عند الحديث عن المناطق الشاسعة الممتدة ما بين سهول أواسط آسيا شرقاً حتى "جبال الأورال" في عمق روسيا غرباً، سرعان ما تتبادر إلى الأذهان أسماء عديدة لشخصيات بارزة في التاريخ الإسلامي خرجت من تلك المناطق، من الإمام البخاري، إلى الترمذي، إلى النَسائي، إلى الفارابي. يؤشر ذلك، بلا شكّ، إلى أيّ مدى كانت هذه المناطق بمثابة مركز إسلامي في الحقب التاريخية الماضية، وكذلك يفتح باب التساؤلات حول المسارات التي مرّت بها وضعية الإسلام هناك وصولاً إلى الحقبة المعاصرة، ويسلّط هذا التقرير الضوء على فصول وجوانب منه.
الدخول والانتشار... كيف كانت البداية؟
تعود بدايات وصول الإسلام إلى مناطق "آسيا الوسطى" إلى عصور الإسلام الأولى، وذلك حينما فتح القائد المسلم قتيبة بن مسلم الباهلي، في القرن الهجري الأوّل، ما كان يُعرف في حينه بـ "بلاد ما وراء النهر"، وهي البلاد التي تلي بلاد خراسان وتفصل بينها وبين بلاد الصين.
وقد عرف التاريخ الإسلامي قيام عدد من سلالات الحكم والممالك الإسلامية في مناطق أواسط آسيا، كان أساسها من الأقوام التركية المنتشرة في تلك البلاد، ومن أبرز هذه الدول: دولة القراخانيين (840-1212)، والدولة الغورية (879ـ1215)، والدولة الغزنوية (961 - 1187)، ودولة السلاجقة (1037-1194)، والدولة التيمورية (1370ـ 1507).
وقد اعتنقت الأقوام التركية الإسلام تدريجياً بداية من دخول الهياطلة والبختيين في الإسلام منذ وصوله في القرن الـ8 الميلادي، ومن ثمّ دخلت سلالة القراخانيين الإسلام في القرن الـ10 الميلادي (وتحديداً في عام 934). وتُشير المصادر التاريخية إلى أنّ غالبية قبائل الأتراك الغُزِيّة (الأوغوز)، والقارلوق، وشعب الكومان، قد اعتنقوا الإسلام منذ النصف الثاني من القرن الـ10 الميلادي (الـ4 الهجري)، على أيدي التجار والدعاة والصوفية، وقد أدى طريق الحرير دوراً مهمّاً في نشر الإسلام في أواسط آسيا، فكانت العقائد والأفكار تنتقل مع البضائع.
أمّا في روسيا، فتعود بداية دخول الإسلام إلى عهد الخليفة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، حينما وصل المسلمون إلى "دربند" عام (22) للهجرة (643 للميلاد)، وهي إحدى مدن جمهورية داغستان (التي تقع بجنوب روسيا الاتحادية اليوم).
أدّى طريق الحرير دوراً مهمّاً في نشر الإسلام في أواسط آسيا، فكانت العقائد والأفكار تنتقل مع البضائع
أمّا المنطقة الروسية الثانية التي دخلها الإسلام وانتشر فيها، فهي منطقة حوض "نهر الفولغا"، في عمق روسيا (وتحديداً أراضي جمهورية تتارستان الحالية في روسيا)، وذلك في زمن المملكة التي تُعرف في المصادر العربية التاريخية باسم "مملكة البلقار" (ويُعرفون أيضاً بـ: "بلغار الفولغا")، والتي وجدت بين القرنين الـ7 والـ13 الميلادي، فقد أسلم ملكها جعفر بن عبد الله (وكان اسمه ألمش بن يلطوار قبل أن يسلم) عام 922، وكان أوّل من وحَّد قبائل بلغار الفولغا بمملكة واحدة، وتحت دين واحد هو الإسلام. وقد طلب البلقار من الخليفة العباسي في بغداد أن يرسل إليهم من يفقههم في الدين، وبالفعل أرسل الخليفة العباسي المقتدر أحمد بن عباس، المعروف بابن فضلان، صاحب الرحلة الشهيرة.
وعندما غزا المغول روسيا في القرن الـ13 الميلادي، كانت منقسمة إلى دويلات، فقاموا باحتلال بلاد البلقار، إلّا أنّهم بعد فترة قصيرة اختلطوا بسكانها وتبنّوا لغتهم ودينهم، وعرف سكان الدولة الجديدة باسم "التتار"، أمّا دولتهم، فأطلق عليها اسم "خانيّة القبيلة الذهبية". في عام 1245 اعتنق حاكمهم "بركة خان" الإسلام، أمّا في عام 1312، خلال عهد "أوزبك خان"، فقد أصبح الإسلام دين الخانيّة. وقد استمرّ الروس بالخضوع للتتار، واستمرّوا بدفع الجزية لهم حتى تمكنوا من التحرر، وذلك عندما هزم الأمير الروسي دميتري دونسكوي التتار في معركة عام 1380، ومن ثمّ تواصل التوسع الروسي على حساب التتار خلال القرن الـ15.
التوسع الإمبراطوري... فصول من قصة الصِدام الروسي ـ الإسلامي
بدأ عهد التوسع الفعلي لإمارة موسكو الروسية في عهد الأمير إيفان الثالث (حكم ما بين 1462 و1505)، والذي وسّع حدود الدولة شرقاً على حساب الأراضي التي كانت تابعة لخانيّة القبيلة الذهبية، إذ أطلق حملات عسكرية ضد التتار المسلمين في الأعوام: 1448، و1454، و1459. واستمرّ التوسع الروسي في عهد فاسيلي بن إيفان الثالث (حكم في الفترة: 1505-1533)، وهو الذي طلب منه البابا أن يطرد المسلمين إلى سيبيريا، ثأراً لسقوط القسطنطينية بيد المسلمين الأتراك عام 1453.
ومن ثمّ جاءت المرحلة الأقسى من الصدام في عهد "إيفان الرابع" المعروف بـ "إيفان الرهيب"، والذي توّج كأوّل قياصرة روسيا عام 1547، وقام بتوسيع حدود الدولة الروسية باتجاه سيبيريا شمالاً وعلى حساب أراضي التتار شرقاً وجنوباً، وهو ما نجم عنه القيام بشنّ حرب شاملة ضدّ المسلمين التتار والمسلمين الباشكير، وقام بفرض التنصير عليهم، وهو ما تسبّب في تنصّر الكثير من التتار ومن قومية الباشكير المسلمين (القاطنين في جبال الأورال الجنوبية).
اقرأ أيضاً: الإسلام في الولايات المتحدة: من صعود الحركات الأفروأمريكية إلى مواجهة الإسلاموفوبيا
ومن ثمّ توسّعت روسيا بشكل هائل في عهد الإمبراطورة كاترين الثانية (1762 ـ 1796) وخلفائها من القياصرة الروس خلال القرن الـ19. وفي عهد القيصر نيقولا الأوّل (1825-1855) بدأ الغزو الروسي الواسع لآسيا الوسطى، وتمكنت الإمبراطورية الروسية بين عامي 1847 و1864 من إطباق سيطرتها على كامل كازاخستان، ومن ثمّ انتقلت جنوباً واستولت بين عامي 1864 و1868 على طشقند وسمرقند، وسيطرت على خانات "خوقند" و"بخارى" (في أوزباكستان اليوم). واستولت على غرب تركمانستان عام 1881، ثمّ سيطرت على تركمانستان الشرقية في عام 1884، واستمرّت الإمبراطورية بالتوسّع حتى منعها البريطانيون من التوسع جنوباً باتجاه أفغانستان عام 1885. وكان الاحتلال الروسي لهذه المناطق مصحوباً بهجرة روسية منظّمة إليها للاستيطان في أقاليمها الزراعية، ولتغيير تركيبتها السكانية.
الحقبة السوفييتية... مقاومة ثم تسليم
عند قيام الثورة البلشفية في روسيا عام 1917 كان المسلمون في آسيا الوسطى يئنّون تحت وطأة اضطهاد الحكم القيصري، وكان الزعماء البلاشفة يدركون هذه الحقيقة، لذلك سعوا للحصـول على تأييد المسلمين لثورتهم نظراً لكثرة أعدادهم ورغبتهم الشديدة في الخلاص من الحكم القيصري، وهو ما ظهر في خطابات لينين الموجهة للمسلمين، والتي كانت تستميلهم وتؤكد على ضمان حرّيتهم في ممارسة عباداتهم وضمان الحفاظ على هويتهم.
وكان قسم من المسلمين قد بدأ بالتحرك منذ عام 1916 للاستقلال عن حكم الإمبراطورية الروسية، مستغلين انشغالها بالحرب العالمية الأولى، وأقاموا لهم دولة مستقلة في وادي فرغانة (تتقاسمه كلٌّ من أوزبكستان وقيرغيزستان وطاجيكستان اليوم)، عاصمتها مدينة "خوقند". وما كان من البلاشفة إلّا أن شنّوا هجوماً عنيفاً على خوقند في شباط (فبراير) 1918، وارتكبوا فيها مجزرة راح ضحيتها الآلاف؛ ممّا شكّل ضربة لمحاولة إقامة أيّ إمارة إسلامية مستقلّة عن حكم البلاشفة.
خلال الثورة البلشفية كانت خطابات لينين الموجّهة للمسلمين تستميلهم، وتؤكد على ضمان حريتهم في ممارسة عباداتهم بعد نجاح الثورة
وفي هذه المرحلة برز اسم حركة "باسمشي"، التي أطلقت انتفاضة ممتدة ضد الحكم الإمبراطوري الروسي، ومن ثمّ السوفييتي، من قبل الشعوب المسلمة في آسيا الوسطى. وجاءت بدايتها مع الاحتجاجات ضد التجنيد الإجباري عام 1916. وبعدما استولى البلاشفة على السلطة وبدأت الحرب الأهلية الروسية (1918-1921)، شنّت هذه الحركة حرب عصابات، وتمكنت من السيطرة خلالها على أجزاء كبيرة من وادي فرغانة وجزء كبير من مناطق آسيا الوسطى، إلّا أنّه بحلول أواسط عقد العشرينيات، وبعد حملات الجيش الأحمر، تراجعت "باسمشي" وتراجع الدعم الشعبي لها، وبدأ الاتحاد السوفييتي تدريجياً يُحكم قبضته على آسيا الوسطى، وذلك بعد تقسيمها إلى (5) جمهوريات، هي: أوزباكستان، وطاجيكستان، وقيرغيزستان، وتركمانستان، وأوزباكستان.
اقرأ أيضاً: الطرق الصوفية في تركيا.. عبادة أم سياسة؟
ومع تبنّي الاتحاد السوفييتي سياسة "إلحاد الدولة"، جرى التضييق على ممارسة الإسلام والأديان الأخرى، وهو ما اشتدّ تحديداً بعد وفاة لينين عام 1924 وصعود ستالين إلى واجهة الحكم في الاتحاد السوفييتي. وشملت إجراءات التضييق هدم وإغلاق المساجد، وإلغاء المحاكم الشرعية، ومنع الكتابة بالحرف العربي، وفُرضت اللغة الروسية على المسلمين. ومن أشهر الإجراءات كانت حملة "هجوم" في عهد ستالين، وهي حملة استهدفت إزالة جميع مظاهر اللّامساواة بين الجنسين، وخاصة المتعلقة بالحجاب وتقاليده في وسط آسيا.
ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي: الصحوة والتحدّي الجهادي
بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991 استعاد الإسلام سريعاً مكانة مهمّة في روسيا وفي جمهوريات آسيا الوسطى، وجاء هذا الصعود للإسلام باعتباره الموروث الروحي والمعنوي الوطني الذي لم تتمكّن من محوه آلة الاضطهاد السوفييتية، وبرزت مظاهر العودة مع التوجه نحو التدين وبناء المساجد والمدارس الدينية والجامعات الإسلامية، وتأسيس العديد من الأحزاب السياسية ذات التوجهات الإسلامية في دول آسيا الوسطى.
بالتزامن مع حالة الصحوة الإسلامية، كانت حكومات جمهوريات آسيا الوسطى تشعر بالقلق من صعود حركات الإسلام السياسي، وبرزت تلك المخاوف تحديداً بعدما اندلعت الحرب الأهلية الطاجيكية عام 1992 بين الحكومة الطاجيكية وائتلاف المعارضين بقيادة جماعة إسلامية متشددة تُدعى "حزب النهضة الإسلامي"، وهي الحرب التي استمرّت حتى عام 1997، وأثبتت للجمهوريات السوفييتية السابقة المخاطر التي تمثلها جماعات المعارضة الإسلامية.
الحرب الأهلية الطاجيكية في التسعينيات أثبتت للجمهوريات السوفييتية السابقة المخاطر التي تمثلها جماعات المعارضة الإسلامية
وسرعان ما جاءت التحديات مع ما شهدته بلدان آسيا الوسطى من ظهور وتزايد لنشاط عدد من الحركات الجهادية، وبشكل متسارع منذ نهاية عقد التسعينيات من القرن الماضي. وبرز اسم الحركة الإسلامية في أوزبكستان، التي تأسست عام 1996، ومن ثمّ بدأت نشاطها عام 1999، في كلٍّ من أوزبكستان وقيرغستان بشكل خاصّ، وقد نشأت الحركة في الأساس بهدف إسقاط نظام الرئيس الأوزبكي إسلام كريموف، الذي حكم البلاد بقبضة حديدية منذ استقلالها عام 1991، ومن ثمّ السعي لإنشاء دولة إسلامية تحكم بالشريعة الإسلامية. ومن ثمّ اتجهت الحركة لتنفيذ أعمال إرهابية، وفي الأعوام اللاحقة أعلنت نفسها حليفاً لتنظيم القاعدة، وقد خفّ نشاطها منذ العام 2010. وبعد صعود تنظيم "الدولة الإسلامية" عام 2014 أعلنت قيادتها مبايعة التنظيم، وقد أفادت مصادر عدة أنّه سقط قتلى من الحركة خلال الحرب في سوريا.
وفي روسيا، تصدّرت جمهورية الشيشان المشهد الجهادي في مرحلة ما بعد التفكك السوفييتي، وبرزت باعتبارها بؤرة استقطاب للنشاط الجهادي من حول العالم، وامتزج فيها البُعد الديني بالبُعد القومي والانفصالي الشيشاني. وقد شهدت حربين ما بين 1994-1997، و1999-2006، بين القوات الروسية وبين القوات الشيشانية الانفصالية، بمشاركة المقاتلين الجهاديين المحليين والأجانب. ومع نهاية الحرب الثانية انتقل المقاتلون إلى الجبال، وتشكّلت تنظيمات جهادية صغيرة مثل "كتائب الإسلامبولي" في الشيشان التي ظهرت عام 2004.
ومع استقرار الأوضاع في الشيشان، وتراجع الحالة الجهادية الانفصالية في مناطق القوقاز الجنوبي، انتقل النشاط الجهادي شمالاً ليتركّز في القوقاز الشمالي، وظهرت الجبهة التي عُرفت باسم "إمارة شمال القوقاز" التي أسّسها القيادي الشيشاني شامل باساييف. وغلب عليها كذلك "السلفية الجهادية"، وضمّت عدداً من التنظيمات الجهادية الصغيرة، مثل "جماعة قبردين" في جمهورية "قبردين بلقار"، ومؤسسها إنزو إستيمروف، الذي قتلته القوات الروسية عام 2010.
وهكذا، فإنّ حقبة ما بعد تفكّك الاتحاد السوفييتي شهدت نشاط عدد كبير من الأحزاب السياسية والحركات الجهادية الإسلامية، وهو ما أكدّ أنّ التأثير السوفييتي الذي هدف لفرض العلمانية بالقوة والإجبار لم يُفلح في مسعاه، وإنّما قد ولّد ردة فعل مغايرة وغير متوقعة، امتزج فيها البُعد الديني بالأبعاد القومية والعوامل الاقتصادية والسياسية، وتمثّلت في صعود هذه الأحزاب والحركات التي جعلت الدين أساس خطابها وشعاراتها.