![العجوز والبحر: حينما يتجاوز السرد حدود الرواية العجوز والبحر: حينما يتجاوز السرد حدود الرواية](/sites/default/files/styles/single_main_image/public/%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8_43.jpg.webp?itok=6s-WYZO_)
رواية يمكن أن يُطلق عليها التجلي، وقليلة هي الروايات التي يمكن أن تُصادفها وتشعر معها بأنّها مدّت قوتها السردية إلى أعماق الوجود الإنساني، قليلة هي الروايات التي تشعر معها بأنّها وصلت إلى روح الوجود الإنساني، فوصفته وشخصته ورفعت ممكناته.
في بلد فقير مثل كوبا، يخرج صياد عجوز للصيد لمدة (84) يوماً، ويعود خالي الوفاض، لا يحالفه الحظ ولا يمسه الرزق، حتى صار مثالاً لسوء الحظ بين أهالي قريته، غير أنّ صيادنا العجوز كان في أيام شبابه موفور القوة وأمهر صيادي القرية، وله صولات وجولات في البحر والحياة، لكنّ الأيام انقلبت عليه حتى أنّ والدي الغلام الذي يساعده أمراه بتركه بعد أن أشاح الزمن بوجهه عنه، ومع ذلك ظلّ الغلام وفيّاً لمعلمه، يحبه العجوز، ويحترمه الغلام.
الحياة هي الرواية الكبرى
السمة الرئيسية في هذه الرواية هي متناقضاتها أو مفارقاتها، حتى أنَّ هذه المتناقضات تمتد إلى خارج عالم الرواية، وتشمل كاتبها، وكأنّما الوجود هو السردية الكبرى، وكأنّما الرواية الكبرى هي الحياة. لن يمر بذهن القارئ بسهولة ودون صدمة، أنَّ الكاتب الذي كتب العجوز والبحر، الرواية التي تُمجّد الحياة وتُعظّم الأمل وتحارب عتمة الإحباطات الإنسانية، يموت مُنتحراً. فقد أنهى هيمنغواي صلته بالحياة تماماً بأن أطلق النار على نفسه ببندقية صيده التي رافقته معظم عمره، بعد أن عرف أنّه مُصاب بداء الخرف، وهو الداء الذي سيستفحل مع الوقت ويمسّ كبرياءه، ومسألة الكبرياء هي سمة جوهرية في شخصية هيمنغواي، وهو ما تتلمسه بسهولة في كل أعماله ومحطات حياته، وهو ما يبدو جليّاً أيضاً في قصتنا هذه. حيث إنّ كبرياء العجوز يتبلور حول صبره على الحياة والعيش، وألّا يستقر اليأس وعدم القيمة في أعماقه، حتى إذا كان كل ما حوله ينحو به نحو هذا، يتخذ موقفاً شجاعاً، ويستبسل مدافعاً عن شرفه كصياد، وعن حقه كإنسان يُعطي ويفعل لآخر لحظة، وهو ما أراه مُختلفاً عن هيمنغواي في قرار انتحاره.
لا بدّ أنّ هذا الكاتب الذي حاز مقداراً كبيراً من الوسامة الخُلقية والعقلية ويحترف الأدب، المهنة التي تعتمد على قوة الذهن وصفاء الروح، مَسَّت كبرياءه شدة مرضه، فآثر أن يُنهي الحياة بشجاعة صياد، وأن تكون آخر طرائده نفسه، أو بدقة أكثر أن يكون كبرياؤه آخر طرائده، كبرياء أراه مُصاناً حتى آخر نَفَس، وهو قرار على تطرفه لا يمكن ألّا ترى فيه شجاعة، فهو قرار لروح ملكية، أرادت أن تعيش عزيزة حتى النهاية، ولعل هذه واحدة من مُفارقات الرواية وكاتبها، فرغم أنّ هيمنغواي آثر الموت، وبطله آثر الحياة، فكلا الموقفين كانا على حديتهما استملاكاً للمصير، وكلا الموقفين كانا حفاظاً على الكبرياء والقيمة.
سنتياغو الصياد المُصمم على الحياة، الذي يخرج (64) مرة للبحر وعلى وفرته لا يُعطيه، يتعرض للسخرية من الصيادين الشباب والشفقة من كبارهم، غير أنّه يعاند ويخرج في اليوم الـ (65) ليُجابه البحر، ويصمم على الحياة حتى آخر نَفَس.
الانتصار الحزين
تبدو المفارقات واضحة في ثُنائية "الشيخ والغلام"، في حقيقة الحياة التي يلزمها أن تُمرر معارف الكبار إلى الصغار حتى يتراكم الرصيد الإنساني، وكأنّ الحياة هي التي تُراكم نفسها وتُثقل صيرورتها بالموجودات الإنسانية، والبشر مجرد مفاعيل صغيرة وكبيرة في آنٍ واحد، وهذا ما يتجلى في إرادة سنتياغو الصُلبة، وفي الوجود الإنساني الذي يواجه حقيقة الشيخوخة والعزلة الاجتماعية والفقر واليأس والجوع، ويخرج من كل هذه الأمور منتصراً، إنّه انتصار مختلف لا يضمن "الحوز"، وإنّما "الإرادة والاستمرارية"، لهذا كان الانتصار الحزين لسنتياغو في آخر الرواية هو انتصار لواحدة من أقدس قيم الإنسانية، وآخر وصايا الأنبياء حول ما يجب أن نفعله على الأرض، حتى لو أنّ قيامتنا تقوم أو قيامة العالم تبدأ: "اغرس فسيلتك".
واحدة من مُدهشات الرواية أيضاً، هي الصداقة التي ربطت بين سنتياغو والسمكة الضخمة في أعماق المُحيط، التي أمسكت بصنارته دون أن تُسلمه نفسها تماماً، شعوره باحترامها والشفقة عليها أيضاً، هي إنسانية نادراً ما نراها بين الصياد المقتنص للفريسة، أيّاً كانت رمزية الفريسة ورمزية الصياد، ليعطي سنتياغو معنى مختلفاً غير العدائية التي تكتنف المطارد والهارب، وليكن هناك شيء من النبل دائماً، حتى ونحن نضطر أن نقتل، مُبرزاً حقيقة أنّ الشر الطبيعي، أو الشر في الطبيعة؛ هو جزء من مكونات الوجود، وليس الشر دائماً مفهوماً مضاداً للخير، بل يمكن في أحيان كثيرة أن نقبل القول بأنّ للشر وجهاً آخر للخير أقلّ نعومة، لقد قضى نهاره وليله ونهاراً آخر يُحايل الرزق المُتخفي الذي يشعره ويثقل كاهله ويُدمي جبينه، ويعلمه الصبر؛ فيسمح لنفسه بالاعتراف بالتعب دون الركون للاستسلام، بينما حبل الصنارة مُلتف حول جسده، يُثقله رزق صعب، فيُعدل سنتياغو أوضاعه، يقرأ البحر والتيار وباطنه وبواطن السمكة والخطاف في جوفها، كما يقرأ إنسان علامات الطريق.
جُسدت هذه القصة على شاشة السينما، فأضاف أنتوني كوين ببراعته الجسدية والحركات والتعبيرات المُبدعة للجسد الأثيري، وقبض بخبرة كبيرة على روح شخصية سنتياغو.