الفساد وتحوّلات الفهم في العراق (1 من 2)

الفساد وتحوّلات الفهم في العراق (1 من 2)


09/08/2022

عقيل عباس

يثير الفساد أشد أنواع الغضب المشروع بين العراقيين ضد الطبقة السياسية الحاكمة، إذ صار الصفة التعريفية الأساس للنظام السياسي العراقي، متجاوزاً، في انتشاره وتَجذّره، الاختلافات العرقية والدينية. وصل هذان الانتشار والتجذر إلى حد أن أعضاء الطبقة السياسية أنفسهم، كرداً وسنةً وشيعة، يقرون بالفساد كحقيقة راسخة يستحيل تغييرها من دون تصدع عميق في النظام السياسي أو نهايته. على هذا النحو أيضاً، صارت معارضة الفساد صفة تعريفية لغضب المجتمع ضد الطبقة السياسية، إذ تُوحّد النقمةُ الشعبية ضد الفساد العراقيين، كمجتمع، ضد الساسة ومنظومة الأحزاب المتشاركة بالحكم والثروة والنفوذ.

ساهمت تجربة النظام السياسي العراقي الصعبة، التي تبدو الآن مثل كابوس مفتوح نهايته ليست منظورة، في إعادة صياغة فهم الناس العاديين لمعنى الفساد، بوصفه خطراً حقيقياً على المجتمع، على أنه سلوك سياسي يتعلق بكيفية إدارة المال العام وليس سلوكاً اجتماعياً يتعلق بالخيارات الفردية للأشخاص العاديين. قبل عام 2003، كان الفهم الشائع للفساد في البلد مختلفاً كثيراً ويتمحور حول الأخلاق عبر ربطه بالسلوك الخاص للأفراد في حيواتهم الشخصية وتشخيصه على أساس منظومة الأخلاق الاجتماعية السائدة التي يهيمن عليها خليط من قيم عشائرية وأخرى دينية. بلغ هذا الفهم الأخلاقي للفساد ذروته في السنوات الأولى من حياة النظام السياسي الجديد إذ ساهمت أحزاب الإسلام السياسي الشيعي، كجزء من ايديولوجيتها المتعلقة بالإصلاح الأخلاقي للمجتمع عبر الدين، في ترسيخه مستفيدةً من تجربة الحملة الايمانية التي شرع بها النظام البعثي السابق في التسعينات في إطار سعيه لتوفير ملاذات روحية ونفسية للمجتمع، هروباً من وطأة العقوبات الاقتصادية القاسية التي تسببت بها سياساته جراء غزوه الكويت في 1990.

في السياق الأيديولوجي للأحزاب الإسلامية الشيعية المتصدرة مشهد السياسة، كان "حسن الأخلاق"، بالفهم الديني والاجتماعي السائد له عراقياً وعربياً حينها، مكسباً سياسياً، بسبب الربط الوثيق في داخل هذا الفهم بين الأخلاق الدينية وجودة الحكم. فالحاكم الجيد هو صاحب التقوى الدينية الذي يخاف الله، وبالتالي يراعي مصالح الناس في حكمه. لعب هذا الفهم التراثي لعلاقة الأخلاق بالسياسة دوراً مهماً في الانتصارات الانتخابية المتتابعة التي حققتها الأحزاب الإسلامية الشيعية، بدعم من المرجعية الشيعية التي تبنت أيضاً هذا الفهم ورَوجت له لمصلحة هذه الأحزاب.

بمرور السنوات، عندما ظهرَ جلياً فشل هذه الأحزاب في إدارة الدولة وانغماسها في الفساد بالتشارك مع أحزاب كردية وسنية والعناء المتصاعد للناس من النتائج الكارثية لهذا الفساد، بدأ عموم المجتمع يتحرر من النظرة التراثية لمعنى الأخلاق وصلتها بالسياسة، لصالح نظرة أخرى حداثوية أخذت تتشكل تدريجياً تقوم على ربط الوقائع المادية المحسوسة لسياسات السلطة بتقييم الأداء السياسي للأحزاب التي تمسك بالسلطة. لم يكن الأمر يحتاج الكثير من الجهد لاكتشاف المأزق العميق الذي أدخلت هذه الأحزاب البلد فيه جراء تغولها على المال العام وإساءة إدارتها له وتكاتفها البنيوي، بغض النظر عن اختلافاتها السياسية والهوياتية، لمنع المساءلة القانونية عن الفساد الناتج عن أي منها.

في إطار هذه النظرة الحداثوية التي لم تأخذ شكلاً متماسكاً على صعيد المعرفة بسبب شحة المعلومات الموثقة والدقيقة عن الفساد وهيمنة الغضب الشعبي في الرد عليه بعد اليأس من التعقب القضائي والمؤسساتي له، برزت مقولات اشكالية ترسخ أحاسيس العجز بخصوص امكانية فعل أي شيء جدي لردع الفساد مثل شمول كل ساسة نظام ما بعد 2003 به، على المستوى الفردي، واستحالة ردعه عبر أي إصلاح مؤسساتي أو جهد شعبي في ظل النظام الحالي. قد يساعد فهم دقيق للفساد على تجاوز هذه المقولات ووضع المشكلة العراقية بخصوص الفساد في إطارها الصحيح.

أحد التصنيفات السائدة للفساد هو التمييز بين نوعين منه: الفساد السياسي والفساد البيروقراطي. منذ عقد التسعينات، اعتاد العراقيون على التعاطي مع النوع الثاني كحقيقة يومية في حياتهم: الفساد البيروقراطي. يختص هذا الفساد عموماً بالمؤسسات العامة التي تقدم الخدمات المختلفة للمواطنين من مدارس ومستشفيات ودوائر الضرائب والتسجيل والملكية والمرور والشرطة وسواها. يقوم عاملون في هذه المؤسسات بابتزاز المواطنين عبر طلب الرشاوى و"الهدايا" من أجل حصول هؤلاء المواطنين على الخدمات. هذا الفساد ليس موجهاً ولا مُنظماً وإنما يحدث بسبب ضعف الرقابة وهشاشة الردع المؤسساتي وتراجع قيمة الأجور التي توفرها الوظيفة الحكومية للموظفين العموميين. يُضعف هذا الفساد الحافزَ الاقتصادي لدى المستثمرين ويبطئ حركة الاقتصاد، خصوصاً في الدول التي يسود فيها التخطيط المركزي وتهيمن الدولة فيها على الموارد الاقتصادية. أما النوع الأول، الفساد السياسي، فهو الأشد خطورة والأكثر تأثيراً سلبياً على الاقتصاد وحياة المجتمع لأنه فساد موجه ويُدار من أعلى السلطة ويتحكم بموارد واسعة. يعني الفساد السياسي قيام صناع القرار المنتخبين، بتغيير وظيفة السلطة الممنوحة لهم من خدمة الصالح العام للمجتمع، الذي هو سبب انتخابهم ووجودهم على سدة التشريع والحكم، إلى خدمة الصالح الخاص المتعلق بهم وعوائلهم وشركائهم وحلفائهم.

يشمل الفساد السياسي طيفاً واسعاً من الأفعال مثل صناعة قوانين وأنظمة فاسدة وتحريف تطبيق القوانين والأنظمة الجيدة بما يؤدي إلى منح عقود لشركات غير مؤهلة وتكليف غير المؤهلين بالمهام والوظائف المهمة وتلقي الرشاوى والعمولات ووضع الأولويات السياسية والاقتصادية الخاطئة من أجل المنفعة الخاصة وليس العامة. في آخر المطاف، وعلى مدى زمن طويل نسبياً تؤدي هذه الأفعال القصدية الى إغناء أقلية صغيرة متحالفة مع صناع القرار الفاسدين ومتشاركة معها في المكاسب، على حساب المجتمع الذي يتعرض إلى إفقار تدريجي يمكن له أن يتحول إلى غضب شعبي تزدهر فيه دعاوى شعبوية تلقى رواجاً بين الجمهور.

مؤسساتياً، تَغذى الفساد السياسي في العراق على منظومة الديموقراطية التوافقية للحكم وادارة الدولة التي تشكلت بين عامي 2003 و2005. في الذهن الشعبي واللغة السياسية الشائعة اتخذت هذه المنظومة تسميتي التوافقية والمحاصصاتية التي بموجبها يحصل كل الفائزين بمقاعد برلمانية في الانتخابات العامة على حصة في السلطة التنفيذية متناسبة مع عدد مقاعدهم. لعب إلغاء التنافس السياسي عبر الوأد المبكر لفكرة المعارضة البرلمانية وتوزيع مؤسسات الدولة على أحزاب سياسية مختلفة دوراً بارزاً في صناعة التواطؤ السياسي اللازم لتوفير الحصانة من العقاب على الأفعال الفاسدة والخارقة للقانون، فيما اكتفى قضاء مُسَيّس بإمضاء الصفقات السياسية الفاسدة وبغض الطرف عن المخالفات القانونية الفادحة التي يرتكبها الساسة وشركاؤهم من رجال الأعمال ليصير الفساد في البلد بنيوياً ومتجذراً. عبر هذا كله، أصبح النظام السياسي يُعَرَّف على أساس وظيفته الاقتصادية غير المعلنة: نظام كليبتوقراطي، أي النظام السياسي الذي يقوم على النهب المنظم والواسع للموارد العامة من جانب طبقة الساسة الماسكين بالسلطة. الترجمة العربية الشائعة للكليبتوقراطية هو نظام اللصوصية أو نظام حكم اللصوص.

في أيامنا هذه، يعيش النظام الكليبتوقراطي العراقي إحدى أشد أزماته بإزاء مجتمع غاضب يتصاعد رفضه له باضطراد. المفارقة هي أن أساطين هذا النظام لا يدركون عمق أزمة نظامهم والغضب الشعبي ضده والآفاق المحدودة التي تضيق بسرعة أمامه. من يقوده حس زائف بالثقة تفاجئه دائماً النتائج المتوقعة للأفعال الخاطئة.

عن "النهار" العربي




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية