الإخوان: من الكراهية المقدّسة إلى السقوط

الإخوان: من الكراهية المقدّسة إلى السقوط

الإخوان: من الكراهية المقدّسة إلى السقوط


14/06/2025

ثروت الخرباوي

لم يفهم الإخوان حتى اليوم لماذا خرج الشعب عليهم. ولن يفهموا أبداً، فهم يتوهّمون أن ما حدث كان مؤامرة على الإسلام!، وأنهم لم يُسقطوا لأنهم فشلوا أو أساؤوا، بل لأن «العالم» لا يريد للإسلام أن يحكم.

إنهم يعيشون فى وهم مُزمن لا علاج له، وهم أن خروج الشعب عليهم إنما كان حرباً على الدين، ويقنعون أتباعهم أن ما جرى كان «ابتلاءً» سيعقبه «تمكين»، وأن النصر قادم لا محالة لأنهم «الطائفة المنصورة».

بهذا الوهم، يحوّلون الفشل إلى «فتنة»، والسقوط إلى «محنة»، ويغذّون عناصرهم بشعور دائم بالمظلومية.

ولذلك يسمون ما جرى انقلاباً، لا ثورة شعب.

ولا يزالون حتى اللحظة يردّدون، فى محافلهم وبياناتهم، أن ما جرى فى ٣٠ يونيو لم يكن ثورة شعبية، بل مؤامرة كونية، حاكتها أجهزة المخابرات، ونفذتها النخب «العلمانية»، والأقباط، واليسار، واليمين، وكان الشعب مجرد أداة مضلَّلة.

لكن الحقيقة التى يهربون منها أن ما أسقطهم لم يكن فقط سوء الحكم، ولا الغرور، ولا الأداء السياسى الفوضوى، بل الكراهية التى ظهرت من دواخلهم ووجوههم وكلماتهم..

كراهية لم تمر على هذا الشعب من حاكم وطنى.

فقد احتمل الشعب المصرى عبر تاريخه الفقر، وصبر على الاستبداد، وتعايش مع أخطاء لا تُحصى من أنظمةٍ سابقة، لكنه لم يتحمّل لحظة أن يشعر أن من يحكمه لا يحبه.

أن من جلس على كرسى الحكم يراه جاهلياً، ناقص دين، ناقص ولاء، ناقص فهم، ناقص إيمان.

هنا انكسرت المعادلة.. وسقطت الهيبة.

لم يفهم الإخوان ولن يفهموا أن ثورة يونيو لم تكن بسبب سعر الرغيف وأنبوبة البوتاجاز، بل بسبب المعنى الذى زُرع فى الوجدان.

الشعب لم ينتفض على حكم، بل على احتلال.

ولم يَثُر ضد رئيس، بل ضد فكرة كاملة:

فكرة أن الدين وسيلة للسلطة، وأن الشعب مِلكٌ لجماعة، وأن الإقصاء فريضة، وأن «الطليعة المؤمنة» هى صاحبة الحق فى التمكين ولو كره الناس.

لذلك لم يسقط الإخوان لأنهم فشلوا فقط.. بل لأنهم انكشفوا.

أما كراهية الإخوان للشعب فلم تكن رد فعل، بل جزء أصيل فى بنيان الجماعة منذ تأسيسها. ذلك أن تصورهم للعالم قائم على «جاهلية المجتمع» و«إسلامية الجماعة».

فهم وفق أدبيات سيد قطب التى تغلغلت فى عقولهم وقلوبهم، ليسوا مواطنين بين مواطنين، بل «طليعة مؤمنة» جاءت لتحطّم الأصنام، وتنتشل الناس من الظلمات، ولو كرهوا.

فالمجتمع بنظرهم «جاهلى»، ومؤسسات الدولة «تابعة للطاغوت»، والديمقراطية «بدعة»، والسيادة يجب أن تكون لله.. وتُرجمان «الله» هنا هو «المرشد»، لأنه هو الذى يملك تفسير الشريعة، وتحديد ما يوافق الإسلام وما يخالفه.

بهذا المعنى، لم يكن الحُكم عندهم تكليفاً وطنياً، بل تمكيناً إلهياً.

ومع التمكين، تبدأ مرحلة «المفاصلة» مع المجتمع، لا المصالحة معه.

يُستبدَل مفهوم الشعب بمفهوم الجماعة، ويُعاد تعريف الدولة لتصبح مجرد جهاز لخدمة مشروع التنظيم، لا لرعاية مصالح الأمة.

وقد تجلى ذلك حين وقف محمد مرسى فى مؤتمر المرأة، وقال عبارته: «أنا رئيس دولة بعد ثورة، يعنى ممكن نضحّى بشوية علشان الوطن كله يمشى»، لم تكن تلك الكلمات مجرد تعبير عن مأزق سياسى، ولا انفعالاً عابراً من رئيس مرتبك. ولا حتى لسان، بل كانت فى حقيقتها مرآة صافية للعقل الجمعى الإخوانى، الذى تربّى فى سراديب التنظيم على فقه الطاعة، واستعلاء «المشروع»، وازدراء المخالف، وإباحة التضحية بـ«البعض» من أجل «الكل» الذى لا يُعرّف إلّا من داخل الجماعة.

هذا التصوّر ليس وليد اللحظة، بل ترعرع مع تنظيرات سيد قطب التى سيطرت على الفكر الداخلى للجماعة منذ الستينات.

ففى عالم «قطب»، لا وجود لمجتمع مسلم، بل «جاهلية حديثة» تحكم الأرض، والحكم لله وحده، ومن لا يخضع لحاكمية الله فهو طاغوت، ومن يرضى بحكم البشر فهو من «المرتدين» أو «الضالين»، لا فرق.

وبالتالى، فالصراع مع المجتمع ليس خياراً، بل قدر. ومعارضة «المشروع الإسلامى» ليست اجتهاداً مدنياً، بل خيانة عقائدية تستوجب الاستئصال.

وهكذا، يصبح القتل تضحية، والعنف وسيلة «تطهير»، والخلاف فتنة، والخصم «عدواً لله».

وهنا نسترجع مشاهد مرعبة لم تُفكّك كما ينبغى: الشيخ محمد حسين يعقوب، يقف بعد الاستفتاء على التعديلات الدستورية الأولى فى 2011، ويقول: «اللى مش عاجبه يهاجر، خلاص غزوة الصناديق انتهت، وإحنا اللى كسبنا».

جملة لا تُقال فى حلبة ديمقراطية، بل فى ساحة حرب فكرية، يعتبر فيها المواطن المختلف دخيلاً، ومرفوضاً، ومطالَباً بالخروج من «أرض الإسلام».

لم يكن كلام «يعقوب» نكتة، ولم تكن عبارة «غزوة الصناديق» زلة تعبير، بل كانت تسمية مقصودة لحرب عقدية، لا منافسة سياسية.

الخصم فيها ليس مشروعاً آخر، بل «معسكر كفر» يجب إقصاؤه، ومحاصرته، وتطويقه بـ«الشرعية».

وفى هذا السياق، خرج حازم صلاح أبوإسماعيل ليخطب أمام جمهوره المتحمّس، لا لتهدئته، بل لشحنه، وهو يصف المعارضين بأنهم «الفلول»، «العلمانيين»، «الكارهين للإسلام»، «المموّلين من الخارج»، ثم يقول عبارته الشديدة: «اللى مش عاجبه، يورينا رجولته فى الشارع.. إحنا هنا مش بنلعب».

هكذا تحوّل الخطاب من دعوى إلى تعبوى، ومن النص إلى الكلاشينكوف الذهنى، ومن الدعوة إلى الله إلى معركة مع عباد الله.

ولم يكن مستغرباً بعد ذلك أن يتحوّل خطاب الكراهية إلى سلوك سلطوى حقيقى، حين تسلم الإخوان الحكم، وصاروا دولة بعد أن ظلوا لعقود «تنظيماً تحت الأرض». فلم يمضِ سوى أسابيع على حكم «مرسى»، حتى بدأ الوجه الحقيقى للجماعة فى الظهور، ولأنهم يرون أنفسهم أصحاب الحقيقة المطلقة، فهم لا يعترفون بوجود أحد سواهم.

الإعلام عميل.

القضاء فاسد.

الشرطة طاغوت.

الجيش «مجهول النوايا».

المعارضة «مأجورة».

والشعب؟ «مضلَّل» إن سكت، و«كافر» إن انتقد.

وكان مما رأيناه عجباً، سابقة لم تحدث من قبل، ففى إحدى خطبه، كان محمد مرسى يتهم قضاة علناً بأنهم ارتكبوا جرائم تزوير! يطلق الكلام على عواهنه وهو يتهم أحد رموز القضاء المصرى دون أن يكون معه حكم قضائى باتهامه هذا!، كأن الدولة بلا مؤسسات.

كان هذا عندما اتهم القاضى على النمر صراحة بأنه «مزور».

وفى لحظة صاخبة من جنون العظمة، قال أمام الجمهور: «أنا رئيس بعد ثورة، يعنى ممكن نضحّى بشوية علشان الوطن كله يمشى».

حتى الوساطات التى كان الجيش يحاول بها تهدئة الأجواء، استخفوا بها.

طلبت القوى الوطنية لقاء مع الرئيس برعاية القوات المسلحة، فوافق «مرسى»، ثم تراجع. وما تراجع لأنه فكّر أو قرّر أو استدرك، ولكنه تراجع لأن الأوامر جاءت له من المرشد بإلغاء اللقاء، قال له المرشد نحن الأعلى والأقوى، وهم شرذمة قليلون لا تأثير لهم، فلا نعطى لهم وزناً!!.

وحين عرض عمرو موسى وساطة للإفراج عن «مبارك» لتخفيف التوتر، فردّ عصام العريان عليه بغرور واستعلاء متكبراً منتفخ الأوداج مرتفع الصدر:

«لا يا أستاذ عمرو، مبارك هيخرج من السجن للقبر».

ويا للمفارقة، فالعريان هو من خرج من السجن إلى القبر.

كل هذا لم يكن سياسة عرجاء فقط، بل كراهية متأصّلة.

تغلفها عمائم، وتُزيّنها لحى، وتخفيها ابتسامات باردة.

فالكراهية عند الإخوان مقدسة. ويكاد المرء يقول إنها الركيزة الأهم فى بنيانهم النفسى والسياسى:

كراهية المخالف، كراهية الدولة، كراهية الأوطان، كراهية الشعوب، وأخيراً كراهية بعضهم لبعض. ألم نسمعهم وهم يقولون: نحن نكرهك فى الله!.

ولأنهم يعجزون عن الحب، فإنهم يعجزون عن البناء.

لا يعرفون معنى الرحمة، ولا قيمة الشراكة، ولا قدسية الإنسان.

يحبّون التنظيم أكثر من الشعب..

ويقدّمون بيعة الجماعة على دستور الدولة..

ويدافعون عن المرشد أكثر من دفاعهم عن أى رئيس جمهورية.

لهذا كله.. لم تكن ثورة يونيو ثورة خبز، بل ثورة روح.

ثورة على الغربة.. على الكراهية.. على الاحتلال المغلف بالدين.

ومن سقط فى ٣٠ يونيو لم يكن رئيساً فقط..

بل مشروع قائم على احتقار الإنسان..

وتنظيم تَوهّم أن حُكمَ الناس يعنى إهلاكهم فى سبيل «التمكين».

لكن التاريخ لا يكتفى بسرد الوقائع..

إنه يطالبنا دوماً بأن نسأل: من أين بدأ الانكسار؟ هل كان فى لحظة التمكين، أم أن جذوره ضاربة فى فكرٍ لم يعرف يوماً أن الوطن أوسع من الجماعة، وأن الله لا يُختزل فى تنظيم؟

الوطن




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية