المثقف والسلطة: في سبيل من يجب أن تضحي الجماهير؟

المثقف والسلطة: في سبيل من يجب أن تضحي الجماهير؟


06/10/2019

يعد أبو الطيب المتنبي شاعر العرب الأول، وأضحت كثير من أبيات شعره متداولة في عداد الأقوال المأثورة، وكان مجالاً للدراسات الأكاديمية والبحثية العديدة، ومن أبرز تلك  الدراسات؛ ما نشره الأديب والسياسي الأردني، خالد الكركي، في كتابه "الصائح المحكي: صورة المتنبي في الشعر العربي الحديث"، الصادر العام 1999 ، وغاية المؤلف الأساسية في هذا الكتاب هي التأكيد على حضور المتنبي في حركة الشعر العربي الحديث، ويتناول في دراسته أثر المتنبي في بعض أبيات الشاعر المصري، أمل دنقل (1940-1983)، والشاعر اللبناني خليل خوري (1836-1907).

علاقة الشعراء أو الفلاسفة بالحكام لم تنحصر في إطار المديح بل تعدّته إلى إضفاء الحكمة والتبرير الفلسفي

لكنّ شعر المتنبي كان مجالاً لدراسات أخرى، ذات طابع سياسي، كونه شاعراً امتدح الحكام وسعى للاقتراب من السلطة، وقد فعل، تارة حين امتدح سيف الدولة الحمداني، مؤسس إمارة حلب (303 -356 م) في الدولة العباسية، وتارة أخرى حين ارتحل لمصر وامتدح حاكمها، كافور الإخشيدي، وغيرهما من الحكام في بلاد فارس.  
لهذا انتشر مصطلح "الحالة المتنبوية" في بعض أروقة الثقافة العربية المعاصرة، في إشارة إلى المتنبي وعلاقته بالسلطة والاقتران بها ومدحها، وأضحى اقتراب المثقف المعاصر من السلطة وتبرير مواقفها باستمرار بمثابة الحالة المتنبوية، رغم أنّ المتنبي ذاته هزمته وتخلّت عنه السلطة التي كان يمتدحها مراراً وتكراراً، بعدما كانت قد أغدقت عليه النعم.
الفلاسفة ودعم الطغيان
علاقة الشعراء أو الفلاسفة بالحكام لم تنحصر فقط في إطار المديح، بل تعدّى الأمر إلى إضفاء الحكمة والتبرير الفلسفي على طغيان الملوك والُحكام، وهو الأمر الذي تناوله الباحث الأمريكي، دامون لينكر، العام 2002، في دراسة بعنوانPhilosophy and tyranny" "، أو "الفلسفة والطغيان"، وفيها وصف الأمر بـ "احتواء الفلاسفة الحماسي للطغيان"،The" enthusiastic embrace of tyranny by philosophers  ".

يؤكد نعوم تشومسكي أنّ الأنبياء مثقفون انشقوا عن السلطة المستبدة في عصرهم

ومن أهمّ الكتابات كذلك، التي رصدت تلك العلاقة: كتاب The Reckless Mind:" Intellectuals in Politics"، أو "العقول المتهورة: المثقفون في السياسة"، للأكاديمي مارك ليلا" (Mark Lilla)، الصادر العام 2001، والذي تعرّض من خلاله لظاهرة تأييد المفكرين المطلق للسلطة الشمولية، وأسماها "ظاهرة أبناء هيدجر، نسبة إلى المفكر الألماني، مارتن هيدجر (1889-1976)، الذي انخرط في الحزب النازي وبرّر سياسات النازية فكرياً.
ومن وجهة نظر المؤرخين؛ فهذا الانتماء كان السقطة الكبرى في تاريخ هيدجر، حتى وإن اعتذر عن منصبه فيما بعد؛ حيث أوكل إليه منصب رئيس جامعة فرايبورج "Freiburg"، وكان مسؤولاً عن تمرير أيديولوجيا الحزب في الجامعة.
استبداد من أجل مجتمع مثالي 
لم يهتم المؤلف، مارك ليلا، بعلاقة المفكرين بالأنظمة الشمولية فقط، وإنما اهتم بتحليل البيئة الاجتماعية والخلفية الثقافية التي دفعت بعض المفكرين للاحتماء بالسلطة والتنظير والدفاع عنها، دون كلل أو ملل؛ حيث سعى بعض المفكرين إلى الاحتماء من استبداد المجتمع والصعود في هرم السلطة، بهدف خلق حالة من المثالية من وجهة نظرهم، لكنّها مثالية قائمة على صوت أحادي رافض للتنوع والاختلاف، مثالية تعدّ أيّ اختلاف مؤامرة، وهذا تفنيد وتحليل الكاتب والمؤرخ جون فان سيكل (John Van Sickle) نفسه؛ من خلال كتابه "The Tyranny of Idealism "، وقد نترجمه إلى "الاستبداد من أجل مجتمع مثالي"، حتى لا تفقد الترجمة الحرفية المقصد من الكتاب، وقد تدفع هذه الفرضية كبار المفكرين إلى دعم حالة الهوس التي تروّج لها  السلطة الشمولية في حال مواجهتها للمعارضة.

اقرأ أيضاً: قالها سلامة كيلة ورحل: المثقف هو الذي يدافع عن الناس
حالة الهوس الجماعي تلك، والتي تماهى معها كبار المثقفين، شهدتها إيطاليا في فترة حكم موسوليني؛ حيث قدّم المفكر (Giovanni Gentile)، جيوفاني جنتيل (1875-1944)، الأرضية الفلسفية لتبرير الفاشية، وصاغ بياناً رسمياً، أسماه "مثقفون مع الفاشية"، العام 1925، وقّع على البيان 250 من رجال النخبة، واهتمّ البيان بدور الثقافة في دعم سياسات السلطة، وتمريرها بين الجماهير، مما دفع مجموعة أخرى من نخبة المثقفين إلى إصدار بيان رسمي للردّ، أسموه "مثقفون ضدّ الفاشية".    
مثقفون على يسار السلطة
هناك العديد من الدراسات الحديثة التي تناولت تعريف المثقف، لكنّ أكثرها شيوعاً هي التي جعلت المثقف على يسار السلطة، ولعلّ أشهر من بلور هذه الأفكار في التاريخ المعاصر، كان المؤرخ الأمريكي والمتخصص في علم اللسانيات والإدراك؛ نعوم تشومسكي. 
أثار تشومسكي كثيراً من الجدل؛ حين أصدر كتاب Manufacturing Consent: The" Political Economy of the Mass Media,"، أو "صناعة الرضا الجماهيري: الاقتصادي السياسي للإعلام"، العام 1988، وفيه يقول: إنّه "بدءاً من الثقافة الجماهيرية، ووصولاً إلى منظومة البروباغندا الإعلامية، هنالك ضغط مستمر على المواطنين، يشعرهم بأنّهم لا حول لهم ولا قوة، وليس بمقدورهم فعل شيء سوى التصديق والموافقة على القرارات التي تمّ اتخاذها من قبل السلطة".

رأى نصر حامد أبو زيد أنّ المثقف الذي يمتلك الحقيقة المطلقة يمثل القدم الأخرى للأنظمة الشمولية

ويرى تشومسكي أنّ الإعلام أداة المثقفين المعاصرين، الذين يخدمون السلطة، وأنّ أغلبية النخب الثقافية ينحصر دورها في تبرير مواقف حكومات بلادها، لكن يظلّ هناك هامش من المثقفين المنشقين، أو كما أسماهم"Intellectual Dissidents" ، الذين يسيرون عكس التيار، ويعامَلون بسوء، وذهب تشومسكي إلى ما هو أبعد من ذلك؛ حين أكّد أنّ الأنبياء، من وجهة نظره، ما هم إلا مثقفون انشقوا عن السلطة المستبدة في عصرهم.
الحالة الموازية لأفكار نعوم تشومسكي قد نجدها من خلال المفكر والباحث المصري، الدكتور نصر حامد أبو زيد (1943-2010)، الذي ارتبط اسمه بعلم التأويل القرآني، وأزمات الخطاب الديني الأصولي، إلا أنّ أبو زيد لم يكن منفصلاً عن الواقع السياسي أو الشعبي؛ فيتبنى فلسفة غايتها كسر هيمنة السلطة في صياغة الوعي الجماهيري، والسلطة التي قصدها هنا سياسية ودينية.
وفي كتابه المعنون "النص، السلطة، الحقيقة... الفكر الديني بين إرادة المعرفة وإرادة الهيمنة"، العام 2004؛ يؤكّد أبو زيد أنّ السلطة تحتاج إلى مطلق ديني، يساعدها في تطويع الدين في مخاطبة الشعوب، لكنّ السلطة ذاتها تحتاج أيضاً إلى مُطلق ثقافي؛ أي مثقفون يمتلكون الحقيقة المطلقة في دعمهم للنظام السياسي القائم.

اقرأ أيضاً: كيف ساهمت السياسة في صناعة مفهوم المثقف مجتمعياً؟
ورأى حامد أبو زيد؛ أنّ المثقف الذي يمتلك الحقيقة المطلقة يمثل القدم الأخرى للأنظمة الشمولية، فيقول: "آن الأوان لقطع الحبل السري بين ما هو فكري وما هو سياسي"، أي حذّر المثقفين من تبرير الفعل السياسي بما هو فكري.
كما تراءى له أنّ الفكر الحرّ فعل سياسي في حدّ ذاته، ولعلّ الإشارة لكتابات نصر أبو زيد في هذا السياق تتزايد في هذه الآونة، كونه تنويرياً لم يسر في رحاب السلطة، بخلاف قطاع كبير من التنويريين الجدد.
التنويريون الجدد والأنظمة العربية    
بزغ مصطلح "التنويريين الجدد" على الساحة الثقافية بشدّة، منذ اندلاع الثورات العربية وصعود جماعات الإسلام السياسي إلى سدة الحكم في مصر وتونس، وكذلك مع ظهور جماعات جهادية معاصرة في سوريا والعراق.
بعض التنويريين اختاروا العمل الفردي من خلال الكتابات والإعلام البديل، ومن بعدها شاشات التلفزيون، والبعض الآخر اختار العمل من خلال تجمعات صغيرة، وبعضهم اختار طريق الدعوة للإصلاح الديني وإعادة قراءة النصوص، وآخرون لجؤوا إلى العلمانية الصريحة؛ أي فصل الدين عن التشريعات وإبقاء العقيدة في مجالها الشخصي وليس العام.

لعلّ الخوف من عودة الإسلام السياسي لسدة الحكم هو محرك انحياز كثير من المثقفين العلمانيين العرب للسلطة

لكنّ الأزمة الحقيقة لم تكن في جرأة الأفكار، وهي مطلوبة، إنما الأزمة الحقيقة كانت في ظهور خطاب علماني تنويري يسعى لتبرير كلّ فعل سياسي سلطوي، مما يعيدنا إلى تعريف ما هو التنوير.
الفيلسوفُ الألمانيُّ كانط (1724–1804)، من خلال مقاله الشهير "ما التنوير؟"، قال إنّ "التنوير هو الاعتماد على العقل لا على الانفعالات أو الأهواء"، أما المفكر المصري الراحل الدكتور علي مبروك (1958-2016)، يقول: إنّ "التنوير هو انتهاء عصر الوصاية على البشر".
رغم أنّ فلسفة كانط وعلي مبروك منتشرة بين جموع التنويريين في مصر تحديداً، إلا أنّ بعضاً من هؤلاء التنويريين، من دون تعميم، اختاروا خطاباً تخوينياً، وصموا فيه كلّ معترض (وليس حتى معارض) باتهامات أخلاقية، حتى لو كان المعترض يئن من أزمات اقتصادية، وخطاب التخوين أو تهميش معاناة الجمهور لا يعدّ خطاباً تنويرياً. 

اقرأ أيضاً: هل يصلح المثقف بديلاً عن الشيخ: تأملات في مولد المثقف العربيّ
لعلّ الخوف من عودة الإسلام السياسي لسدة الحكم هو محرك انحياز المثقف العلماني للسلطة،   لكنّ خطاب العلمانيين الذين تفرغوا لدعم وتبرير كلّ فعل سلطوي ليس هو الحامي من تلك الجماعات، بل خلق قاعدة جماهيرية حقيقة، والبحث عن آليات تجعل من التنوير مصلحة الجماهير، بدلاً من قذف العامة بألفاظ الدهماء أو الغوغاء، وقد نحتكم هنا إلى فلسفة الكاتب الإيطالي، أنطونيو غرامتشي (1891-1937)، الذي تراءى له أنّ المثقف المستنير هو من يسعى لتغيير الواقع، وليس من يعبّر فقط عن غضبه تجاه الجماهير التي تعاني من الجهل، أو ممّن يتبنى خطاباً طبقياً استعلائياً احتقارياً؛ فالتنويري هو من يبحث عن أطر لا تفصله في برج عاجي يتفرغ فيه لدعم السلطة المطلقة. 
وفي هذا الصدد؛ لا بدّ من الإشارة لدراسة بحثية مهمّة للأكاديمي الإيراني، آصف بيات، صدرت في كتاب يحمل عنوان "الحياة السياسية: كيف يُغير البسطاء الحياة في الشرق الأوسط"، الصادر عام 2013، والذي يركّز على خلق سياسات في أسفل الهرم الاجتماعي، تستهدف الأفراد العاديين أو المهمشين، وتمكّنهم من إحداث تغيير في اتجاه تنويري مبني على المصلحة الاجتماعية والاقتصادية، وعدم الاكتفاء بالبنية النخبوية.
هل المثقف المعارض دائماً حالة مثالية حقاً؟
رغم أنّ المقال تعرّض لقراءة نقدية فيما يخصّ المثقف المتماهي مع السلطة طيلة الخط، ويسعى لتبرير سياساتها بما هو فكري، إلا أنّ هذا لا يعني بالضرورة أنّ الحالة المثالية هي المثقف المعارض طيلة الوقت؛ أي إنّ الهدف ليس التحزب، أو خلق معسكَرين متناحرَين، بين المثقف المعارض والمثقف المؤيد، رغم أنّها ظاهرة يمكن رصدها بالفعل.

اقرأ أيضاً: هل ينطق المثقف بلسان مجتمعه؟
في حقيقة الأمر؛ لا توجد حالة مثالية، لكن هناك ضرورة لإعادة فهم دور المثقف، وهو ليس بالضرورة دور نخبوي يملى على الجماهير من منبر في خطبة عصماء، سواء كان المثقف مؤيداً للسلطة أم معارضاً لها.
فالمثقف جزء من الجمهور، يسعى لتغيير واقع، حتى إن كان في مساحة ضيقة؛ أي إنّ خطابه إن اتّسم بالاستعلاء الثوري أو السلطوي فقد مضمونه، فبعض المثقفين المعارضين يطالبون الجماهير بالتضحية من أجل الثورة، بينما يطالب المثقف المؤيد للسلطة بأن تضحي الجماهير من أجل أن يحيا الوطن، والسؤال الذي تتداوله الجماهير في عمق المجتمع هنا هو: يحيا لمن؟!



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية