"الخلافة العثمانية"... 100 عام بعد السقوط والجدل

"الخلافة العثمانية"... 100 عام من السقوط

"الخلافة العثمانية"... 100 عام بعد السقوط والجدل


12/03/2024

عمرو فاروق

تمرّ هذه الأيام الذكرى المئة على سقوط "الخلافة العثمانية"، في آذار (مارس) 1924، بعد قرار كمال أتاتورك، عزل السلطان عبد المجيد الثاني، وتشكيل حكومة وطنية، وبناء تركيا الحديثة، وفق تأصيل شرعي طرحه المجلس الوطني الكبير، حول موقف الشريعة الإسلامية من قضية "الخلافة" تحت عنوان "الخلافة وسلطة الأمة".

منذ ذلك التاريخ، والعالم العربي يعيش في متاهة حقيقية نتيجة التوظيف السياسي لـ"عودة الخلافة"، واعتبارها ركناً من ثوابت العقيدة، وتحويلها إلى مشروع فكري وحركي وتنظيمي، تمّ في إطاره احتكار "الإسلام" ومقاصده، في أيدي فئة منحت الآخرين صكوك الانتماء إليه والخروج منه، وشرعنت لصناعة الجماعات الأصولية المسلحة، التي تباكت على أمجاد نوستالجيا "الخلافة العثمانية".

"الخلافة" في ذاتها ليست من ثوابت الإسلام وعقيدته، إذ لم يرد في القرآن الكريم ولا في الأحاديث النبوية، نص صريح يدعو المسلمين إلى اختيار نظام سياسي معين، ولم يرسم ملامح حكومة تحمل طابعاً محدّداً، إذ أنّها جزء من متغيّرات الحياة العامة وتطوراتها التي تُركت للاجتهاد في ما يخص مراعاة ظروف الناس وأحوالهم.

غالبية النظم السياسية التي تشكّلت على مدار التاريخ القديم والمعاصر، تمثل في ذاتها نظماً اجتماعية خضعت للظروف التاريخية المتعلقة بالواقع الذي نشأت في محيطه، إذ إنّ السلطة السياسية لا تحمل دلالة الوظيفة الدينية، بقدرة دورها في الحفاظ على حقوق الناس ومصالحهم، كما أنّ الهوية الإسلامية للمجتمع لا تتوقف على النظام السياسي المعتمد، إنما تتوقف على الارتباط العقائدي، ومدى تطبيق جوهر العبادات والشعائر الدينية.

اعتبرت تيارات الإسلام الحركي في إطار تناقضي، أنّ دولة "الخلافة"، تتشابه في مظلتها بالمدينة الفاضلة أو "يوتوبيا الإسلام"، في تصور خارج النطاق البشري، رغم حجم الجرائم التي ارتُكبت على مدار تاريخها من قِبل ملوكها وأمرائها وسلاطينها، دون مراعاة لحرمة الدماء، أو للسياقات الأخلاقية والإنسانية، فضلاً عن الدينية.

مَن يتباكون الآن على أمجاد "دولة الخلافة" وعدالتها، هم أول من حملوا السلاح واستباحوا دماء أبناء أوطانهم، وفجّروا مؤسساتها، وانتهكوا محرماتها، واستقووا عليها بأغيارها وأعدائها، فكيف لهم أن يقيموا الحق والعدالة، ويحققوا لها أية تنمية أو استقرار، في حال وصولهم إلى الحكم؟، رغم أنّ التجارب المعاصرة للأصوليين في السلطة لم يتمخض عنها سوى السقوط في مستنقع الحروب الأهلية الداخلية.

لم تتمتع تجارب الأصوليين في الحكم، برؤية سياسية حقيقية عن مفهوم إدارة الدولة ومشاريعها، ولم تقتصر سوى على مضامين وشعارات "أسلمة" المجتمعات، دون النظر إلى الواقع المحيط بها لمحاولة فهم الطبيعة البشرية ومتطلباتها الحياتية، والدور المنوط بالسلطة دون النظر إلى انتمائها الديني.

أزمة الإسلاميين أنّهم يربطون بين مفهوم الدولة الإسلامية المرتكز في حيز الأممية والخلافة، وبين سيادة الله في الأرض، نزوحاً تجاه معارضة "الدولة الوطنية" لمفاهيم "الشريعة الإسلامية" التي تمّ اختصارها في سياقات الحكم والسلطة وتطبيق "الحدود"، متجاهلين مفهوم انسانية الإسلام وشموليته وعدالته في تحقيق المصالح العامة، مهما تنوعت التوجّهات الفكرية والانتماءات الدينية.

في كتابه "الدولة المستحيلة"، يرى الأكاديمي المتخصّص في الدراسات الفقهية الإسلامية، وائل حلاق، أنّ نموذج الحكم الإسلامي، لم يعد قائماً منذ نحو قرنين، ما أحدث عملية انقطاع تاريخي بين المسلمين الذين يعيشون في الدولة الحديثة، وبين نموذج "الحكم الديني" الذي لا يمكن أن يتوافق مع الدولة الحديثة.

اعتبر حلاق أنّ "الدولة الإسلامية" مفهوم لا قاعدة له في التجربة الإسلامية التاريخية، بل تمّ إسقاطه على الفكر الإسلاميّ خطأ، إذ إنّ إسقاط مفهوم الدولة الحديثة على التاريخ الإسلامي هو محاولة لجمع بين متناقضين، محاولاً إعادة الاعتبار للشريعة الإسلاميّة كنموذج قيمي يفوق ما وصلت إليه الدولة الحديثة، ومبيناً أنّ قوانين الشريعة جاءت لخدمة الإنسان، وليس لخدمة الدولة وسلطتها.

تحول "الإسلام السياسي"، على مدار قرن من الزمان، إلى أداة ضغط على المجتمعات والأنظمة السياسية، أنفقت خلاله المليارات من الأموال من أجل بناء قواعد فكرية وتكتلات حزبية وحركية وتنظيمية، تعمل على إخضاع المنطقة العربية لاستقطابات مذهبية تنادي بمشروع عودة "الخلافة"، وأزهقت بسببه أرواح الأبرياء، على يد جماعة "الإخوان المسلمين"، والجماعة الإسلامية، وتنظيمات الجهاد، والقاعدة، و"داعش"، و"جبهة النصرة"، و"تحرير الشام"، و"جماعة نصرة الإسلام والمسلمين"، وغيرهم.

عبر إشكالية "عودة الخلافة"، تمّ تنفيذ مشاريع تمزيق المنطقة العربية، فتمّ تدمير كل من اليمن وسوريا والعراق وليبيا والسودان، فلم يكن غريباً أن يدعم المحتل الأجنبي (بريطانيا)، حسن البنا وجماعته الناشئة في آذار (مارس) عام 1928، والداعية إلى عودة "الخلافة العثمانية"، بعد سقوطها بأربع سنوات، وأن يتلقّى البنا من بريطانيا تمويلاً ضخماً حينها، فضلاً عن اللقاءات المتبادلة بين قيادات مكتب الإرشاد، وسفرائها في القاهرة، وفتح أفق الساحات الأوروبية أمامهم بعد صدامهم مع الرئيس جمال عبد الناصر في خمسينات القرن الماضي.

من أجل تمرير مشروع "الإسلام الحركي"، كان لا بدّ من مناهضة الأصوات التي تنادي بالمفاهيم الوطنية والقومية، وإجهاض المدارس الفكرية المستنيرة، التي حاولت التصدّي لأطروحات ابن تيمية، التي ترعرعت في إطارها الحركة الوهابية السلفية، وضربت جذورها في عمق المجتمعات العربية.

في حقيقة الأمر، لم يخسر المسلمون شيئاً بسقوط "الخلافة العثمانية"، على العكس تماماً، تحرّروا من قيود وسيطرة الاحتلال العثماني، وانفك "الإسلام" كـ"دين" عن الجرائم التي ارتُكبت تحت مظلة "الخلافة"، على أيدي سلاطينها، ونُسبت إليه زوراً وبهتاناً، بعدما تمّ تغليفها بالمئات من التبريرات الشرعية، التي وُظفت من أجل تبييض وجوه السلطة الدينية الحاكمة، التي احتكرت الإسلام لنفسها.

في كتابه "الحقيقة الغائبة"، يرى المفكر المصري، فرج فودة أنّ "الإسلام دين وليس دولة، وأنّ الخلافة لم تحمل من الإسلام إلاّ الاسم، وأنّها حدث في التاريخ لا قداسة له، ووقائع جرت في فصول مروية، يمكن نقدها وإدانتها مثلها مثل أي عصر، وشخوصها بشر لا يتعالى أحدهم أمام مراجعة العقل".

لا شك في أنّ إغلاق نافذة العقل، يمثل أكبر نكبة ابتُليت بها الأمة العربية، على مدار تاريخها، في ظل حالة الجمود التي خيّمت على الفكر الديني، والخلط بين السلطة الدينية (سلطة الوحي والتشريع)، والسلطة السياسية (القانون والدستور)، إذ أنّ العقل يعتبر الخصيصة الأولى لأدراك حقيقة الإسلام وشموليته.

عن "النهار" العربي




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية