الجماعات وخطر العقل الأحادي

الجماعات وخطر العقل الأحادي

الجماعات وخطر العقل الأحادي


05/02/2024

من الطبيعي جداً أن يشهد العرب مواقف وأحداثاً يفترق عندها الناس إلى جماعتين: الأولى تنتصر لهذه الجهة، وتستعرض الحسنات لها، وتُروِّج لرموز هذه الجهة لتوسيع رقعة مقبوليتها، أو إظهارها الممثل الأوحد للحق والحقيقة، والجهة الأخرى تقف بالندِّ من توجهات تلك الجهة، فتجهد لالتقاط مساوئ تلك الجهة/ المؤسسة/ الرمز، وفي كثير من الأحيان لا تكتفي عند الوقوف على ما يمثل الواجهة الرسمية لتلك الجهة؛ بل لأجل الإمعان في إظهار بُطلانها، وبيان فسادها فكراً وممارسةً، تتعدى إلى الوقوف على نماذج من سلوكيات لأفراد ينتمون إلى تلك الجهة "المُستهدفة" في نظر هؤلاء، وهي سلوكيات فرديّة لهذا أو لذاك، لا تمثِّل سمتاً عامّاً يصحُّ تعميمه على الآخر بقضِّه وقضيضه، ولكنّ التعميم هو الآلية "المُريحة" للعقل الجمعي الكسول، و"المُربِحة" في الوقت نفسه؛ لاستصدار صورةٍ عن الآخر المختلف تقضي بشيطنته، بحسب تلك المُقدِّمات "الجاهزة".

هذه القصة "القديمة/ الجديدة" بدأت مع بداية الجماعات البشرية منذ فجر التاريخ، وما زالت مستمرة إلى ما شاء الله، فقد تجد بين أتباع الأديان ما يمثّل مسار هذه القصة، في استعداء كل مجموعة على الأخرى، باستعراض كلّ ما يميز هذه المجموعة على تلك، من أدلة عقلية ونقلية تبرهن على أصالة الأفكار التي يؤمنون بها، وما يتفرّع عن ذلك الأصل في منظورهم من منظومة أخلاقية متكاملة تسود عمليّاً فيما بينهم، في قبال هشاشة الأفكار التي تمثل أتباع الديانة المنافسة لهم، واستظهار ما يعتور منظومتهم الفكرية/ الأخلاقية من مفاسد وتناقضات، بالأدلة التي يقدِّمها أولئك الخصوم، وتمجيد الذات الجمعية في مقابل إدانة الآخر لا يوقفها دليل هنا أو هنالك، فما دام نسق الانتماء لأحد هذين الخيارين يعمل ناشطاً على تكريس كل ما يُعلي الذات ويسقط الآخر، فالدليل جاهزٌ عند هذه الجماعة أو تلك..! ونظرةٌ واحدةٌ إلى كُتُب الفِرق والمقالات عند المسلمين على اختلاف مذاهبهم، على سبيل المثال، تكفي القارئ أن يخرج بنتيجة مُؤدّاها: أنَّ التحزّب قائمٌ على قدم وساق عند الجميع، لبيان أفضلية هذا المذهب على ذلك، وأنَّ الدليل بله الأدلّة القاطعة، بحسب منظور كلِّ فرقةٍ، يتقوّى بها الجميع، ويُشهِرها بعضٌ على بعض؛ لبيان أنّه الأحقُّ من سواه، وعلى أساس ذلك ينشأ الحبُّ والبغض لهذا الاتجاه أو لذاك، من مدارك عاطفية أبعد ما تكون عن العقل الذي يضع الأمور في موازينها الصحيحة، ويضعنا قول أحد التابعين، وهو عامر  الشَّعْبِيّ، أمام هذه الثنائيات التي لم ينجُ شخصياً من تعميمها، وذلك في قوله: "أَصْبَحَت الأُمَّةُ عَلى أَرْبَعِ فِرَقٍ: مُحِبٌّ لِعَلِيٍّ مُبْغِضٌ لِعُثْمَانَ، وَمُحِبٌّ لِعُثْمَانَ مُبْغِضٌ لِعَلِيٍّ، وَمُحِبٌّ لَهُمَا وَمُبْغِضٌ لَهُمَا، قُلْتُ: مِنْ أَيِّهِمَا أَنْتَ؟ قَالَ مُبْغِضٌ لِبَاغِضِهِمَا"، وقوله ليس إلا تقرير واقع حال الأمّة الإسلامية آنذاك، وإلى يومِنا، في تخندقها الذي أضاع عليها كثيراً من الموضوعية، في إقبالها على كل ما يُحسب للجهة التي تُكنُّ لها الولاء المُطلق في قِبال الجهة المُضادّة التي تكنُّ لها الحِقد والبغضاء، في رفض كلّ ما يصدر منها، في حين أنَّ منطق الأحداث التاريخية الذي اكتنف رموز هذه الفرق التي ظهرت فيما بعد، لم يُؤسِّس لهذه الثنائية الضِدّية، لمرويات وأخبار أخرى لا تعترف بها تلك الجماعات، تكشف قدراً من التلاقي المرن بما تقتضيه المصلحة العامة للمجتمع على أقل تقدير، ومع أنّ كل عقل سليم لا يُنكر الاختلاف الذي وقع فيما بين الصحابة أنفسهم قبل غيرهم، لأحداث ومواقف صدرت عنهم؛ لاختلاف مستوياتهم من حيث الفهم للنص القرآني الذي يحتكمون إليه، لكن ما يشاؤهُ العقل الأحادي الذي يتفاقم أثره عند هذه الجماعة أو تلك، ويُلغي في المقابل منطق النسبية، يذهب بعيداً إلى القبول بالضعيف من الأخبار التي تُسهم في تعزيز الاختلاف بين الجماعات، بل أكثر من ذلك، حين تكون أجواء التشاحن الديني بين هذه الجماعة وتلك، مهيّأة للقبول بالمُختلق الموضوع من الأخبار والأحداث التي تدخل بمجموعها في صياغة الهوية الفارقة بامتياز عن هوية الآخر المُختلف معها، وهذا ما أشار إليه الدكتور طه حسين في وصفه ما كان عليه شيعة أهل العراق من ظلم وحيف لَحِقَ بهم؛ لمعارضتهم سلطة الأمويين دفعتهم إلى الأخذ بأفانين من القول في ظالميهم، تتّسع باتّساع الأحداث، بقوله: "فقد امتُحِن أهل العراق بعد موت عليّ، رحمه الله، أشدّ امتحانٍ وأقساه. عارضوا خلفاء بني أمية، فأرسل إليهم هؤلاء الخلفاء من يقمع معارضتهم أعنف أنواع القمع وأغلظها، فكانوا إذن مضطهدين. وليس شيءٌ يدعو إلى التكثّر والاختراع أكثر من الاضطهاد الذي يملأ القلوب روعاً وفرَقاً، ويُشيع في النفوس بعد ذلك من البغض والحقد والضغينة ما يُنطِق الألسنة ويُجري الأقلام بالشُكاة المُرّة والأحاديث التي ليس بينها وبين الحق صلةٌ أو سبب".

لعل ما نشهدُه في عصرنا الحاضر من تصدُّعات بينية في الرأي والرأي الآخر في الواقع أو الافتراضي في مناسبات دينية يرتبط بعضها بالتاريخي الممتد إلى (14) قرناً من الآن

 

والأمر قد لا يقتصر على الجماعات الدينية فحسب، وإنْ كان البُعد الديني الأكثر قوّةً على مدار التاريخ من حيث التشظي المجتمعي، فمسألة الإمامة كانت، بحسب الشهرستاني (ت: 548 هـ)، "أعظم خلاف بين الأمّة خلاف الإمامة، إذ ما سُلَّ سيفٌ في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سُلَّ على الإمامة في كل زمان"، ولأنَّ البُعد الديني لم يقتصر على الخلاف المذهبي بين جماعة السُنّة وجماعة الشيعة، بل تمدّد إلى عناوين ثانوية ارتبطت بالدين، وبالطريقة أو الآلية التي تمثِّل الدين دون غيرها، فتجد الاختلافات قائمة في فترات تاريخية متقطعة بين جماعة المعتزلة والأشاعرة، أو بين الفلاسفة ومُريديها، وجماعة الفقهاء، أو بين الفقهاء والمتصوِّفة، أو بين الأخبارية والأصولية، ويُلاحظ أنَّ بعض هذه الاختلافات قد لا تخرج من إطار المذهب الواحد، إلا أنّها اختلافات على أيّ حال، يُمثّل مُدّعي كل جماعةٍ منها رؤيته في فهم تفاصيل المذهب وتوجيه أصوله وفروعه بحسب مرجعيات كلِّ جماعة، وفي المآل يترشّح من كلِّ جماعة مجموعة من التصورات والمفاهيم تُعلي من مقامهم، وتُشرعن كل ما يصدر عنهم من سلوكيات وتقاليد، في قِبال سحب المشروعية من أتباع الجماعات الأخرى، وتصنيفهم بالابتداع، وسحب بساط الأصالة منهم، وصولاً إلى مدياتٍ أبعد عن الحوار العلمي العقلاني بين الطرفين المتنازعين، تتمثّل بالتصفيات الجسديّة، والمطاردات وغيرها من أفانين الإقصاء والتهميش الذي يقع من نصيب كل جماعة لم تستجب لتوجّهات السلطة الحاكمة في كلِّ عصرٍ ومِصر..!

وكما قُلنا من قبل: إنَّ هذا الاصطراع الخفيّ تارةً، والمُعلن تارة أخرى، لم يقتصر على الجماعات الدينية، وإن كان لها النصيبُ الأكبرُ فيه، بل نجده يتمظهر لنا حتى في الجماعات الفكرية، من قبيل التحزُّب الذي شهده تراثنا العربي بين أنصار القديم وأنصار الحديث، وكلُّ فئة من هؤلاء يمثِّلها خطٌّ من العلماء والرواة، ممّن يتساندون في استظهار الأدلة التي تقوّي حجّة كلّ فريق منهم، بما يُسوِّغ دعواهم دون سواهم، ويروِّج لأفكارهم ويجعلها الأكثر شيوعاً في الأوساط الثقافية من سواها.

 الصراع الخفيّ تارةً، والمُعلن تارة أخرى، لم يقتصر على الجماعات الدينية فحسب؛ بل نجده يتمظهر لنا حتى في الجماعات الفكرية، من قبيل التحزُّب الذي شهده تراثنا العربي بين أنصار القديم والحديث

 

وفيما يتعلّق بالجانب السياسي، فقد تجد في كلّ زمان ومكان من ينتصر لهذا الحاكم أو لذاك، ويسوِّغ ما قام به من أفعال، حتى وإنْ كانت جرائم، لكنّها "مسألةٌ فيها نظر" بالنسبة إلى من يرى بعين الرضا، وفي المقابل هنالك من يُحصي عليه هناته وسوءاته، أو ما يُحسَب من السوءات؛ لكونه ممّن وقع شخصيّاً في نار ظلمه، أو ممّن ينتمي عقديّاً إلى الجماعة التي وقعت ضحيّة سياسته، فكان له ذلك الموقف الناقم. ومن هذه الناحية لعلنا لا نستغرب حين نجد من يُدافع عن أعتى الطُغاة، بما يؤكِّد اختلاف الناس في أبده البدهيّات، انطلاقاً من النظرة الأحادية التي تتحكّم في مخيالهم الجمعي، حين يكون الحاكم مؤثِراً لهم دون سواهم من الجماعات، وفي هذا الشأن نقرأ ما أورده الحموي في (معجم البلدان) أنّهُ "ذُكِر الحجاج عند عبد الوهاب الثقفي بسوء، فغضب وقال: إنّما تذكرون المساوئ، أَوَما تعلمون أنّه أول من ضرب درهماً عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأول من بنى مدينة بعد الصحابة في الإسلام، وأول من اتخذ المحامل، وأنّ امرأة من المسلمين سُبِيت بالهند فنادت يا حجاجاه فاتصل به ذلك فجعل يقول: لبيك لبيك! وأنفق سبعة آلاف درهم حتى افتتح الهند واستنقذ المرأة وأحسن إليها، واتخذ المناظر بينه وبين قزوين، وكان إذا دخّن أهل قزوين دخّنت المناظر إن كان نهاراً، وإن كان ليلاً أشعلوا نيراناً فتجرّد الخيل إليهم فكانت المناظر متصلة بين قزوين وواسط، فكانت قزوين ثغراً حينئذ". وعلى هذه الشاكلة تستمرُّ وجهات النظر الجماعية في تقييم الشخصيّات وإصدار الأحكام على أحداث ووقائع تاريخية وفقاً لما ينسجم والتوجّهات العامة أو الخاصة لكل جماعة من الجماعات، وبهذا يُصادر قدرٌ كبيرٌ من الموضوعية في رصد ما يُحسب على هذه الشخصية/ أو الحدث من مساوئ أو ما يُحسب لها من حسنات، من دون إنعام نظر يتخلّل الجزئيات في تفاصيل هذه الشخصية أو ذلك الحدث، بما يكسر من نمطية تلك الصورة الجاهزة التي تتّفق وتوجه الجماعة وسياستها أو ما يمثِّلها من مبادئ ومفاهيم تنطلق منها للتعامل مع الآخر المُختلف عنها.

ولعل ما نشهدُه في عصرنا الحاضر من تصدُّعات بينية في الرأي والرأي الآخر في الواقع أو الافتراضي في مناسبات دينية يرتبط بعضها بالتاريخي الممتد إلى (14) قرناً من الآن، أو مناسبات تتعلّق بالجانب السياسي مثل بعض الثورات الحديثة التي تبدّل بموجبها نظام الحكم من ملكي إلى جمهوري، أو بوفاة بعض الشخصيّات "الجدليّة" ممّن كان لها موقع الصدارة في نظام سياسي سابق، وانقسام الرأي حولها بين مادح وقادح، يؤكِّد لنا بما لا يقبل الشك "أحادية العقل" في النظر إلى تقييم هذه المناسبة أو تلك الشخصية، وكأنَّ ما كان في الأمس البعيد وما نتجَ عنه من مآلات جرّت إلى ما جرّت إليه من مناكفات أبعد ما تكون عن الموضوعية، والتزام أدب الحوار وطرح الرأي الذي لا يُصادر رأي الآخرين، ممّن عاصروا هذه الشخصيات أو تلك الأحداث، يؤشر إلى هيمنة العقل الأحادي في إطلاق الأحكام والتصوّرات النمطية لكلِّ ما يخدم توجه الجماعات ويُغذّي هوياتها الفرعية.  



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية