الانتخابات اللبنانية المقبلة وعواقب انقسام الشارع السُّني

الانتخابات اللبنانية المقبلة وعواقب انقسام الشارع السُّني


02/04/2022

حنين غدار

تَسبَّب قرار سعد الحريري، رئيس الوزراء اللبناني الأسبق وزعيم تيار المستقبل، باعتزال الحياة السياسية في لبنان، بحدوث موجات ارتدادية في أوساط الطائفة السُنيَّة اللبنانية، الأمر الذي سينطوي دون شك على انعكاسات حقيقية على الانتخابات البرلمانية اللبنانية المقررة في 15 مايو 2022. ويبدو الشارع السُنِّي أكثر ارتباكاً وضياعاً من أي وقت مضى بعد اعتزال سعد الحريري وإعلان الزعامات السياسية التقليدية السُنيَّة، وفي المقدمة رئيس الحكومة الأسبق تمام سلام ورئيس الحكومة الحالي نجيب ميقاتي، عن عدم رغبتهما في خوض الانتخابات المقبلة.

وعلى الرغم من أن سيناريو تأجيل الانتخابات البرلمانية ما زال مطروحاً في ضوء التطورات الداخلية والإقليمية، فإن الأدوات الانتخابية لجميع الأحزاب والقوى اللبنانية تعمل بكامل طاقتها خلال الأسابيع القليلة الماضية للاستعداد للانتخابات المقبلة. 

المشهد السياسي السُّني في لبنان

إلى جانب إعلان سعد الحريري عزوفه هو وتياره عن خوض الانتخابات النيابية المقبلة، أطلق حملة انتقادات ضد أي مرشح سُنّي، وخاصة الشخصيات التي تنتمي لتيار المستقبل والتي كانت تخطط لخوض الانتخابات، مثل رئيس الوزراء الأسبق فؤاد السنيورة والنائب السابق مصطفى علوش. وأرغمت حملة الانتقادات هذه السنيورة وآخرين على التراجع عن ترشيح أنفسهم، حيث تركز جميع الجهود الآن على إقناع الناخبين السُنَّة بالإدلاء بأصواتهم، لأن مقاطعة الانتخابات تُمَثِّلُ خدمة لـ "حزب الله" فقط.

وكانت نسبة 49.2% من الناخبين السُنَّة قد شاركوا في آخر انتخابات برلمانية جرت عام 2018، حيث يُمَثِّلُ هذه الطائفة 27 نائباً في البرلمان اللبناني (من إجمالي 128 نائباً). وتمكَّن "حزب الله" آنذاك من انتزاع ستة مقاعد من حصة السُنَّة. وهناك مخاوف حقيقية من أن الحزب قد يتمكن من الحصول على مزيد من هذه المقاعد في حال عدم وضع القيادة السُنيَّة لاستراتيجية واضحة وموحدة.

وبأخذ مدينة طرابلس التي تُعَدُّ أكبر معقل للطائفة السُنيَّة مثالاً، سنرى أنَّه يوجد في هذه المدينة أربع قوائم انتخابية منفصلة على الأقل: واحدة بزعامة مصطفى علوش المستقيل من تيار المستقبل، والثانية بقيادة اللواء أشرف ريفي، وزير العدل السابق، وثالثة مدعومة من رئيس الوزراء نجيب ميقاتي، ورابعة مدعومة من "حزب الله". ومن غير الواضح إذا ما كانت منظمات المجتمع المدني تمتلك قائمة كاملة في طرابلس. وحتى في حال عدم وجود مثل هذه القائمة فإن القوائم السُنيَّة المقسمة ستجعل من السهل على "حزب الله" اختراق الناخبين السُنَّة.

وتتمحور المعركة الانتخابية الحالية في لبنان، وبخاصة على الساحة السياسية السُنيَّة، حول إيران و"حزب الله". ويعني الاستسلام للوضع القائم ببساطة فوز "حزب الله" بمزيد من المقاعد في الانتخابات المقبلة، ما يعني أن الناخبين السُنَّة قد يقررون نتائج هذه الانتخابات.

ولعل من غير السهل تحفيز الشارع السُّني اليوم خلال هذه المرحلة التي تمثل أسوأ فترة سياسية بالنسبة للسُنَّة في لبنان بسبب الافتقار إلى القيادة، وانقسام الناخبين والمرشحين، والعزلة عن العمق العربي، وهيمنة "حزب الله"، وكيل إيران، على القرار السياسي اللبناني. وتدرك الطائفة السُنيَّة في لبنان أن ظهور قيادة تقليدية جديدة مثل أسرة الحريري لم يُعَدُّ أمراً ممكناً في هذه المرحلة، ومع ذلك فإنه في حال تمكُّن القادة السياسيين المختلفين من طرح موقف وخطة موحدة فإن بإمكان السُنَّة على الأقل الحفاظ على تمثيلهم الحالي في البرلمان. ولعل ظهور قيادة تضم عدة شخصيات قد يكون مفيداً، لكنَّ الوحدة هي الأساس.

واستند تمثيل الطائفة السُنيَّة في البرلمان اللبناني قبل وجود أسرة الحريري والتوصل إلى "اتفاق الطائف" عام 1989 إلى قيادات العائلات المحلية، مثل الصلح وسلام وكرامي، وغيرها. ويمكن للعودة إلى نظام تمثيل مشابه داخل الطائفة السُنيَّة أن ينجح، غير أن الأمر دون شك سيكون معقداً في ظل وجود "حزب الله" الذي يُعَدُّ مستعداً تماماً لاختراق هذه الطائفة. كما أن مقاطعة السُنَّة للانتخابات سيصب في مصلحة "حزب الله" نظراً لوجود سابقة؛ ففي عام 1992 وفي أعقاب نفي ميشال عون إلى فرنسا ووضع زعيم "القوات اللبنانية" سمير جعجع رهن الاعتقال، قاطع المسيحيون الانتخابات، لكنَّ هذا جاء بنتائج عكسية حيث تمكَّن حلفاء النظام السوري من الفوز بمزيد من المقاعد.

ويبدو لغاية الآن السيناريو الأكثر ترجيحاً هو حدوث إقبال ضعيف من جانب الناخبين السُنَّة على الانتخابات يقود إلى تحسين فرص المرشحين السُنَّة المفضلين لدى "حزب الله"، وبالتالي حصول فرصة أفضل للحزب للاحتفاظ بالأغلبية البرلمانية. وفي هذه المرة، وبدلاً من الاعتماد على الحلفاء المسيحيين في حزب "التيار الوطني الحر" فإن "حزب الله" سيحظى بدعم الكتلتين المسيحية والسُنيَّة في البرلمان.

وتُعَدُّ دائرة بيروت الثانية (11 مقعداً؛ ستة منها للسُّنة واثنان للشيعة) مثالاً جيداً على هذا الأمر، حيث يوجد عدد كبير من الناخبين الشيعة في هذه الدائرة، لذلك سيتمكن "حزب الله" وحلفاؤه، مثل جمعية المشاريع الإسلامية (الأحباش)، في حال ضعف الإقبال من جانب الناخبين السُنَّة في هذه الدائرة من ضمان سبعة مقاعد على الأقل، مقارنة بأربعة مقاعد حصلوا عليها عام 2018. وسيواجه منافس الحزب في هذه الدائرة – فؤاد المخزومي – صعوبةً في حشد الناخبين الذين يشعرون بخيبة أمل، والذين قد يفضلون عدم الخروج للتصويت أو منح أصواتهم إلى المرشحين المستقلين ومرشحي منظمات المجتمع المدني ضمن قائمة "تحالف بيروت" في هذه الدائرة. 

خطة "حزب الله" بعيدة الأمد

أدرك "حزب الله" في ضوء تراجع شعبية "التيار الوطني الحر" أنه ليس بوسعه الاحتفاظ بالأغلبية في البرلمان من خلال الاعتماد على النائب جبران باسيل ورئيس الجمهورية ميشال عون. وأدى انسحاب سعد الحريري إلى توفير فرصة كبيرة لـ "حزب الله" لاختراق الشارع السُني في كل مكان، وبخاصة في الدائرة الثانية من مدينة بيروت، والبقاع الغربي. وظلت صيدا خياراً جيداً إلى أن قرر النائب أسامة سعد – الحليف القديم لـ "حزب الله" – خوض الانتخابات بشكل مستقل. كما يأمل "حزب الله" بضمان الفوز ببعض المقاعد في طرابلس والمناطق الشمالية من لبنان.

وتمكَّن مرشح "حزب الله" أمين شري في الدائرة الثانية من بيروت عام 2018 من الحصول على أعلى الأصوات – 22,961 صوتاً – أي أعلى مما حصل عليه رئيس الوزراء الأسبق سعد الحريري الذي جاء في المرتبة الثانية بحصوله على 20,751 صوتاً ضمن قائمة "مستقبل بيروت". وانطوى هذا الفوز على تأثير كبير ليس فقط في لبنان بل على المستوى الإقليمي أيضاً، حيث سارع قائد "فيلق القدس" آنذاك قاسم سليماني حال الإعلان عن نتائج الانتخابات إلى القول "في بيروت ولأول مرة في تاريخ لبنان تفوز شخصية شيعية تابعة لحزب الله، ويحصل بعض المرشحين الذين يوصفون بأنهم عملاء لإيران على أصوات أكثر من المرشحين الآخرين".

يرى زعيم "حزب الله"، حسن نصر الله، أن في ذلك مؤشّراً على الانتخابات المُقبلة، وبخاصةٍ مع غياب الحريري. والآن ينسق نصر الله بنفسه الانتخابات مع أطراف مُختلفة، ويعقد الاجتماعات مع شخصيات كبيرة. ووفقاً لبعض المصادر، فقد قال نصر الله خلال هذه الاجتماعات إن "حزب الله" قد يدخل المعركة الانتخابية في منطقة بيروت الثانية مع حركة أمل والتيار الوطني الحر. ومع ذلك، يحاول "حزب الله" إبرام صفقات مع الآخرين من وراء الكواليس من أجل اختراق التمثيل السُّني في البرلمان. ومع ذلك، فإن هذا الجهد لم يأتِ من فراغ، فقد كان هناك جُهد مُنسّق لاستهداف القيادة السياسية السنيّة وإضعافها منذ أن اُغتيل رئيس الوزراء الأسبق، رفيق الحريري؛ ففي عام 2005 وخلال الهيمنة السورية على لبنان، لم يُسمح للأصوات الشعبية السنية وقيادتها السياسية بأن تكون مُستقلّة عن أجندة النظام في لبنان، وهو ما كان يُعارضه الحريري الأب ودفع ثمناً كبيراً لذلك في نهاية المطاف.

بعد اغتيال الحريري وانسحاب القوات السورية من لبنان، ورث "حزبُ الله" دورَ وقوة النظام السوري في البلاد، حيث أوضح بشكل جلّي للسُّنة بأن "حزب الله" هو من يتحكّم بزمام الأمور، وكان ذلك واضحاً خلال أحداث 7 مايو 2008؛ فمُعظم الاشتباكات آنذاك وقعت في الأحياء السُّنية في بيروت وبعض مناطق جبل لبنان، حيث تتركز حاضنة وليد جنبلاط من طائفة الدروز، والتي انتهت بإبرام اتفاق الدوحة سيئ الذكر. من جانبه، رأى سعد الحريري في نهاية المطاف أن ثمن السلطة هو التوصّل إلىحل وسط مع "حزب الله"، ما أفقده مُعظم الدعم الشعبي الذي كان يحظى به، ودعْم المملكة العربية السعودية كذلك.

وبينما كان "حزب الله" يستغل التنازلات التي قدّمها الحريري، كان الحزب مشغولاً أيضاً باختراق المجتمع السُّني. ويمثّل المال – حتى إن كان مبلغاً زهيداً –اليوم طريقة سهلة لجذب المؤيدين من المناطق الفقيرة، في خضم أسوأ أزمة مالية يشهدها لبنان على الإطلاق. فالشبان العاطلون عن العمل من السُنّة ومع شعورهم بالإحباط والعزلة والافتقار إلى القيادة، قد يصل بهم اليأس إلى العمل مع "حزب الله" من أجل حفنة من الدولارات. واليوم، يُمكن أن يكون لهؤلاء الشباب حافز إضافي للتصويت لحزب الله والانخراط في سردية الحزب الانتخابية واستراتيجيته لجذب المزيد من الناخبين السُنّة من داخل مُجتمعاتهم المحليّة. ومع ارتفاع مستويات الفقر، وغياب صناديق الحريري للدعم المالي التي تعتمد عليها العديد من العائلات، لا يحتاج "حزب الله" إلى ميزانية كبيرة لاختراق المُجتمعات السنيّة الفقيرة.

أهمية السياق الإقليمي

ترتبط الضائقة التي يمر بها السُنّة الآن في لبنان بإحساس عام بأن المجتمع الدولي، بما في ذلك الدول العريبة، قد تخلى عن لبنان ومُجتمعه السُّني. ومن المفهوم أن لدى دول الخليج أولويات أكبر اليوم، مثل الأمن الخليجي والحوثيين وإيران، ولكن سحب سفراء أغلب دول مجلس التعاون الخليجي (السعودية والإمارات والبحرين والكويت) من لبنان في أكتوبر 2021 ترك فراغاً في البلاد على مستويات عدة. ويُمكن أن تحمل عودة سفراء هذه الدول قريباً - وفقاً للتقارير المحلية– إشارة جيدة إلى الناخبين السُنّة قبل الانتخابات.

ولا أحد يتوقّع أكثر من ذلك من دول مجلس التعاون الخليجي في هذه المرحلة، وهو أمر له مُبرراته. ومع سيطرة "حزب الله" على مؤسّسات وقرارات الدولة في لبنان، فما الذي يدفع أي طرف إلى الاستثمار في لبنان على نحو أكبر؟ فلا يتوافر رفيق حريري جديد في لبنان، ولا السياقات الإقليمية والدولية المُلائمة لبروز قائد سُنّي أو وطني في البلاد. ومع ذلك، فلم نفقد كل شيء؛ فالظروف مواتية للقيام بنوع مُختلف من الاستثمار في البلاد؛ فحزب الله هو الذراع العسكرية الرئيسة لإيران، ولن يكون الحرس الثوري الإيراني ولا وكلاؤه قادرين على الحفاظ على وحدتهم وقدراتهم ودعمهم اللوجستي من دون مهارات وموارد "حزب الله". ولبنان هو مركز "حزب الله" ومقره، إذ إن إضعافه في لبنان سيُضعف إيران في نهاية المطاف في جميع أنحاء المنطقة، وهذا لا يعني بالضرورة المواجهة العسكرية معه؛ فتشكيل جبهة إقليمية موحّدة ضد إيران و"حزب الله" يُمكن ترجمتها إلى جبهة سُنيّة موحّدة في لبنان. 

كما يمكن القيام بالمزيد من الجهود الدبلوماسية والسياسية في لبنان لتصحيح حالة الانقسام في المجتمع السُّني وقيادته. ويجب الانتهاء من إعداد قوائم موحّدة لمرشحي المُعارضة المُناهضين لحزب الله في أقرب وقت ممكن، وبخاصةٍ في الدوائر الانتخابية السُنيّة، من أجل وقف اختراق "حزب الله" للمجتمع السنّي وهيمنته على تمثيله في البرلمان. والسُّنة الساخطون في لبنان بحاجة إلى شخصيات ذات قاعدة شعبية وجدير بالثقة ولديها أيضاً القوة للوقوف في وجه "حزب الله". ويُمكن أن تلعب دول الخليج دوراً حيوياً في دعم الأفراد الجديرين بالثقة، وتوحيد الصوت السُّني لدعمهم، عبر رسائل وحملات سياسية واضحة. والاستثمار السياسي اليوم هو أكثر حيوية من الاستثمار المالي؛ فالمجتمع السُنّي في لبنان يشعر بالتهميش والإهمال، وتكمُن الخطوة الأولى في مُساعدته على الشعور بالمزيد من الانخراط وتلقّي الدعم، لكنه يحتاج أيضاً إلى أن تضع قيادته المنقسمة خلافاتها جانباً وتوحّد قوائمها من أجل تحقيق الهدف الأكبر، فلطالما أتقن "حزب الله" اللعب على الانقسامات واستغلال الثغرات. وينبغي على دول الخليج الضغط على القيادة السنية للتخلّص من هذه الانقسامات والثغرات.

أخيراً، وسواء جرت الانتخابات أم لم تُجرَ، فلن تذهب هذه الجهود هباءً على المدى القصير والطويل. فالأمر الذي يفتقر إليه سُنة لبنان جميعهم بدءاً من العشائر السُّنية في البقاع ووادي خالد، وصولاً إلى عائلات بيروت وطرابلس وصيدا، هو التواصل السياسي والخطة الجماعية، ما يؤدّى في نهاية المطاف إلى ولادة شخصيات سياسية جديدة. وإذا لم تتمكّن القيادة اللبنانية من تحقيق ذلك، فإنه يُمكن للقيادة الإقليمية فعل ذلك؛ فيُمكن ترجمة الجبهة الإقليمية الموحّدة داخل المجتمع السُّني في لبنان، ويُمكن عندئذٍ للبنان استعادة عُمْقه العربي.

رابط مُختصَر: https://epcenter.ae/371t6LA

عن "مركز الإمارات للسياسات"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية