السودان وحكم "الإخوان"... البشير ومعضلة السياسة الخارجية (5 -6)

السودان وحكم "الإخوان"... البشير ومعضلة السياسة الخارجية (5 -6)

السودان وحكم "الإخوان"... البشير ومعضلة السياسة الخارجية (5 -6)


20/04/2024

حامد الكناني

ورثت السلطة العسكرية في السودان عام 1989 أزمات داخلية وخارجية عدة، على الصعيد الداخلي كانت قضية الجنوب وقوات جيش تحرير السودان التي كانت تسيطر على مناطق شاسعة ومدعومة من جهات غربية وأفريقية. واستنزفت الحروب قدرات السودان الاقتصادية والعسكرية والسياسية وعطلت التنمية في هذا البلد العربي لعقود من الزمن. كما أقلق الطابع الإسلامي ودور جماعة الإخوان في الانقلاب العسكري في السودان الدول العربية والغربية. على الصعيد الخارجي كانت السياسة الخارجية السودانية تسودها العواطف والأيديولوجيات لا المصالح الوطنية وكانت تتسم بالتناقض نوعاً ما، فمن جانب دفعت جماعة الإخوان المسلمين السودانية، الخرطوم إلى التقارب مع طهران والسماح لإيران بتدشين ميليشيات عسكرية على غرار الحرس الثوري الإيراني ومن جانب آخر التيارات القومية واليسارية فتحت المجال للحركات الفلسطينية التي نفذت عدة عمليات عنيفة أدت إلى إلحاق الضرر بالسياسة الخارجية للسودان.

تصفية سفراء أجانب

حين أراد مجلس قيادة الثورة عام 1989 إصلاح الأمر واختار بغداد بدل طهران وذهب البشير فور تسلمه السلطة إلى بغداد لمشاركة العراقيين احتفالات استرداد الفاو، لم يحالفهم الحظ في تحسين علاقات السودان الخارجية حيث حدث الغزو العراقي للكويت بعد زيارة البشير ببعض شهور. وحين بدأت قوات التحالف الدولي في حرب الخليج الثانية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية الاستعداد لتحرير الكويت كان القلق يسود العواصم الغربية بعد ما زود مخبر سري الحكومة البريطانية بمعلومات تفيد بأن العراق يعتزم تصفية عدد من السفراء الأجانب في الخرطوم. وجاء في إحدى وثائق ملف العلاقات بين السودان والعراق ضمن مراسلات وزارة الخارجية البريطانية التي رفع عنه الطابع السري أخيراً، ما نصه:

"30 أكتوبر (تشرين الأول) 1990. اتصل مخبر سري قبل بضعة أيام بدائرة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في وزارة الخارجية البريطانية في لندن لنقل تقارير تفيد بأنه إذا اندلعت نيران الحرب في الخليج؛ فإن العراقيين يعتزمون تصفية عدد من السفراء الأجانب في الخرطوم، بمن فيهم السفير البريطاني. يعلمون أن سفيرنا لديه 5 رجال من القوات الخاصة (SAS) لحمايته. ومع ذلك، كان العراقيون ينظرون إلى السودان على أنه بطن رخو لتنفيذ هجمات إرهابية". 

"لقد أدهشني (مخبري) دائماً على اطلاعه الجيد بشكل لا يصدق حول السودان وسياسته الداخلية. أخبرني أن معلوماته جاءت من عدة مصادر منفصلة وأنه يعتبرها موثوقة. الظروف التي لا ينبغي تجاهلها، بخاصة إذا أخذنا في الاعتبار الملاحظات الأخيرة التي أدلى بها الدابي لكارسون حول التهديد المحتمل لهجوم إرهابي في السودان. قد تشعر أنه من المناسب تذكير وزارة الخارجية، ومن خلالها الوكالات المحلية ذات الصلة، بالتزامها بضمان الحماية الكافية لك شخصياً ولسفارتك والمجتمع البريطاني".

تم تقييم المعلومات بشكل كامل هنا. في الوقت الحاضر لا يوجد شيء متاح لنا في لندن يؤيد المعلومة. ومع ذلك، فإننا نشعر، وأنا واثق من أنكم ستشعرون، أنه لا ينبغي تجاهل هذه المعلومات في الظروف الراهنة، لا سيما إذا أخذنا في الاعتبار الملاحظات الأخيرة التي أدلى بها الدابي لكارسون حول التهديد المحتمل لهجوم إرهابي في السودان".

استهداف البعثات الدبلوماسية

تتحدث وثيقة بريطانية أخرى عن عملية تصفية كوادر البعثات الدبلوماسية السودانية بما فيها السفارة السودانية في بغداد وعن خطة الحكومة العراقية لترحيل المصريين والسودانيين العاملين في العراق فترة الحرب الإيرانية- العراقية (1980-1988) من تحديد سقف محدد للمبلغ السنوي للتحويلات المالية للمقيمين في العراق. جاء في الوثيقة ما نصه: "18 سبتمبر (أيلول) 1989، جاء زميلي السوداني، محمد أحمد الميرغني، لتوديعي بعد سنتين في بغداد. وقال إن إقالته سابقة لأوانها وهي جزء من إجراء أوسع لاستبدال السفراء، في بعض السفارات، بمحسوبين سياسيين. كان مستقبله غير مؤكد. كان بحاجة إلى العودة إلى الوطن والتعريف بنفسه للنظام الجديد. سألته عن وضع العمال السودانيين في العراق. وقال إنه نتيجة للمرسوم الأخير الذي يخفض تحويلات العمال الأجانب من 800 دولار سنوياً إلى 300 دولار سنوياً، فإن ما يقرب من 70 في المئة من العمال العرب هنا سيغادرون العراق. وتكهن بما إذا كان هذا ليس الدافع بالفعل. أراد العراقيون الحد من تدفق العملة الصعبة إلى الخارج. وادعى أن المصريين مستاؤون بشكل خاص الآن لأنهم أعضاء في لجنة التنسيق الإدارية وبالتالي يجب أن يعاملوا معاملة خاصة. سألت عما إذا كان أي سوداني في الانفجار بالقرب من الحلة. وقال إنه لم تقع إصابات سودانية، لكنه فهم أن هناك بعض الإصابات بين الخبراء المصريين. وقال إنه سمع أن العراقيين كانوا يتبعون سياسة تخفيض عدد العمال الأجانب في مؤسساتهم العسكرية، وهذا يمكن أن يفسر لماذا، كان هناك عدد قليل نسبياً من الأجانب في الحادث".

اشتباه بالتجسس

"لا تزال السفارة السودانية هنا في مسؤولية السكرتير الثاني، الذي كان مخبرنا بشأن النقاط الواردة أعلاه. وقد نقل السفير السابق في أغسطس (آب) إلى الخرطوم ويبدو أنه انضم إلى موظفي الرئاسة هناك. علي أدهم (مصدر جيد لي) على ما يبدو يمر بأزمة، منذ نحو شهر أخبرني أنه كان يأمل في قضاء عطلة طويلة طال انتظارها في سيشيل بمجرد وصول السفير الجديد (متوقع في بداية ديسمبر/ كانون الأول ولكن لم يصل بعد) ومع ذلك، قيل لنا أن أدهم قد أقيل من الخدمة الخارجية بسبب اتهامات نسبت له، ومن المقرر أن يعود إلى الخرطوم ليس للتقاعد ولكن لمحاكمته، للاشتباه في تجسسه لمصلحة العراق. على ما يبدو عندما كان أدهم صغيراً كانت له صلات مع مختلف المنظمات الشيوعية (الصينية). وقد اكتشف العراقيون ذلك ونجحوا في ابتزازه للتجسس لمصلحتهم. أدهم لم يغادر العراق بعد، بحسب التهمة، ويحاول بدلاً من ذلك السفر إلى الولايات المتحدة أو المملكة المتحدة، مستخدماً عذر رغبته في إجراء المزيد من الدراسات، ولكن في الواقع من أجل سلامته الشخصية. على رغم أن أدهم، وفقاً للسودانيین، قد تلقى بالفعل نماذج طلب تأشيرة منا، إلا أن مسؤولي إدارة التأشيرات في بريطانيا الذين هم على علم بملفه لم يتلقوا أي طلب منه. وهكذا قالت سفارة الولايات المتحدة التي تشاورنا معها. لكنهم سمعوا أنه قبل بضعة أشهر وقع على عريضة تهاجم النظام الجديد في الخرطوم".

استياء من تغيير النظام

"أخبرنا المسؤول السوداني في الماضي أنه كان يعمل لمصلحة الاستخبارات السودانية وأظهر في بعض الأحيان بعض الميول نحو جنون العظمة بشأن المسائل الأمنية، لكن الرواية أعلاه تجعل القراءة مثيرة للاهتمام بالتأكيد. لم يخف أدهم استياءه من سفيره ومن تغيير النظام في الخرطوم، وبهذا المعنى لست مندهشاً من أنه واجه مشكلات حقيقية. ربما كانت لديه ميول يسارية في الماضي وكثيراً ما انتقد الحكومة العراقية على أساس أنها أظهرت ميولاً نحو الفاشية، ويقول إن الفاشية كانت واحدة من دراساته في الجامعة. مهما كانت القصة الحقيقية (سوف نكشف عن المزيد من التفاصيل بالطبع)، فإن الوضع المذكور أعلاه لا يمكن أن يساعد السفارة السودانية هنا على العمل بفعالية في محاولتها لاجتثاث الموالين للعراق. لقد كان السفير السوداني السابق عاملاً فعالاً ومطلعاً، والسودانيون في حاجة ماسة إلى التعيين المبكر لخليفة قادر".

تعرض دبلوماسي هولندي وآخر بريطاني للإساءة من قبل مسلحين كانوا يرتدون ملابس مدنية حيث تم إطلاق النار على سيارة السفير البريطاني في الخرطوم الذي كان برفقة عائلته ولوح بمسدس في وجهه.‏ واعتبرت وزارة الخارجية البريطانية أن هذا النوع من السلوك غير مقبول على الإطلاق وأنه يجب على السلطات الأمنية في السودان ممارسة ضبط النفس والاحترام المناسبين.‏

توضح البرقية السرية المرسلة من السفير البريطاني في الخرطوم بتاريخ 22 يوليو (تموز) 1990 إلى وزارة الخارجية البريطانية في لندن حيثيات هذه الحوادث، إذ جاء في البرقية ما نصه:

"وقع الحادث الأول بعد نحو 10 أيام من وصولي إلى الموقع. حاولت مع اثنين من أعضاء فريق الحماية الذهاب إلى نهر النيل عند جسر أم درمان للنزهة ومشاهدة بعض الطيور. كان الوصول إلى الضفة الغربية من الجسر مستحيلاً لأن المسار الذي يستخدم عادة قد تم تسييجه حديثاً من قبل الجيش وتحرسه القوات. لذا قمنا بالتفاف كبير وصلنا فيه إلى نقطة تفتيش يديرها رجل أمن واحد يرتدي ملابس مدنية. شرحنا نيتنا وكشفت الحماية بطاقات هوية (لم يتم إصدار واحدة لي). أصبح رجل الأمن متحمساً للناظور الميداني الذي كان معي حيث ظن خطأ أنه كاميرا. وبما أنه بدا وكأنه في حالة غضب، قررنا أن نتراجع ونعود إلى الوراء، موضحين، باللغة العربية، أننا لم ندرك أن الطريق يؤدي إلى منطقة حساسة على ما يبدو. في هذه المرحلة أخرج مسدسه ولوح به أمام وجهي محاولاً منعنا من الحركة. ونتيجة لمزيد من التوضيح وتدخل أحد المارة، نجحنا في إقناعه بأننا موظفون دبلوماسيون وأن الخطأ كان حقيقياً. سمح لنا بالعودة إلى الخرطوم بمجرد أن فحص الناظور واقتنع بأنه ليس كاميرا.

ووقع الحادث الثاني مساء يوم 20 يوليو (تموز). ذهبت أنا وزوجتي إلى المطار لاستقبال ابننا. بسبب التأخير، إذ وصلت الطائرة بعد حظر التجول ولكن تم تحذير السلطات من أننا سنقوم بالرحلة. مررنا بنقطة تفتيش عسكرية قبل وقت قصير من الوصول إلى المطار. لم يظهروا أي علامة على الاهتمام. عند مغادرة المطار بعد نصف ساعة تقريباً مررنا بنفس الحاجز. كما كان من قبل لم يظهروا أي اهتمام، على رغم أننا تباطأنا، لذلك افترضنا أنه يمكننا الاستمرار. نظراً لأننا كنا على بعد نحو 100 ياردة، تم إطلاق صافرة مرتين. نظرت زوجتي إلى الوراء ورأت جندياً يصوب سلاحه نحو السيارة. أطلق رصاصتين، لم يكن أي منهما أصابتنا. توقفنا وسمحنا للجنود بالصعود. احتجيت وطلبت مقابلة ضابط. عدنا إلى الحاجز وعندها اختفى الجندي في الظلام. بعد ذلك بوقت قصير ظهر ضابط في ثياب مدنية من الاتجاه المعاكس. وبعد سماع رأيي في الحادث، بدا مستاء حقاً واعتذر بشدة".

عن "اندبندنت عربية"




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية