الإسلاميّون في تونس والنّقد الذّاتي

الإسلاميّون في تونس والنّقد الذّاتي


29/08/2022

أحمد نظيف

مر عام كامل على انقلاب القصر الذي نفذه الرئيس التونسي قيس سعيّد، مخرجاً خصومه من السلطة نهائياً، بدعم من مؤسسات الدولة الصلبة ودعم قطاع واسع من الشعب. عام كامل أعاد فيه سعيد هندسة المشهد السياسي منفرداً. وضع دستوراً جديداً وجمع كل السلطات بيد واحدة، وأضفى على السلطة طابعاً شخصياً، في نزوع واضح نحو نظام سلطوي. عام كامل لم تكلف فيه "حركة النهضة"، التي كانت أحد أهم الأسباب التي جعلت سعيد يصعد إلى السلطة منفرداً وينهي مساراً تعددياً على علاته، أن تصدر أو تقدم نقداً ذاتياً لعشرية كاملة من حضورها في السلطة، بوصفها الحزب الأول، تدبيراً وتنفيذاً.

في الخطاب الإسلامي الشائع اليوم في تونس، لا نسمع إلا النقد لسياسات الرئيس سعيد، وفي ذلك وجاهة لا يمكن إنكارها. لكن هذا الخطاب يقدم نقداً مبتوراً، يقفز على السياق التاريخي قفزاً واعياً في سبيل الهروب نحو المستقبل هرباً من ثقل تركة الماضي. تدرك "حركة النهضة" جيداً أن ما يحصل اليوم في تونس من هزيمة مديدة للتحول الديموقراطي، وإحباط الطبقات الوسطى وفساد المناخ السياسي، الذي مهد الطريق لسعيد كي يسيطر على السلطة بدعم شعبي، إنما هو حصيلة سياستها مع شركائها في السلطة بين 2011 و2021. ولكن هذا الإدراك لا يُترجم في الواقع في شكل نقد أو مراجعة أو حتى مجرد اعتذار، بل يظهر على نحو معاكس في شكل مكابرة وهروب نحو الأمام، على ذلك النحو من الهروب الذي سارت فيه الحركة في بداية تسعينات القرن الماضي في تقييمها للمعركة مع النظام في 1991، وهي المعركة التي وطّدت أركان نظام بن علي على مدى ثلاثة وعشرين عاماً. 

بعد أيام قليلة من انقلاب سعيد، أصدر مجلس شورى "حركة النهضة" بياناً قال فيه إنه "يتفهّم الغضب الشعبي المتنامي، بخاصة في أوساط الشباب، بسبب الإخفاق الاقتصادي والاجتماعي بعد عشر سنوات من الثورة. وتحميل الطبقة السياسية برمّتها، كل من  موقعه، وبحسب حجم مشاركته في المشهد السياسي، مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع، ودعوتها إلى الاعتراف والعمل على تصحيح الأداء والاعتذار عن الأخطاء". كما أشار في نقطة أخرى إلى "ضرورة قيام حركة النهضة بنقد ذاتي معمّق لسياساتها خلال المرحلة الماضية، والقيام بالمراجعات الضرورية والتجديد في برامجها وإطاراتها في أفق مؤتمرها 11 المقرر لنهاية هذه السنة، لإعادة النظر في خياراتها وتموقعها، بما يتناسب مع الرسائل التي عبر عنها الشارع التونسي وتتطلبها التطورات في البلاد".

ومع أن الفشل كان واضحاً منذ سنوات ويزداد يوماً فآخر، من خلال تدهور أوضاع عموم المحكومين وانتعاش أوضاع الحُكام، إلا أن الحركة الإسلامية لم تدعُ يوماً إلى نقد ذاتي، ولم تطلب مؤسساتها مراجعة جذرية لكل العبث الذي كان قائماً، بخاصة في ظل نظام التوافق مع الباجي قائد السبسي. لكنها اكتشفت ضرورة النقد عندما وجدت نفسها خارج السلطة في أعقاب انقلاب، كانت هي نفسها أحد أهم أسباب نجاحه.

ومنذ ذلك التاريخ لم يصدر عن الحركة أي نقد ذاتي واضح – من موقعها ومسؤوليتها خلال العشر سنوات الماضية – ولم تنشر أي مراجعة نقدية لسياستها في الدولة أو على مستوى التنظيم الحزبي. ويمكن أن يتم الاعتراض على ذلك بفرضية قيام الحركة بمراجعات ونقد ذاتي من دون نشره أو نشره على مستوى داخلي ضيق، كما تفعل أغلب الجماعات الإسلامية عادةً خوفاً على الجماعة والحركة من أن تتبدد سمعتها خارجياً . لكننا هنا لا نتحدث عن مجرد حركة أو حزب لديه أخطاء في التعامل مع السلطة كما كان سائداً قبل صعود الحركة إلى السلطة بين 1969 و2010، كي تسمح لنفسها بمراجعة سلوكها ونقده ذاتياً وإبقاء هذا النقد سرياً ضمن الأطر الحزبية الداخلية. الحال هنا مختلفة تماماً، فالحركة كانت حزباً في الدولة، يقودها على مدى عشر سنوات مع شركائه ولديه قوة شعبية وسياسية طاغية على جميع الشركاء، ومن حقنا، كما هو حق عموم التونسيين، أن نطالع ونناقش هذا النقد الذاتي ومدى جذريته ومنهجيته ونتائجه، كي لا يكون مجرد سرد تاريخي يلبس لبوس النقد، كما هي الحال في "الورقة التقييمية" التي نشرتها الحركة في مؤتمرها الأخير (2016) ووضعتها ضمن خانة المراجعة العميقة. 

لكن غياب النقد الذاتي الجذري والعلني للحركة الإسلامية التونسية لا يعفي بقية أطراف اللعبة في البلاد من تقديم نقدهم الذاتي، بوصفهم مشاركين مباشرين أو غير مباشرين في صوغ الحالة السياسية التي كانت سائدة، في السلطة أو في المعارضة. اليسار والديموقراطيون الاجتماعيون والاتحاد العام التونسي للشغل والمجتمع المدني، وخاصة الإعلام والقضاء، هذا الطيف الذي شارك بنسب متفاوتة، بحسب موقعه في المشهد، في إفشال ترسيخ الديموقراطية التعددية في البلاد، لكن القفز عن حقائق الواقع الموضوعي من طرف الإسلاميين، من خلال توزيع المسؤولية على الجميع بتساوٍ، سيكون قطعاً عامل قطع لحبل الثقة بينهم وبين بقية أطياف المعارضة السياسية والمدنية، وهي ثقة كانت هشةً وزادتها السنوات العشر الماضية هشاشة وقطيعة أحياناً.

عن "النهار" العربي



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية