الحجاب والرياضة: أولمبياد طوكيو يفجر الجدل حول لباس المرأة

الحجاب والرياضة: أولمبياد طوكيو يفجر الجدل حول لباس المرأة


12/08/2021

جدّد فوز ثلاث من لاعبات البعثة المصرية في أولمبياد طوكيو بثلاثة ميداليات، ذهبية وبرونزيتين، الجدل حول حجاب المرأة، بين الداعين إليه، والرافضين له، وحتى المتقبلين له كشأن شخصي يخص المرأة وحدها. وكان لافتاً أنّ المتمسكين بالفكر الديني التقليدي هم في طليعة تهنئة اللاعبات بفوزهن بالميداليات.

وتحوّلت اللاعبات إلى قضية بين الآراء المتعددة؛ وصرن مثالاً يُضرب من أصحاب الفكر الديني التقليدي على أنّ الالتزام بحجاب المرأة ليس عائقاً أمام تفاعلها في الحياة، وتحقيق إنجازات كبرى لم تستطع قريناتها من غير المحجبات الإتيان بمثلها.

اقرأ أيضاً: أردوغان يستغل قضية الحجاب لترويج صورته كمدافع عن الإسلام

ورغم عقم هذا الجدل، الذي يؤكد على تدني مستوى الفكر في مجتمعاتنا العربية، خصوصاً المجتمع المصري، إلا أنّ بعض الباحثين والمتابعين كان لهم رأى مختلف، يرى أنّ الجدل حول حجاب المرأة جعل أصحاب الفكر الديني التقليدي أو المحافظين دينياً يتقبلون أشياء كانوا بالأمس القريب يرونها محرمةً؛ مثل سفر المرأة دون محرم، وحرية الملبس، واختلاطها بالرجال، وممارسة الرياضة العنيفة والقتالية، معللين ذلك بأنّ الفكر الديني اضطر إلى مواكبة الواقع المتغير، والقبول بأشياء يعدّها محرمات، دون البحث عن تكييفات فقهية.

دائرة الحرام والحلال

تناول المفكر المصري عبد الجواد ياسين، في عدد من مؤلفاته، قضية الحكم الشرعي في الأشياء التي لم يرد فيها نصّ، والتي تُعرف في أصول الفقه بقاعدة "الأصل في الأشياء الإباحة"، ويرى ياسين، وكذلك نصر حامد أبو زيد؛ أنّ الأصوليين المسلمين، عدا المعتزلة، حوّلوا القاعدة إلى خلاف ذلك، فصار كلّ شيء محرماً أو ممنوعاً حتى يجد الفقيه مخرجاً عبر القياس، فتحوّلت دائرة المباح من الاتساع إلى دائرة ضيقة جداً، يجب أنّ تمر عبر الفقيه، ومع سيادة هذا الفكر بعد انزواء الاعتزال وعدم وجود ميراث فقهي للمعتزلة يُترجم اجتهاداتهم المرموقة في أصول الفقه، تطبع التديّن الشعبي بسيادة فكرة التحريم والمنع، وصار يلتمس التحليل والقبول عبر اجتهادات الفقهاء.

تدوينة لعبد الله رشدي يمدح المحجبات الفائزات بالميداليات في أولمبياد طوكيو

وصار الرفض المطلق لكلّ جديد ركناً أساسياً في التدين الإسلامي الأصولي الذي ساد مع جميع المذاهب الفقهية، وغيرها من الفرق الإسلامية، التي اختلفت في الأصول العقدية واتفقت في الأصول الفقهية، مع اختلافات محدودة، وبات نموذج التدين الإسلامي رافضاً لكلّ مستجد في جميع مناحي الحياة، وزاد الطلب على الفتوى والفقه من أجل البحث عن تخريجات.

 

الأصوليون حرفوا قاعدة الإباحة، فصار كلّ شيء محرماً أو ممنوعاً حتى يجد الفقيه مخرجاً عبر القياس، فتحوّلت دائرة المباح من الاتساع إلى الضيق الشديد

وموازاةً مع ذلك تناغم مسلمون كثيرون في حياتهم مع المستجدات، دون اكتراث بالجمود الفقهي، وذلك بحكم الأمر الواقع المتغير، لكنّ ذلك جعلهم عرضةً لتأنيب الضمير من التيارات الدينية السلفية والإخوان المسلمين وغيرهم، وانكشفت هشاشة التماهي مع الواقع أمام موجات الصحوات الدينية التي اجتاحت العالم الإسلامي، وتراجعت المجتمعات الإسلامية عن المكتسبات التي حققتها بحكم التغير الاجتماعي، تحت ضغط صياح خطاب التحريم الذي ساد خلال العقود الماضية.

وتعدّ هذه الردة الحضارية نتاجاً لإخفاق الفكر الديني في أن يواكب التغيّر الاجتماعي الكبير الذي شهدته المجتمعات العربية والإسلامية منذ بداية ما يصطلح عليه بـ "عصر النهضة العربية"، والتي يؤرّخ لها مع بداية عملية التحديث في عهد محمد علي باشا، حاكم مصر (1805 - 1848)، والتي كانت الغلبة فيها للتحديث، ودُفع المجتمع إلى القبول دون تهيئة فكرية، ما تسبب في وجود ردّ فعل من التيارات الإحيائية، وظهور مفكرين ورجال دين مجددين حاولوا تكييف القديم مع الحديث.

اقرأ أيضاً: العلمانية ليست ضد الحجاب

ومع ظهور الإسلام السياسي والسلفية الحديثة، ثم الصحوة السلفية الكبيرة التي وجدت تسهيلات كبيرة من السلطة للانتشار في المجتمعات، عقب هزيمة عام 1967، ثم الثورة الإيرانية عام 1979، وغيرها من المحطات التاريخية، واجه التحديث في المجتمعات العربية هجوماً شرساً من رجال الدين الجدد، أدّى إلى تراجع المجتمعات عن نمط الحياة الحديث، واستهدفت ما تُعرف بالصحوة الدينية المرأة بشكل خاص، وأمام توظيف الحلال والحرام تراجعت مكانة المرأة في المجتمع، وارتدت أزياء وصفها لها رجال الصحوة، ولم تعد الفتيات يلتقطن صور الزفاف على الملأ، أو تُعلق صور الزفاف على جدران المنازل، وهي عادة اشتهرت بين المصريين في الحضر والريف، وباتت الفتيات يتركن التعليم، وحتى الريف المصري، الذي ظلّ محافظاً على نمط معيشته، اضطر تحت ضغط الصحوة الدينية إلى تغيير هذا النمط، فارتدت النساء ملابس غريبة عن البيئة المصرية، وتحطمت التقاليد أمام النموذج الذي روجته الصحوة.

الإصلاح الديني بضغط الواقع

ويرى الأستاذ في كلية اللغات والترجمة في جامعة الأزهر، وأستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة ماربورغ الألمانية، عاصم حفني، أنّ وقائع التاريخ الفقهي تشهد بأن تغيير الرأي الديني أو الإصلاح والتجديد بصفة عامة قلما يأتي من داخل المؤسسة الدينية من تلقاء نفسها، فهي ترى من صميم وظيفتها حفظ التراث الفقهي الذي يكتسب بالمداومة عليه نوعاً من القداسة، ومن ثم فمن المفيد، بل والضروري، طرح أفكار التجديد من خارج المؤسسة على يد المختصين والمؤهلين من مفكرين ومثقفين وكتاب وقانونيين، وكلّ من يجد في نفسه القدرة على الدلو بدلوه في قضية التجديد، وعندما تطرح هذه الأفكار بقوة لن تجد المؤسسة الدينية مناصّاً من التعاطي والتجاوب معها بشكل أو بآخر.

يناقض رشدي نفسه حين مدح لاعبات مصر المحجبات رغم مخالفة حجابهن لرؤيته الدينية

وتابع حفني، في حديثه لـ "حفريات": ولو نظرنا للأزهر بوصفه أكبر مؤسسة دينية في العالم، سنجد أنّه، مع اختلاف الظرف الاجتماعي والسياسي، وزيادة وعي المصريين خاصة الشباب، بالحريات الأساسية ومفهوم دولة القانون، والذي بلغ ذروته بقيام ثورة 25 كانون الثاني (يناير) 2011، التي فتحت الباب على مصراعيه للحديث عن جدلية الدين والسياسة، وجد نفسه مضطراً للتعاطي مع الأحداث، فدعا إليه مفكرين من جميع التيارات الإسلامية والليبرالية والعلمانية والمسيحية، الذين صاغوا بعد نقاشات عدة ما عرف بـ "وثيقة الأزهر حول مستقبل مصر".

اقرأ أيضاً: حجاب المرأة بين سلطة التدين ووصاية العلمانية

وأشار حفني إلى أنّ الوثيقة خالفت مضمون مشروع الدستور الإسلامي، الذي أقرّه الأزهر عام 1979، مخالفة تامة، فلم تذكر الوثيقة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، بل استخدمت مفاهيم حداثية كثيرة؛ حيث أشارت في مبدئها الثاني إلى ضرورة اعتماد النظام الديمقراطي، وأقرّت بالتعددية، مما يضمن للمرأة من جانب والمختلفين دينياً ومذهبياً من جانب آخر، المساواة في دولة القانون.

إيجابيات .. ولكن

ومتابعةً لتناول تماهي الفكر الديني مع الواقع، يذكر أستاذ الدراسات الإسلامية، عاصم حفني، قضية "ختان الإناث"، قائلاً: يعدّ ختان الإناث في تصوري مثالاً معبراً على إشكاليات فهم الثوابت والتعامل مع التراث، فها هو الأزهر يقول إنّه (لا يوجد نصّ شرعي يأمر بختان البنات)، ويصل بحكمه إلى التحريم، بعد أن كان يقول قبل سنوات إنّ فيه نصوصاً وإنّه مكرمة ومن فطرة الإسلام، وهذا التطور في فهم الشريعة محمود بلا شكّ، لكنّه يطرح تساؤلات حول معايير الحكم على الثابت والمتغير في التراث، وإن كان الثابت متعلّقاً بالعقائد فقط، فما هي حدود تلك العقائد؟

المفكر عاصم حفني لـ "حفريات": يجب طرح أفكار التجديد من خارج المؤسسة على يد المختصين والمؤهلين من مفكرين ومثقفين حتى تضطر المؤسسة الدينية للتعاطي معها

ويتساءل حفني؛ أليس الاعتقاد في حكم مثل الختان يعدّ جزءاً من العقائد مبنيّاً على نصّ شرعيّ؟ وبما أنّ التاريخ يشهد بأنّ التجديد قلّما يأتي من داخل المؤسسة الدينية، وبما أنه لا غنى عنها في تلبية الاحتياجات الروحية للناس، يجب طرح أفكار التجديد من خارج المؤسسة، على يد المختصين والمؤهلين؛ من مفكّرين، ومثقفين، وكتّاب، وقانونيين، حتى تضطر المؤسسة الدينية للتعاطي معها.

ويزخر التاريخ الحديث بنماذج عديدة حول التماهي بين الفكر الديني والواقع، خصوصاً في تاريخ تقبل الأزهر للتحديث في القرن العشرين، لكن لم يكن الرفض مبنياً على أسس فقهية غالباً، بل على منظور ديني يتسم بالجهل والتقليد، وهو الأمر الذي اختلف بشكل كلّي مع الصحوة الدينية في الربع الأخير من القرن الماضي، والتي نشهد إلى اليوم تجلياتها وأجيالاً جديدة منها.

أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة ماربورغ الألمانية، عاصم حفني

وتأثرت الصحوة الحديثة بالحداثة رغم معاداتها لها، فباتت تعتمد على المنطق والعقلانية في ترسيخ التراث والجمود، ولم تعد تقع في التحريم المطلق لكلّ جديد، بل كيفت المستجدات لخدمة رؤيتها الدينية المتشددة للحياة، فهي في الأساس حركة ارتدادية على التحديث، مثل الإرهاب والإسلام السياسي، وجميعهم أبناء غير شرعيين للحداثة، أخذوا آلياتها لهدمها.

وبالعودة إلى مسألة حجاب لاعبات المنتخب المصري؛ نجد أنّ الفخر بالمحجبات، مع التغاضي عن صحة هذا الحجاب بالنسبة إلى الفكر الديني السائد، والقبول بالاختلاط وغير ذلك، حين يأتي من رجال دين معروفين بالتشدّد فإنّه يأتي من باب مناكفة متشدّدي العلمانيين الذين يتهمون الحجاب بتعطيل حياة المرأة، ولو وُضعت لاعبات المنتخب في مقارنة مع فتيات أخريات أقرب إلى اتباع النهج الديني السلفي لأصبحن محلّ نقد وذم.

وتبدو مسألة الإصلاح والتجديد في الفكر الديني عصية على الفهم، وإذا كان الواقع هو الدافع لا النقد الذاتي لرجال الدين، فسيصبح الرهان على تغيّر العوامل الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع، نحو تعزيز نمط الحياة الحديثة، شريطة وجود مؤسسات فكرية تحمل عن معظم المجتمع همّ مواجهة الابتزاز باسم الدين، وفي ظلّ ذلك من المؤكد أنّ الفكر الديني سيشهد تغيرات كبرى.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية