما ما نظمه المغربي التهامي:
قَد خَلَّف الرسول تِسْعاً تُعْرَف سجادة وسبحة ومصحف
وقفتان وسـواك وحصير مشـط ونعلان وإبريق منـير
وقال: لقد ظهر نظم الخرز في الخيوط في أول عصر التابعين وآخر حياة الصحابة منذ عصر إبراهيم النخعي، الذي توفَّى العام 96 هجرية.
في العراق ثمة كثيرون مولعون باقتناء الأحجار الكريمة للسُّبح لما يشاع عن ارتباطها بالحظ والأبراج
من جهته، يرى الباحث المصري المختص بالشأن السلفي، علي عبد العال، في حديثه لـ"حفريات"؛ أنّ التيار السلفي العلمي لم يتغير الحكم لديه في مسألة المسبحة؛ حيث يراها بدعة مستحدثة في الدين، وأن هذا "نابع من الأصولية والمرجعية التي ينهلون منها، والتي لم تتغير كثيراً في مسائل التمظهر الديني، رغم ممارستهم العمل السياسي".
وتتفق مع هذا الحكم السلفية التقليدية، ففي سؤال للشيخ محمد بن صالح العثيمين (اللقاء المفتوح 3/30) عن التسبيح بالمسبحة هل هي بدعة؟ فأجاب: التسبيح بالمسبحة تركه أولى وليس ببدعة لأن له أصلاً وهو تسبيح بعض الصحابة بالحصى.
اقرأ أيضاً: كيف نظرت الأديان إلى السماء؟ وما هي أشهر المعتقدات المرتبطة بها؟
وينقل موقع "الإسلام سؤال وجواب"، عن الشيخ ابن باز قوله إنّ "المسبحة تركها أولى، واتخاذها دائماً في يده يخشى أن يكون من الرياء، ولم يكن من عادة السلف"، ويخلص الموقع إلى أنّ حمل سبحة أو خاتم أو آلة لعد التسبيح والتهليل والتكبير "بدعة ومدعاة للرياء، أو هو مظهر رياء".
وأثار ما يسمى استبدال المسبحة بالتسبيح الإلكتروني جدلاً واسعاً، ولدى موقع "طريق الإسلام السلفي"، جواب قيل فيه: اطلعنا على البرنامج المشار إليه في السؤال، والذي ظهر لنا أنه أهون من التسبيح على السبحة، فإذا قيل إنّ السبحة جائزة فهذا البرنامج جائز، وذلك لأنّ بعض المحذورات الموجودة في استعمال السبحة غير موجودة في هذا البرنامج، كمراءاة الناس بالسبحة، أو عد التسبيح باليد مع كون القلب واللسان مشغولين بأمور دنيوية والحديث مع الناس!
من جهته اختلف الأزهر الشريف عن السلفية فقد أفتى علماؤه، في أكثر من مناسبة، بجواز استخدام المسبحة، "نظراً إلى أنّها تشجع على الذكر، وتدفع للعبادة".