طارق القيزاني
الرئيس منصب سياسي بامتياز وليس بالضرورة أن يكون جامعا بأدق معارف القانون والدستور. وكذلك الدولة ليست مجرد إقليم ومجموعة بشرية وسلطة سياسية تبسط سيادتها على رقعة من الأرض.
لا تنسف المقومات القانونية لكيان الدولة أو اختصاصات السلطة السياسية، التراكمات التاريخية والثقافية التي تصنع هوية الشعوب وتمثل جزءا من واقعهم وحياتهم، فالدولة في تقدير عالم الاجتماع دوركايم لا تعدو أن تكون سوى تجسيد للتمثلات الجمعية وتصور سياسي لما ينبغي أن يكون عليه الواقع.
وتاريخ الدولة ليس مجرد أرشيف كما أن القانون لا يلغي المقاربات السوسيولوجية والثقافية وحتى علوم الاتصال عند ممارسة السلطة. إذ مثلا ليس هناك من تفسير يدفع الرئيس الظاهرة في تونس، قيس سعيد، إلى القفز على الرموز التاريخية للدولة؛ سفينة عليسة والقائد العسكري القرطاجني حنبعل والزعيم الراحل بورقيبة مؤسس دولة الاستقلال، من الواجهة التي تعوّد الزائرون لقصر قرطاج الرئاسي أن يلقوا من خلالها بتصريحاتهم إلى الصحافة والرأي العام وتنقلها الكاميرات إلى الداخل والخارج.
ليس هناك من معنى وراء تحييد الدولة وعزلها عن إرثها الثقافي والتاريخي. يرجع الفقهاء في أوروبا مثلا ومن بينهم أندري هوريو بروز الدساتير المكتوبة والمؤسسات الأولى للدولة الحديثة إلى صعود الطبقة البرجوازية في القرنين 16 و17 وسيطرتها على وسائل الإنتاج ومن ثم بداية ظهور هياكل جديدة قادرة على خدمة مصالح هذه الطبقة وهي النواة الأولى لوجود الدولة الحديثة في أوروبا. بل إن فقهاء المدرسة التقليدية في أوروبا يشددون على عناصر الجغرافيا واللغة والدين في ظهور الدساتير والدولة أو المجتمعات السياسية كما نعرفها اليوم في تلك القارة، من خلال ظهور وحدات بشرية متجانسة تتحدث لغة واحدة مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وتستند إلى إرث الديانة المسيحية.
مثلا تتباهى الشعوب الأسكندنافية حتى اليوم بتاريخ أجدادها من قبائل الفايكينغ ولا يحفظون عنهم سوى مآثرهم الثقافية وكل ما أنتجوه في سبيل نحت حضارة وهوية هذه الشعوب برغم حروب الاستيطان والإغارة والقرصنة التي طبعت تاريخ هذه القبائل خلال العصر الوسيط في أوروبا وعبر الحروب الصليبية في الشرق.
في تونس يقدم الرئيس القادم من مدارس القانون والدستور نفسه فوق الأحزاب، وهو أمر بديهي في منصب رئيس لكل التونسيين ورجل ساهر على تطبيق القانون. وهو ما فتئ يذكر الجميع بمناسبة أو دونها بفصول الدستور وعلويته. لكن سعيد لم يعرج في خطاب التنصيب على أيّ من عناصر هوية الدولة ورموز الفكر والإصلاح والمؤسسين الأوائل. لا شيء من تاريخ الدولة!
فهل هي جمهورية ثالثة يتوجب أن تطبع بحقبة سعيد أم هي كما سماها “ثورة ثقافية ” بمنهج القطع وإعمال المعاول على منوال ثورة ماوتسي تونغ.
يصبح الأمر أكثر إثارة مع تقاطر الوفود الشعبية من المناطق الداخلية إلى القصر الرئاسي ودعوات سعيد المتكررة إلى بسط سلطة الشعب، بمنحه الآليات القانونية لفعل ما يطمح إليه من تغيير وبناء، وفي تلميح متكرر لمشروع حكم المجالس المحلية، وهي نظرة قانونية ضيقة تلخص كل الحلول للأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تتخبط فيها الديمقراطية الناشئة.
مع أن هذا يتعارض مع التعليق المرجعي لجون جاك روسو في تعريفه لفكرة الديمقراطية المباشرة، حيث اعترف بأن الشعب يحتاج إلى أن يكون أفراده من آلهة حتى يحكم نفسه بنفسه بصفة ديمقراطية وعادلة.
قد لا يفوت في هذا السياق استحضار المقطع الساخر لسلطة الآغا في مسرحية “غربة” للكاتب الراحل محمد الماغوط وسؤاله عن الدستور الذي أكله الحمار، في تلخيص رمزي لعلاقة الحاكمين بالدساتير الجوفاء والمبررة لكل أشكال الطغيان في المنطقة العربية، مع ذلك فإن اعتبار الدستور لدى الشعوب المحررة، كحل سحري لكل مشكلات الفساد والبطالة والفقر والتفاوت الاجتماعي والجهوي، أمر لا يقل بدوره سخرية عن الحمار آكل الدستور.
عن "العرب" اللندنية