
هاني سالم مسهور
من الخرطوم إلى غزة، ومن تعز إلى طرابلس، لا تتغير السردية الإخوانية أبداً، فهي واحدة في خطابها، متطابقة في عداوتها، ومهووسة بعدوّها الأول: الإمارات.
منذ أن وقفت أبوظبي في وجه فوضى “الربيع العربي”، وأبطلت مفعوله في مصر، ثم تصدت له عسكرياً في اليمن، وفضحته استخباراتيا في ليبيا، وجففت منابعه ماليًا في السودان، باتت العواصم الإخوانية تدور في فلك الكراهية ضد الدولة التي سحبت البساط من تحت مشروعهم الأممي.
والحال أن السردية التي تتهم الإمارات بدعم قوات الدعم السريع في السودان، ليست سوى تكرار باهت لأسطوانة أيديولوجية معطوبة، فالمعركة في السودان ليست معركة شعب وجيش ضد “مرتزقة مدعومين خارجيا” كما يُروَّج، بل هي معركة بين جناحي النظام القديم: الإخوان المسلمون الذين التهموا السودان منذ انقلاب البشير في 1989، وقوات الدعم السريع التي خرجت من رحم الجنجويد، تلك الميليشيا التي أسسها البشير نفسه لقمع التمرد في دارفور.
إنها حرب أبناء البيت الإخواني الواحد، لكنها، كعادة الإخوان، لا تكتمل دون شماعة الإمارات، فهم لا يطيقون مجرد وجود دولة عربية تملك قرارها، وتتمسك بسياقها الوطني والتنويري، وتبني نموذجا وطنيا لا يتسول الشرعية من المرشد أو الولي الفقيه.
وفي خطابهم المضلل، يحاولون خلط الأوراق: يتحدثون عن التدخل الإماراتي، ويتناسون أن الجيش نفسه – بقيادة البرهان – هو وريث المدرسة الإخوانية التي حكمت السودان طيلة ثلاثين عامًا، لا يريدون الاعتراف بأن العسكر في السودان ليسوا حراسا للوطن، بل امتداد لمشروع استبدادي تشكل في حضن الترابي والبشير واغتنى من دماء دارفور.
ما يحدث اليوم ليس إلا إعادة إنتاج لنفس المشهد الذي أنهى وحدة السودان، وأفقده ثروته النفطية، وحوّله إلى ساحة صراع إثني ومناطقي وطائفي، ومن المدهش أن الإخوان الذين تحالفوا مع العسكر لعقود، عادوا للتحالف معهم مجددا تحت راية “الحفاظ على الدولة”.
أي دولة؟ الدولة الوطنية المركزية التي فشلت منذ الاستقلال عام 1956 في بناء نموذج عادل؟ الدولة التي لم تعرف تداول السلطة، ولا العدالة الاجتماعية، ولا المواطنة؟ نفس الدولة التي دمرت اليمن الشمالي، وشرذمت ليبيا، وخنقت العراق، ومزّقت سوريا؟
تجربة السودان ليست حالة شاذة، بل خلاصة فشل الدولة الوطنية العربية التي تأسست بعد جلاء الاستعمار، دولة تقوم على نخبة مركزية، تستأثر بالسلطة والثروة، وتتعامل مع الأطراف بوصفها عبئا أمنيا أو هامشا بشريا، وما الحرب الحالية إلا نتيجة لهذا الفشل البنيوي، الذي استغله الإخوان والعسكر لتقاسم الخراب.
لكن الأخطر من ذلك أن هناك إصرارا إقليميا مقلقا على تعويم جماعات الإسلام السياسي من جديد، وكأننا لم نتعلم شيئًا من الكارثة الأصلية، حين دعمت بعض الأطراف الغربية والعربية ما سُمِّي بـ“الجهاد الأفغاني” في ثمانينات القرن العشرين، وقدمت المال والسلاح والشرعية لما يُعرف بـ“الأفغان العرب”، تلك كانت البذرة الأولى التي نما منها تنظيم القاعدة، وتفرعت إلى أنصار الشريعة، وهيئة تحرير الشام، وبوكو حرام، وداعش، سلسلة من التنظيمات الجهادية التي دمرت المجتمعات، وهدمت الدول، وصدّرت الإرهاب إلى كل زاوية في هذا الكوكب، ومع ذلك، يُراد اليوم تكرار الخطايا نفسها، وبلغة أكثر نعومة “انفتاح على القوى الإسلامية”، “إشراك الجماعات المؤدلجة”، “احتواء الإسلاميين”.
لكن، تحت أي ذريعة يتم تكرار هذه الموبقات؟ وهل يملك صانعو القرار رفاهية إعادة إنتاج تجربة أفغانستان في قلب العواصم العربية؟ لقد دفع العرب والعالم ثمن هذا الخطأ التاريخي، وما زالوا يدفعونه، فلماذا تعود اللعبة القديمة بثوب جديد؟ ولمصلحة من يتم منح هذه الجماعات فرصًا جديدة للتمكين؟
الإمارات لم تكن يوما سببا في انهيار السودان، بل كانت من أولى الدول التي مدّت يد العون، وقدمت أكثر من 3.5 مليار دولار مساعدات تنموية وإنسانية، وكانت حاضرة في كل مبادرة سلام، من جدة إلى جنيف، لكن هذا لا يرضي الإخوان، لأنهم ببساطة لا يريدون السلام، بل يريدون انتصار جناحهم داخل الجيش.
اتهموا الإمارات زورا بدعم الدعم السريع، بينما غضوا الطرف عن تقارير موثقة تتحدث عن مسيّرات إيرانية يستخدمها الجيش، وتحالفات تُطبخ في الظلام بين ضباط الخرطوم وجماعات عقائدية لها ارتباط عضوي بطهران، وتسليمهم منفذا بحريا للأتراك والإيرانيين على البحر الأحمر.
والمفارقة أن الإمارات، التي قاتلت الحوثي في اليمن، وواجهت الإخوان على تخوم عدن، وقادت تحالفا ضد الإرهاب في سيناء، ورفضت تقسيم ليبيا بين ميليشيات الإخوان والمهربين، لا تزال تُهاجم من إعلام الفشل العربي لأنها ببساطة… كشفت عريهم.
الهجوم على الإمارات ليس إلا غطاء لفشل مشروع الدولة المركزية، وفشل الإسلام السياسي في التحول إلى قوة وطنية، وحين تجتمع المركزية الفاشلة مع الجماعة المتسلقة، تكون النتيجة سودانا جديدا، لا يختلف كثيرا عن سوريا الممزقة أو العراق المستباح، كل سردية إخوانية تستهدف الإمارات هي شهادة جديدة على صحة موقفها، وكل اتهام لها هو تأكيد على أنها تسير في الاتجاه الصحيح، في زمن عربي اختلطت فيه خنادق المقاومة بخطوط الطيران الإيرانية.
أما الشعب السوداني فهو الضحية التي لم يتغيّر قدرها، فقط تغيّر جلادوها، بين عسكر يلبسون بزّات الجمهورية، وإخوان يتحدثون بلغة الثورة، وميليشيات ترتدي عباءة المظلومية.
وأما الإمارات فستبقى تُستهدف طالما ترفض أن تكون نسخة من الخرطوم أو طرابلس، وهذا شرف… لا تدركه السرديات المأزومة.
العرب