خيرالله خيرالله
يصعب التكهن بالأبعاد الإقليميّة للحدث العراقي المتمثل في منع ايران من الإستمرار في وضع اليد على البلد كلّيا. لكنّ صعوبة التكهّن بمثل هذه الأبعاد لا تمنع من ايراد مجموعة من الاسئلة تصبّ في تحوّل في غاية الأهمّية على صعيد المنطقة من خلال ما اصاب الدور الإيراني في العراق.
قبل كلّ شيء لا يمكن تجاهل أنّ الزعيم الشيعي العراقي مقتدى الصدر استطاع قطع الطريق على محاولة انقلابيّة إيرانيّة بقيادة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي ودعم مباشر من "الحرس الثوري" الإيراني.
استهدفت المحاولة وضع اليد على موقع رئيس الوزراء في العراق وذلك بجعل مجلس النواب يسمّي محمد شياع السوداني، وهو واجهة لنوري المالكي، مكلّفا تشكيل حكومة جديدة. كان المطلوب بكلّ وضوح حلول السوداني مكان مصطفى الكاظمي الذي يرأس حاليا حكومة تشكلت أصلا في السابع من ايّار – مايو 2020 وصارت تتولى تسيير الأعمال منذ انتخابات تشرين الأوّل – أكتوبر الماضي.
كان لافتا سعي المالكي، احد رجال ايران الرئيسيين في العراق وأحد المروجين لنفوذها في بغداد، إلى الدفع في اتجاه عقد جلسة لمجلس النواب من اجل إحلال السوداني مكان الكاظمي. حاول الإستفادة، إلى أبعد حدود وبسرعة قياسيّة، من دفع مقتدى الصدر، صاحب اكبر كتلة نيابية انبثقت عن الانتخابات الأخيرة، نوابه الـ73 إلى الإستقالة.
لم تنعقد جلسة مجلسّ النواب التي كانت ستؤدي حتما إلى تكليف السوداني تشكيل الحكومة. ردّ مقتدى الصدر على غيابه عن مجلس النواب، نتيجة استقالة أعضاء كتلته منه، باجتياح المجلس وتعطيله. نفّذ عمليا انقلابا على الإنقلاب، الذي لم يكن قائد "فيلق القدس" على قآني بعيدا عنه ولا القضاء العراقي ممثلا برئيس مجلس القضاء الأعلى فائق زيدان.
لم يكن فشل المالكي في التخلّص من الكاظمي سوى فشل لـ"الجمهوريّة الإسلاميّة". في النهاية، يمارس الكاظمي دوره كرئيس للوزراء، على الرغم من أنّ حكومته في حكم المستقيلة. يؤكّد ذلك تمثيله العراق في القمة التي انعقدت في جدّة في اثناء زيارة الرئيس جو يايدن للمملكة العربيّة السعوديّة. شارك في تلك القمّة قادة مجلس التعاون لدول الخليج الست أو من يمثّلهم، إضافة إلى الملك عبدالله الثاني والرئيس عبدالفتاح السيسي. يؤكّد ذلك، اكثر، الدور الذي يلعبه رئيس الوزراء العراقي في تسهيل اللقاءات السعوديّة – الإيرانيّة التي تنعقد بين حين وآخر في بغداد، وهي لقاءات يمكن ان تثمر يوما.
كشفت الأحداث العراقيّة تراجعا واضحا للدور الإيراني في العراق. جاء قائد "فيلق القدس" في "الحرس الثوري" الإيراني إلى العاصمة العراقيّة على وجه السرعة للملمة الأوضاع وتأمين نوع من اللحمة داخل الإطار التنسيقي الذي يضمّ حلفاء "الجمهوريّة الإسلاميّة". فشل في ذلك. بقي الإطار التنسيقي يشهد تجاذبات داخليّة بما يدلّ على أنّ علي قآني ليس في قوّة سلفه قاسم سليماني الذي كان صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في العراق.
كشف ذلك تضعضعا ايرانيّا من جهة والخسارة الكبيرة التي منيت بها "الجمهوريّة الإسلاميّة" من جهة أخرى، في ضوء تصفية إدارة دونالد ترامب لقاسم سليماني في اثناء مغادرته مطار بغداد مطلع العام 2020. كان سليماني برفقة أبو مهدي المهندس نائب قائد "الحشد الشعبي" في العراق، وهو تجمع لميليشيات موالية لإيران في العراق. يبدو غياب أبو مهدي المهندس خسارة أخرى كبيرة لإيران في العراق.
من العراق، كانت الإنطلاقة الثانيّة للمشروع التوسّعي الإيراني في المنطقة بعدما سلمت إدارة جورج بوش الإبن البلد إلى "الجمهوريّة الإسلاميّة" على صحن من فضّة في ربيع العام 2003. انطلقت ايران من موقعها القوّيّ في العراق للهيمنة على القرار السوري. ظهر ذلك من خلال اغتيال رفيق الحريري في لبنان، بتغطية من دمشق، بصفة كون الحريري شخصيّة لبنانيّة وعربيّة تجاوز حجمها البلد الصغير إلى محيطه العربي وصولا إلى مراكز القرار في العالم.
من العراق أيضا، بدأت ايران تتصرّف كوصيّ على البلد الجار من منطلق مذهبي. استطاعت تغيير طبيعة مناطق عراقيّة عدّة وفعلت الشيء نفسه لاحقا في سوريا بعدما استطاعت ملء الفراغ الأمني والسياسي الذي خلفه خروج الجيش السوري من لبنان في نيسان – ابريل 2005.
اللافت الآن ان ايران لا تتراجع في العراق فقط. يمكن ادراج عودتها إلى المفاوضات غير المباشرة مع الجانب الأميركي في شأن برنامجها النووي في فيينا دليلا على تغيير ملحوظ في موقفها. يعكس هذا التغيير قبولها التفاوض على الرغم من أنّها تعرف مسبقا أن لا رفع لـ"الحرس الثوري" عن قائمة الإرهاب الأمريكيّة. هناك تمسّك أميركي بهذا الموقف. لم يكن ذلك مقبولا ايرانيّا إلى ما قبل فترة قصيرة.
ليست المفاوضات غير المباشرة مع أمريكا المكان الوحيد الذي قدمت فيه ايران تنازلات، وذلك بغض النظر عمّا إذا كان "المرشد" علي خامنئي سيسمح في نهاية المطاف بصفقة مع "الشيطان الأكبر. يمكن الحديث ايضا عن تنازلات في اليمن حيث قبل الحوثيون، في ضوء إصرار عُماني، على تمديد الهدنة السارية منذ نيسان – ابريل الماضي شهرين إضافيين. يأتي ذلك في ظلّ رغبة امريكيّة واضحة في حصول هذا التمديد لمدّة اطول من اجل فتح الأبواب امام تسوية سياسيّة. سمحت ايران للحوثيين، الذين لم تعد لديهم شهيّة للقتال، بهدنة الشهرين وابقت ورقة التسوية السياسية اليمنية في جيبها. لكنّ لا ريب أنّها قدمت تنازلا يشبه التصعيد الذي مارسه "حزب الله" عن طريق المسيرات التي أرسلها في اتجاه حقل كاريش للغاز الإسرائيلي... ثم ما لبث ان تراجع ووافق على دخول الحكومة اللبنانيّة مفاوضات غير مباشرة لترسيم الحدود مع إسرائيل في الناقورة... بوساطة اميركيّة.
لم تعد ايران كما كانت عليه في العراق. كان العراق مصدرا أساسيا لقوّتها في المنطقة كلّها. وحدها الأيام والأسابيع القليلة المقبلة ستخبرنا عن حجم تراجع المشروع التوسعي الإيراني في المنطقة وأبعاده في ضوء التطورات في العراق.
عن "ميدل إيست أونلاين"