
أيمن خالد
هيمنة القداسة على المعرفة موروث قديم عاشته عموم الحضارات التي وصلنا بقايا تراثها المادي أو النظري، فالقداسة كانت تنقل المعرفة إلى الدور الثاني من الأمر وربما تخفيها كلياً، وهو ما ساهم في صناعة الكهنوت، غير أنه في البيئة النبوية في مكة المكرمة توقف الأمر ودخلت كينونة جديدة أرست ثقافة عربية مختلفة، تناولت المعرفة فيها دفة استكشاف مجهول الحياة، بدأت بكلمة "اقرأ" وبذلك عرف العرب الإسلام من خلالها، ومن هناك انطلقت الحضارة الإسلامية.
غير أن "الإسلام السياسي" الكينونة المستحدثة والتي تحاول منذ مئة عام سرقة الإسلام ونسبته لها، هي كيانية مختلفة تماماً فهي مؤسسة هدم لهذا التاريخ الطويل، قد بدأت على نقيض ما بدأ به الإسلام، وبالتالي منذ نقطة البدء عمل الإسلام السياسي على إغلاق باب المعرفة، وأعاد إحياء الكهنوت، وأضفى القداسة على نفسه، وانطلق نحو صناعة القطيع، معتمداً على ظروف سياسية واجتماعية سادت قسراً.
فالأصل الفطري للكائن البشري هي البحث عن الإجابة واستيلاد الرأي عند كل مسألة، ومنه كانت فكرة التبني للفكرة، وهي ظاهرة محمودة، لذلك قالت العرب "بنات الأفكار" نسبة للتوالد فيها، واستمعت لما تداولته الألسن من الحكمة "من استشارات الناس الذين شاركتهم في عقولهم" فكانت دار الندوة التي أسسها قصي بن كلاب الجد الرابع للرسول صلى الله عليه وسلم، ومن الوحي جاءت وأمرهم شورى، غير أن أول تحريم وتعطيل أدخله الكهنوت، عندما أصبحت بنات أفكار الكهنوت شرعة اتباع ملزمة، تحول دون مشاركة ما تأتي به المشورة والحكمة على الألسن، فقد جعل الإخوان اختلاط الرأي القادم إليهم من غيرهم محرماً بينهم كحرمة اختلاط الأنساب. لذلك جاءت التربية الإخوانية بمثابة شرعة، فأصبح المرشد هو الرشيد، الذي لا يحل السمع والطاعة لغيره، ثم أصبحت الشورى بما تعنيه هي تحت قبعته، وبذلك تشكلت الكينونة الأولى، ففي رسالة حسن البنا المؤرخة في سبتمبر 1938 والتي أطلق عليها "رسالة التعاليم" وضع أسساً شاملة تناولت الشؤون الاجتماعية والأفكار العامة وذلك من أجل أن "يصدر الجميع عن رأي واحد". والفكرة هنا كانت تسير نحو التفكير الجمعي، بحيث لا يجرؤ الفرد على إثارة السؤال أو محاولة الإجابة إلاّ من خلال العودة للبيئة التي ينتمي إليها والتي هي الكهنوت الجديد، وهو الذي أقدم على اصطفاء نفسه بنفسه على البقية ممن حوله من الذين بالأصل كانوا مادة البيئة المجتمعية والدين.
هنا تشاهد أن هذا الكهنوت كان يعمل على قطع الصلة مع البيئة المجتمعية من جانب وبين موروثها، وينتقي نصوصاً دينية يعيد تفسيرها بما يؤسس لصناعة القطيع الذي بدوره يخدم منهجه السياسي، ويعيد طرح نفسه أنه امتداد أصيل للدين والعقيدة، ولكن خبث المسألة يظهر في تعطيل الجوهر الأخلاقي للدين على حساب الموروث الديني الذي يتم توظيفه من خلال نزعة انتقائية وبالتالي تصبح المادة المجتمعية الموجودة والتي حافظت على موروثها الديني والثقافي، تصبح هي قريش من وجهة نظرهم.
فإذا كانت التربية الإخوانية في أصولها تسعى إلى أن يكون الفرد نسخة طبق الأصل عن الجماعة، فالشقاق يولد عندهم مع البيئة المحيطة هي منذ لحظة البدء، ولا يصبح التلاقي من وجهة نظرهم متاحاً، تماماً على شاكلة بعض الأيديولوجيات التي ظهرت بداية القرن العشرين، والتي أقرت بالهزيمة وتنحت جانباً، غير أن الفكرة الإخوانية لا تريد التنحي، أمام لعبة التمسك بالمصالح التي تتميز بها الإيديولوجيات لحظة أفولها.
أمام حالة العجز عن إنتاج الجديد على المستوى الفكري والذي تعيشه الجماعة، وخوفاً من وصولها إلى اليقين بأن التاريخ والواقع تجاوزها، ثمة ما يقلق المنهج الإخواني بسبب التحولات الدولية التي تخشاها الجماعة والتي باتت تعني أن الجماعة مقبلة على أزمة وجودية، فالإسلام السياسي بمجمله وبشقيه لم يعد مقبولاً للمرحلة المقبلة، التي تعني عصر الدولة بامتياز ورحيل زمن المليشيات، وزمن الولاءات خارج إطار الدولة.
لقد فشلت مسألة الاستيلاء على الدين والبنية المجتمعية التي سعت لها الجماعة طوال عشرات السنين، بالتالي إن أفول حركات الإسلام السياسي نتيجة طبيعية، وهو ما تخشاه الجماعة الإخوانية باعتبارها الأم التي ترتكز على هذه الأطراف، والقادم لا مفر منه وبالتالي فإن تفكيك هذه المنظومة الحزبية الفاسدة سيأتي بشكل تلقائي، فالصدمات كانت دوماً وراء انهيار الأيديولوجيات، لأن أتباعها لا يخرجون من الفكرة التي عاشوا عليها إلا بعد الصدمة، وبالتالي ما بعد سيل الكوارث التي جلبتها الجماعة والتي كانت آخرها كارثة غزة يمكننا أن نرى بوضوح، أن رؤية الدولة العربية وخياراتها كانت الصواب، وأن كل ما قامت به جماعات الإسلام السياسي كان مزيداً من الكوارث.
العربية