الثقافة العربية من التسامح إلى الاعتراف

الثقافة العربية من التسامح إلى الاعتراف

الثقافة العربية من التسامح إلى الاعتراف


09/05/2023

يعاني البناء الثقافي والمعرفي في السياق العربي من التبعية للسياق الأوروبي؛ ممّا يجعله يظهر في صورة الصدى للبناء الثقافي والمعرفي الأوروبيين، وليس أدلّ على ذلك من استيراد مفاهيم الحداثة، ومحاولة فرضها على المجتمعات والبناءات العربية، دون الانتباه إلى أنّها نتاج أزمات وسياقات اجتماعية وتجارب حياتية مختلفة، ومن هذه المفاهيم مفهوم التسامح.

وبالنظر إلى سياقات بناء نظرية التسامح ونحت مفهومه، فإنّها جاءت كرد فعل لنظرية الاضطهاد التي عززت الانقسامات والحروب، خاصّة الدينية منها، وذلك من خلال حركة الإصلاح البروتستانتي التي قادها القس الألماني (مارتن لوثر) Martin Luther.

التسامح في السياق العربي الإسلامي

في السياق العربي الإسلامي، يرى المفكر الجزائري محمد أركون أنّ التسامح يقع في دائرة اللّامفكر فيه في التراث العربي الإسلامي، ولكنّه يشدّد على أنّه كان موجوداً بشكل ضمني داخل المجتمع، في حين أنّ الأمر لم يكن مطروحاً للنقاش النظري، وتُعدّ صحيفة المدينة دليلاً على ذلك، لمَا تطرحه من نظام اجتماعي يعرف من العيش المشترك، ما هو غير معروف في هذه الظروف الاجتماعية والتاريخية، والمشكل الرئيس ليس في أنّ العقل الإسلامي وقف عليها كالنمط النهائي للعيش المشترك فحسب، بل إنّه أضحى يقيدها ويزايد عليها، إلى حدّ اختفاء قيمها في المجتمعات الإسلامية عبر حقب تاريخية عديدة.

ينقل الباحث السوري حسام الدين درويش في كتابه "في فلسفة الاعتراف وسياسة الهوية"، مستوى الحديث عن التسامح كنمط للعيش المشترك إلى الاعتراف، وهو مفهوم أكثر نضجاً من مفهوم التسامح بالنسبة إلى العقل الإنساني المعاصر

وبالحديث عن السياق الاجتماعي العربي الإسلامي اليوم، فإنّه معني بالتسامح بشكل ملحوظ وغير قليل، خاصّة بعد ظهور الجماعات الإرهابية التي تعلن عدم تسامح الدين الإسلامي مع الآخر، وترى في الكفر علّة للجهاد، وليس في الاعتداء. وقد عرفت الثقافة العربية الإسلامية مفهوم التسامح في تعاملها مع الآخر أواخر القرن الـ (19)، مع عودة البعثات الخارجية وحركات الإصلاح الديني، ومضمونه أن تكون متسامحاً مع الآخر المختلف لا عنيفاً معه، وهذا ما يجعله يلعب دوراً مهماً في تنافس الديانات عليه، فأضحت كلّ ديانة تتبرأ من تعصب الأخرى، وتعلن تسامحها هي، وهو ما يحمل مضموناً عنيفاً بالقوة، يتهم فيه الآخر بالعنف، وينفي المسؤولية عن الذات.

النقاش حول الهوية والاعتراف

في ظل الواقع العربي الإسلامي، وزخم الدراسات المعرفية المعنية بمفهوم التسامح، يقدّم الفيلسوف والباحث السوري حسام الدين درويش كتاباً باللغة العربية، ويُعدّ من داخل بنائها الثقافي بعنوان: "في فلسفة الاعتراف وسياسة الهوية (نقد المقاربة الثقافوية للثقافة العربية الإسلامية)"، لينقل مستوى الحديث عن التسامح كنمط للعيش المشترك إلى الاعتراف، وهو مفهوم أكثر نضجاً من مفهوم التسامح بالنسبة إلى العقل الإنساني المعاصر، فالاعتراف مفهوم أكثر إيماناً بالاختلاف، وظهر في الثقافة الغربية. فالتسامح حسب درويش -وأتفق معه- مفهوم يحمل طابعاً تبشيرياً وعظياً متعالياً، حيث يقول في مضمونه: رغم امتلاكي للحق، فأنا لست فظاً ولا غليظاً، وبإمكاني التسامح معك، ويضع في اعتباره الوظيفة التبشيرية للتسامح، التي تنفي العنف عن هذه الديانة، وفي الحين نفسه تقدّم صورة سمحة، يكون لها بالضرورة دور تبشيريّ.

ويرى أنّ الاعتراف علاقة بينذواتية؛ أي إنّه يحصل عادة بين ذوات وليس أشياء، ومفهوم الاعتراف يعني الاعتراف بكينونة الآخر المختلف، بكونه كذا أو كذا، ويرتبط هذا النوع من الاعتراف برغبة في أن يتم الاعتراف به، ويخلق الاعتراف وجود ما يُعترف به، أو انتقاله من المنبوذ والمعزول إلى المستحسن والمعترف به والمقبول.

ويشير درويش إلى علاقة مفردة الاعتراف بمفردة المعرفة، حيث يتضمن الاعتراف عادة معرفة بوجود الآخر المختلف، فلا يمكن أن يعترف به طالما لم يدركه ويدرك اختلافه، بيد أنّ المعرفة لا تعني الاعتراف، فالاعتراف فعل يجب أن تقوم به الأنا أو القانون أو الدولة، في حين المعرفة لا تمثل فعلاً أبداً، وتقف عند حدود الذهن في أغلب الأحيان.

ويعي درويش دور الثقافة في بناء الفرد، فالفرد في الأخير ابن ثقافة ما، أثرت في بنائه الفكري والشعوري أيضاً؛ لذا يلجأ في دراسته للاعتراف في السياق العربي/الإسلامي، إلى عرض المقاربة الثقافوية في السياق العربي/الإسلامي، التي يغلب عليها ـ حسب رؤيته ورؤية العديد من الدارسين للفكر العربي/الإسلامي- الطابع الديني، وأحياناً تتخذه سمة مميزة لها.

يبرز درويش في كتابه دور الانغلاق الهوياتي والصراع على الهويات الذي أفضى إلى انتقال الشعار من "الشعب يريد" إلى "الطوائف والإثنيات والأديان تريد"، وهذا ما شهدته الدول العربية إثر ما يُسمّى بالربيع العربي

وتبعاً للثقافة العربية المعاصرة، التي تنادي بتمايز الهوية العربية/الإسلامية وإعادة صيغتها، فإنّ الهوية تمثل بناءً محددّ الملامح ومعروفاً سلفاً، لا بناءً مجهولاً غير معروف يمكن بناؤه، والبناء الهوياتي في الثقافة العربية/الإسلامية يقع ضمن الإطار العقائدي، فالهوية محددة من خلال الاعتقاد الديني. ومع هذا النمط من التفكير الموجود في الثقافة العربية قد يتعذر القبول بالاعتراف بالآخر، وحقه في الاختلاف والوجود. ويبرز درويش في كتابه دور الانغلاق الهوياتي والصراع على الهويات الذي أفضى إلى انتقال الشعار من "الشعب يريد" إلى "الطوائف والإثنيات والأديان تريد"، وهذا ما شهدته الدول العربية إثر الانتفاضات العربية، أو ما يُسمّى بالربيع العربي.

ويشدّد درويش في كتابه على ثانوية هذه الهويات، في مقابل الحقوق الإنسانية عامة؛ أي حق الفرد بما هو فرد لا أكثر، ويقيم بناءه في الاعتراف بالاختلاف على الوعي بالقواسم المشتركة بين الإنسانية جمعاء، التي تعطي لكلّ فرد حقه في الاختلاف، وإلّا لا يكون نفياً لهذه القواسم فحسب، بل نفياً للقيمة الإنسانية الأخلاقية. ويُعدّ الاعتراف بهذه القواسم في الحين ذاته ميلاً إلى نبذ الطائفية والصراع الهوياتي والاتجاه نحو المشترك الإنساني. ويسعى درويش بتدشينه هذا الكتاب، وفتح النقاش حول الاعتراف، لبناء أفق أكثر رحابة ومرونة، بإمكانه تقبّل الآخر المختلف، وهذا الأفق مرهون وجوده بطرح النقاشات والدراسات حول الاعتراف وأنماط العيش المشترك. 

الدور السياسي في بناء الطائفية

ما يمكن أن يؤخذ على درويش من زاوية النظر التي تقول بالاستقلالية التامة عن الفكر الغربي، وهو أمر غير مقبول معرفياً، حيث إنّه يفضي إلى معرفة مشوهة عرجاء، أنّ درويش هنا يمثل صدى للفكر الغربي، بيد أنّ لي رؤية مختلفة مفادها أنّ درويش خاض مجال الحوار حول الاعتراف مع العقل العربي، ويعمل على نقل صيغ التعامل الإنسانية في الاجتماع العربي، من صيغ التسامح المتسمة بالتعالي عادة، إلى الاعتراف، وهو ما يفضي إلى مردود داخل الاجتماع بطبيعة الحال، حين يدرك العقل العربي أنّ أنماط التعايش لم تقف عند حدّ التسامح، وهو أمر له أهمية كبيرة على المستوى الفكري وعلى المستوى الاجتماعي والعيش المشترك. وهنا تُعدّ عبارة الدكتور أحمد برقاوي، التي وضعها في تقديم الكتاب معبّرة بشكل كافٍ عن القيمة المعرفية والواقعية للكتاب، حيث قال: "أن يؤلف فيلسوفٌ عربيٌ كتاباً في الاعتراف في تعيناته، ومحاوراً الخطاب الغربي في الاعتراف، فهذا من شأنه أن يمدّ الثقافة العربية، ولا سيّما الفلسفية، بساحة حوار، ليس مع الآخر فحسب، بل مع الذات، أيضاً". فالكتاب لا تقع أهميته فيما يحاور فيه العقل الغربي فحسب، بل فيما يخلقه من حوار حول الاعتراف وسياسات الهويات في السياق العربي/الإسلامي.

ويخوض درويش في كتابه نقاشات حول الواقع العربي/الإسلامي، ويتساءل عن إمكانية اختزال كافة المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الإسلام كدين، ويعرض درويش رؤية جان فيليب بلاتو في كتاب "استخدام الإسلام كأداة: الدين والسياسة من منظور تاريخي بكثير من الإعجاب ومفادها؛ أنّه تبعاً للاستقراء التاريخي، ليس بوسعنا القول إنّ الحركات والدعوات الأصولية الراديكالية وليدة الإسلام فقط ولصيقة به، فهي بنت الاستبداد السياسي والاستغلال الاقتصادي. وإذا كنت أتفق هنا مع درويش وبلاتو في عدم إمكانية اختزال أزمات المجتمعات العربية/الإسلامية في الإسلام كدين، ولكن أختلف معهما في تبرّؤ الثقافة الإسلامية القائمة في السياق العربي/الإسلامي، التي تلقي بظلالها على كافة المناحي الحياتية والفكرية والعلمية، كما أنّها تساهم بشكل غير قليل في ميلاد النظم الاستبدادية، وبالنظر للتجربة الأوروبية فإنّها بدأت من الإصلاح الديني الذي مكّن الشعب من نقد السلطة السياسية المستندة عادة إلى الدين؛ مستغلة في ذلك رجال الدين، كما وضح بلاتو واتفق معه درويش.

يشدد درويش على الدور السياسي في نشأة الطائفية، أو في الصورة الأقل حدة لبقائها واستغلالها، فيوضح كيف أنّها أداة من الأدوات السياسية أكثر من كونها ناتجة عن الدين

ويشدد درويش على الدور السياسي في نشأة الطائفية، أو في الصورة الأقل حدة لبقائها واستغلالها، فيوضح كيف أنّها أداة من الأدوات السياسية أكثر من كونها ناتجة عن الدين، وجدير بالانتباه توضيح أنّ الدراسات التي تعمل على الطائفية لم تستطع إبراز هذا الدور في سوريا، إلّا بعد اهتزاز نظام الأسد، ولجوئهم إلى خارج سوريا، ممّا فتح دائرة الإمكان للحديث عن الطائفية. وأتفق مع درويش في استغلال النظم السياسية للطائفية، خاصّة هذه النظم التي لا تملك مشروعاً سياسياً واضحاً، ولكن أشدد على ضرورة عدم اختزال أسباب وجود الطائفية في الأسباب السياسية، فالعقل المعاصر يدرك عدم واقعية توحيد السبب وراء الأزمات خاصّة الاجتماعية منها، لتشعبها وتعقيداتها الاجتماعية.

من باب الموضوعية، اعترافات الإنسان بالانحيازات الإنسانية الطبيعية غير معيبة على الإطلاق، بل هي تُعدّ إقراراً واعترافاً بالوضع القائم فعلياً، وتعبّر عن مدى نضج الفرد، وغير مبرأ منها أيّ شخص كان؛ فثمة أشياء تحرك الإنسان بشكل لا واعٍ أو واعٍ عادة، وتعمل على تشكل رؤيته. وهذا ما ألحظه في كتاب درويش، أنّ النظام السوري والأزمات السياسية السورية، وعيشه في الغرب كلاجئ، جعلت فهمه لتجربة الاعتراف أكثر عمقاً، وفي الحين ذاته كوّنت رؤيته للأزمات العربية/الإسلامية كأزمات سياسية فقط أو في جانبها الأكبر.

ولا شكّ أنّ للاستبداد السياسي دوراً كبيراً في هذه الأزمات، بيد أنّ ثمّة استبداداً تمارسه السلطة الدينية؛ لما لها من امتيازات وسلطة معنوية داخل هذه المجتمعات، وهذا ما يجعلها في كثير من الأحيان تمثل ثروة بالنسبة إلى السلطة السياسية، ومن خلال السلطة المعنوية التي يمارسها رجال الدين، لهم دور غير قليل في صياغة الوعي في النطاق العربي الإسلامي، وحسب جدلية السيد والعبد للفيلسوف الأماني هيجل؛ فإنّ للوعي مسؤولية عن الاستبداد، فمتى أدرك العبد دوره وأهميته عند سيده ووعى بها، أصبح ينادي بحقوقه. فمن الضروري الانتباه إلى دور النمط الديني والثقافي في بناء أشكال الاستبداد السياسي.

مواضيع ذات صلة:

ما مصير التسامح والحوار في المجتمعات المفتوحة؟

التسامح السلطوي والتسامح التعددي

التسامح من قيم الإسلام الأصيلة




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية