الحرب الأوكرانية واستحضار قضية تايوان: الحسابات الصينية والأمريكية

الحرب الأوكرانية واستحضار قضية تايوان: الحسابات الصينية والأمريكية


29/03/2022

محمد فايز فرحات

الصين ليست طرفاً مباشراً في الحرب الروسية-الأوكرانية، لكن الطابع المُعقَّد لهذه الحرب، امتد بمدلولاتها وتداعياتها الاستراتيجية المؤكدة والمحتملة ليتجاوز العلاقات الأمريكية/الغربية-الروسية، ليشمل التأثير في مسار العلاقات الأمريكية-الصينية، وفي القلب منها قضية تايوان. 

انبثاق الفُرص من قلب الحرب الأوكرانية

الحرب الروسية-الأوكرانية مثلت فرصة مهمة بالنسبة لكل من الصين والولايات المتحدة لتحقيق عدد من المكاسب السياسية، أو إعادة التأكيد على عدد من الثوابت. فهذه الحرب مثلت بالنسبة للصين فرصة مهمة لإعادة التأكيد على ثلاث مسائل أساسية لها صلة مباشرة بقضية تايوان: 

الأولى، ضرورة تفهُّم المصالح الأمنية الحيوية للدول الرئيسة داخل النظام العالمي. فالعمليات العسكرية الروسية داخل أوكرانيا استندت -وفقاً للخطاب الروسي- إلى عدم تفهُّم حلف الناتو للمخاوف والمصالح الأمنية الروسية. وقد أعلنت روسيا رفضها لمشروع ضم أوكرانيا إلى الحلف، ولم تحصل روسيا في هذا الصدد على استجابة واضحة، الأمر الذي اضطرها إلى التدخل عسكرياً لفرض واقع محدد داخل أوكرانيا، من خلال تجريد الأخيرة من أية قدرات عسكرية تقليدية، أو غير تقليدية (نووية أو بيولوجية محتملة) يمكن أن تمثل تهديداً لروسيا، وصولاً إلى محاولة فرض حالة "الحياد" على أوكرانيا. 

الأمر ذاته، يمكن إسقاطه على حالة تايوان. فإقدام الأخيرة على اتخاذ إجراءات أحادية الجانب، أو بالتعاون مع أطراف خارجية، تخل بالمصالح الأمنية الصينية، سواء تعلق الأمر بالإخلال بمبدأ "السيادة" الصينية على الجزيرة، من خلال إعلان تايوان الاستقلال أو اعتراف الولايات المتحدة باستقلال الجزيرة، أو امتلاك الجزيرة سلاح نوعي يُخِلُّ بموازين القوى مع الصين الأم، فإن الصين تمتلك في هذه الحالة الحقَّ في التعامل العسكري مع مثل هذه التطورات، بما يضمن مصالحها الأمنية والجيو-استراتيجية. 

وإذا نجحت روسيا في حماية مصالحها الأمنية في أوكرانيا، وربما في شرق أوروبا، من خلال التدخل العسكري، دونما رد فعل عسكري مباشر من جانب الناتو، ستكون قد أقرَّت مبدأً مهماً في التوازنات الدولية الجديدة الجاري إعادة تشكيلها، وفي علاقات القوى الكبرى في المرحلة الراهنة من تطور النظام العالمي، وسيُمثِّل ذلك فرصةً مهمةً للصين في إدارة مشكلة تايوان. وفي هذا السياق، يمكن أن نفهم لماذا ترفض الصين بشدة إدانة العمليات العسكرية الروسية ضد أوكرانيا أو وصفها بـ"الغزو"؛ إذ من شأن ذلك خلق سابقة يمكن تطبيقها لاحقاً على أي عملية عسكرية قد تضطر لها الصين ضد تايوان. 

المسألة الثانية، تتعلق بما تتضمنه العمليات العسكرية الروسية من فرصة لتكريس "حق" القوى الرئيسة داخل النظام العالمي في "إعادة هندسة" مجالها الحيوي، ودوائر نفوذها التقليدية والتاريخية. والافتراض المطروح هنا أن نجاح روسيا في "تقليم" القدرات العسكرية الأوكرانية -التقليدية وغير التقليدية المحتملة- سيُكرِّس حقاً مماثلاً للصين، باعتبارها إحدى القوى الرئيسة داخل النظام العالمي، في "إعادة هندسة" مجالها الحيوي المباشر، والذي يضم منطقة بحر الصين الجنوبي، وتايوان، ومضيق تايوان. وهذا لا ينفي أن الصين تقوم بالفعل بالعديد من الإجراءات لإعادة هندسة هذا "المجال الحيوي". من ذلك، على سبيل المثال، سياسة بناء الجزر الاصطناعية في بحر الصين الجنوبي، وتحويلها إلى مناطق تمركز عسكري، والحفاظ على الوجود العسكري الصيني شبه الدائم في المناطق المتنازع عليها في بحر الصين الجنوبي وفي مضيق تايوان. لكن كل هذه الإجراءات، مع أهميتها، لا تمثل إجراءات نهائية لضمان فرض السيادة الصينية على هذه المناطق، ليس باعتبارها جزءاً من المجال الحيوي المباشر للصين، لكن باعتبارها جزءاً من السيادة الصينية. 

المسألة الثالثة، تتعلق بالتحالفات الأمنية؛ فقد قدَّمت الحرب الروسية-الأوكرانية مناسبة مهمة لإعادة تأكيد الصين على بعض قناعاتها المهمة بشأن مصادر تهديد الأمن العالمي، وعلى رأسها التحالفات الأمنية والعسكرية، التي انتشرت خلال مرحلة الحرب الباردة، خاصة حلف "الناتو" الذي تأسس سنة 1949، ثم حلف "وارسو" الذي تأسس سنة 1955، باعتبارهما حلفين عسكريينِ رئيسينِ في قلب النظام العالمي آنذاك، لعبا الدور الأهم في إدارة الحرب الباردة. لكن الأحلاف فقدت الكثير من أهميتها عقب انتهاء الحرب الباردة، ما أدى إلى تفككها، باستثناء الناتو. 

مع ذلك، شهدت السنوات الخمس الأخيرة، عودة سياسة الأحلاف مرة أخرى. وقد انطوت هذه السياسة على مخاطر كبيرة بالنسبة للصين وقضية تايوان. الخطر الأول، تمثل في مَدّ سياسة الأحلاف إلى منطقة الإندو-باسيفيك التي تمثل مركزاً مهماً للمصالح الصينية. شمل ذلك إحياء "الحوار الأمني الرباعي" QUAD في عام 2017 بين الولايات المتحدة والهند وأستراليا واليابان، والذي تحوَّل في عام 2021 إلى الانعقاد على مستوى القمة. ورغم أنه لم يتحول إلى حلف عسكري بالمعنى الدقيق، لكنه يُصنَّف باعتباره "إطاراً استراتيجياً" لتنسيق السياسات والاستراتيجيات بين الدول الأربع داخل الإندو-باسيفيك. وشمل ذلك أيضاً تأسيس تحالف "أوكوس" AUKUS في سبتمبر 2021 بين كلٍّ من الولايات المتحدة وأستراليا والمملكة المتحدة، والذي بدأ بصفقة عسكرية مشتركة ستحصل أستراليا بموجبها على غواصات تعمل بالوقود النووي.

هذه التحالفات لم تصل بعد إلى شكلها الأخير، وهو ما يُشكِّل مصدر قلق كبير بالنسبة للصين؛ خاصة إذا نجحت الولايات المتحدة في توسيع هذه التحالفات وضم دول أخرى إليها، سواء من جنوب شرقي آسيا أو تايوان، أو تعميق بعض هذه التحالفات لتتحول إلى "ناتو آسيوي". ولا يقتصر الأمر على التحالفات التي نشأت مؤخراً داخل الإندو-باسيفيك، لكنها قد تشمل أيضاً توسيع مجال عمل حلف الناتو نفسه ليغطي الإندو-باسيفيك، خاصة مع إصدار العديد من أعضاء الحلف (إيطاليا، وألمانيا، وهولندا) استراتيجيات رسمية بشأن الإندو-باسيفيك، ثم إصدار مؤسسات الاتحاد الأوروبي العديد من الوثائق التي تعكس اهتمامها المتزايد بالمنطقة، واعتبر بعضها "كواد" و"أوكوس" ركائز أساسية في أمن الإندو-باسيفيك[1]، على عكس الرؤية الصينية.  

وكان التطور الأهم هو بدء اهتمام الناتو بالصعود الصيني وتأثيره في أمن الحلف، ووصف الأخير للصين في البيان الصادر عن اجتماعه في 14 يونيو 2021 بأنها تُمثِّل ما وصفه بـ "التحديات النظامية Systemic Challenges للنظام الدولي القائم على القواعد، وللمجالات ذات الأهمية بالنسبة لأمن الحلف". وتضمن البيان العديد من التوجهات السلبية إزاء الصين[2]، ما دفع الأخيرة، من خلال بعثتها لدى الاتحاد الأوروبي، إلى إصدار بيان في اليوم التالي مباشرة، حذَّرت فيه الناتو من أن الصين لن تقف "مكتوفة الأيدي" إزاء "أية تحديات تواجهها من جانب الحلف". وأكد البيان أن الصين لا تمثل "تحدياً نظامياً" لأي دولة، ولا يجب على الناتو المبالغة في القوة العسكرية الصينية، ويجب عليه أن يلعب بدلاً من ذلك دوراً في تحقيق الاستقرار العالمي والإقليمي.[3] 

في هذا الإطار، حرصت الصين على استغلال الأزمة الروسية-الأوكرانية وإبراز التشابه بين توسُّع الناتو شرقاً، والاستراتيجية الأمريكية في الإندو-باسيفيك، من حيث تهديد كل منهما للأمن والاستقرار الإقليمي في الحالتين، وأن مثل هذه السياسات تمثل جزءاً من عقلية الحرب الباردة.[4] 

على الجانب الآخر، فإن الولايات المتحدة تستغل الحرب الجارية لردع الصين ضد إعادة إنتاج السيناريو الروسي في أوكرانيا في حالة تايوان، من خلال آليات ثلاث: الأولى، محاولة انتزاع نقد صيني صريح لقرار روسيا استخدام القوة العسكرية ضد أوكرانيا، وإجبار الصين على وصف تلك العمليات بـ"الغزو"، الأمر الذي يؤسس لوصف مماثل في حالة إقدام الصين على خطوة مماثلة ضد تايوان (رغم وجود تمايز كبير بين الحالتين من وجهة نظر الصين). الثانية، الاستخدام الواسع والمكثف لآلية العقوبات الاقتصادية ضد روسيا، بهدف عزلها دولياً ورفع تكاليف قرارها العسكري ضد أوكرانيا، الأمر الذي يُمثِّل رسالة ردع للصين نفسها في حالة إقدامها على خطوة مماثلة ضد تايوان. والثالثة، الحفاظ على الوجود العسكري المباشر في مضيق تايوان. 

هل ستُقْدِمْ الصين على عملٍ عسكريٍّ ضد تايوان؟

في ظل هذه الرسائل الصينية والأمريكية المتبادلة بين الجانبين بشأن تايوان، من غير المتوقع أن تُقدِمَ الصين -في المدى القصير- على ضم الجزيرة بالقوة العسكرية، ما لم تقُم الأخيرة بإعلان الاستقلال من جانب واحد؛ وذلك لأسباب تتعلق باستمرار المعادلة الحاكمة للسياسة الصينية تجاه الولايات المتحدة، وهي تجنُّب المواجهة العسكرية المباشرة معها، والمعادلة الحاكمة أيضاً للسلوك الصيني الخارجي بشكل عام، من حيث استمرار مركزية الأدوات الاقتصادية في إدارة مشروع الصعود الصيني، دون أن يمنع ذلك دراسة الصين للأزمة الروسية-الأوكرانية باعتبارها نموذجاً مهماً لمدى استعداد المجتمع الدولي، والولايات المتحدة تحديداً، لاستخدام كلٍّ من روسيا أو الصين للقوة العسكرية لحماية مصالحهما الأمنية والجيو-استراتيجية. 

في المقابل، من المُستبعَد أن تُقدِمَ النخبة الحاكمة في تايوان على إعلان الاستقلال من جانب واحد -وهو الشرط الرئيسي لسيناريو استخدام الصين القوة العسكرية ضد الجزيرة، وذلك لأسباب تتعلق بموازين القوى مع الصين، وعدم وجود ضمانات قوية بتدخل الولايات المتحدة عسكرياً ضد الصين في حالة إقدام الأخيرة على استخدام القوة العسكرية ضد الجزيرة. وتقدم حالة أوكرانيا مثالاً مهماً على حدود الاعتماد على الحليف الغربي (الناتو والولايات المتحدة) في حماية السيادة والأمن القومي للحلفاء. ما يعني، في النتيجة، أن قضية تايوان ستظل مؤجلة إلى حين. 

[1] من ذلك إصدار الاتحاد الأوروبي، في 16 أبريل 2021، ما أسماه "استنتاجات مجلس الاتحاد الأوروبي بشأن استراتيجية التعاون في الإندو-باسيفيك" Council conclusions on an EU Strategy for cooperation in the Indo-Pacific، ثم إصدار المفوضية الأوروبية والممثل الأعلى للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية في 16 سبتمبر 2021 وثيقة "الاتصال المشترك مع البرلمان الأوروبي والمجلس: استراتيجية الاتحاد الأوروبي للتعاون في الإندو-باسيفيك"“Joint Communication to the European Parliament and the Council: The EU Strategy for Cooperation in the Indo-Pacific”. تبع ذلك تبنِّي لجنة الشؤون الخارجية بالبرلمان الأوروبي في 22 مارس 2022 (بعد مرور ما يقرب من شهر على بدء العمليات العسكرية الروسية داخل أوكرانيا)، تقريراً أكد ضرورة حماية مصالح الاتحاد الأوروبي في الإندو-باسيفيك، والعمل بشكل أوثق مع شركائه في المنطقة. وأكد التقرير أهمية الحفاظ على السلام والاستقرار وحرية الملاحة في المنطقة، عاداً "كواد" وتحالف "أوكوس" ركائز أساسية في أمن الإندو-باسيفيك، وأن تحقيق الأمن الإقليمي يتطلب حواراً مفتوحاً وشاملاً مع الفاعلين الإقليميين والدوليين من خارج المنطقة. 

وفي 22 فبراير 2022، نظَّمت الرئاسة الفرنسية -بالتعاون مع كل من مجلس الاتحاد الأوروبي، والممثل الأعلى للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية للاتحاد، والمفوضية الأوروبية- "منتدى التعاون في الإندو-باسيفيك"، على مستوى وزراء الخارجية، بمشاركة أعضاء الاتحاد الأوروبي السبع والعشرين، وثلاثين دولة من دول الإندو-باسيفيك، بالإضافة إلى ممثلين عن المنظمات الإقليمية في الإندو-باسيفيك. ولم تُدع الصين والولايات المتحدة للمشاركة في المنتدى. 

للمزيد من التفاصيل، انظر: Council of the European Union, “Council Conclusions on an EU Strategy for Cooperation in the Indo-Pacific”, Brussels, 16 April 2021 .https://data.consilium.europa.eu/doc/document/ST-7914-2021-INIT/en/pdf; French Presidency of the Council of the European Union, “Forum for Cooperation in the Indopacific”, 22 Feb. 2022. https://presidence-francaise.consilium.europa.eu/en/news/press-release-forum-for-cooperation-in-the-indopacific/

[2] “Brussels Summit Communiqué”, issued by the Heads of State and Government participating in the meeting of the North Atlantic Council in Brussels, 14 June 2021. https://www.nato.int/cps/en/natohq/news_185000.htm?selectedLocale=en

[3] انظر: “China Warns NATO It Won’t ‘Sit Back’ If Challenged by the Bloc”, Bloomberg, 14 June 2021. https://www.bnnbloomberg.ca/china-warns-nato-it-won-t-sit-back-if-challenged-by-the-bloc-1.1617013

[4] انظر على سبيل المثال: “US strategy for the Indo-Pacific as ‘dangerous’ as Nato expansion, warns China”, Hindustan Times, Published on Mar 20, 2022. https://www.hindustantimes.com/world-news/us-strategy-for-the-indo-pacific-as-dangerous-as-nato-expansion-warns-china-101647784979765.html

عن "مركز الإمارات للسياسات"




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية