اكتشاف أثري يجعل الأردن موطنَ أقدم بناء من صنع الإنسان

اكتشاف أثري يجعل الأردن موطنَ أقدم بناء من صنع الإنسان

اكتشاف أثري يجعل الأردن موطنَ أقدم بناء من صنع الإنسان


12/02/2024

قال الباحث الأردني المتخصص في الآثار المهندس عمّار خمّاش "مبروك للأردن وللعالم هذا الاكتشاف المذهل" الذي يجعل الأردن موطنَ أقدم بناء من صنع الإنسان.

وكان خمّاش يعلق على الاكتشاف الأثري الأخير، الذي أعلن عنه في فبراير 2022، فريق من علماء الآثار الأردنيين والفرنسيين، لموقع أثري عمره 9000 عام يعود إلى العصر الحجري الحديث في موقع ناءٍ بصحراء الأردن الشرقية، ويضم مصائد حجرية تتكون من جدارين حجريين طويلين أو أكثر، يتقاربان نحو سياج وتنتشر عبر صحارى الشرق الأوسط.

اقرأ أيضاً: بعد تركيا.. إيران تتورط في نهب آثار سوريا... تفاصيل

وجرى اكتشاف مجمع الطقوس في موقع يعود إلى العصر الحجري الحديث بالقرب من الهياكل الكبيرة المعروفة باسم "الطائرات الورقية الصحراوية"، أو الفخاخ الجماعية التي يعتقد أنها استخدمت في صيد الغزلان البرية للذبح.

وكتب خمّاش على صفحته على موقع "فيسبوك": تمكن مجموعة مع علماء الآثار من اكتشاف تماثيل بأشكال رؤوس إنسان ومرفقة بمجموعة من المتحجرات التي وضعت في نفس المكان من قبل أشخاص ضمن نشاط مرتبط بعملية الصيد في البادية الشرقية. وهذا الاكتشاف يجعل الأردن موطن أقدم بناء من صنع الإنسان بهذا الحجم الضخم بالعالم.

تمكن مجموعة مع علماء الآثار من اكتشاف تماثيل بأشكال رؤوس إنسان

الاكتشاف، يتابع خمّاش، "جاء ضمن المسوحات الأثرية والحفريات التي قام بها فريق من العلماء يشمل البروفسور محمد طراونة من جامعة الحسين بن طلال، ضمن مشروع البادية الجنوبية الشرقية الأثري، وبالتعاون مع المعهد الفرنسي للشرق الأدنى Ifpo ودائرة الآثار العامة في الأردن ووزارة الخارجية الفرنسية وجهات أخرى".

تتكون المصائد من جدران حجرية غير مرتفعة قد تمتد إلى عدة كيلومترات وبشكل "محقان"

ويعد الموقع أحد مصائد الحيوانات البرية الواقعة إلى الشرق من قاع الجفر. وتتكون هذه المصائد من جدران حجرية غير مرتفعة قد تمتد إلى عدة كيلومترات وبشكل "محقان" له فم متسع عادة من الشرق ونهاية ضيقة عادة من جهة الغرب تتجمع فيها الحيوانات الواقعة في المصيدة. وكذلك تتواجد المصائد في مجموعات تشكل حلقات صيد معقدة ومتطورة وممتدة لعشرات الكيلومترات لضمان أكبر ناتج صيد ممكن. وهذه المصائد، التي يطلق عليها الآثاريون كلمة kites بسبب تقارب شكلها بالطائرات الورقية، تتواجد بأعداد كبيرة في الأردن في منطقة الأزرق والبادية الشمالية الشرقية وعبر الحدود في جنوب سوريا وشمال السعودية، لكنّ للأردن، وفق خمّاش، الحظ الأوفر منها، حيث تتواجد وتتقاطع وبأعداد من العشرات وربما المئات.

الجديد في هذا الاكتشاف

وما الجديد في هذا الاكتشاف؟ يجيب خمّاش: الاكتشاف الأخير يعتبر نقطة تحول في فهمنا لهذه المصائد وإعادة النظر إليها بشكل جذري. الأهمية الكبيرة تأتي من اكتشاف جانب فني وربما ديني/ عقائدي لعملية الصيد قبل 9 آلاف سنة.

اقرأ أيضاً: لتجفيف منابع تمويل الإرهاب.. مصر تستضيف مؤتمراً دولياً لمكافحة تجارة الآثار

بينما في العادة يتم إعطاء أعمار لهذه المصائد من 5 إلى 6 آلاف سنة من الآن وضمن العصر البرونزي، قام هذا الاكتشاف بإعطاء عمر أقدم بكثير ومن العصر الحجري الحديث Neolithic B period  ليفتح الباب على مصراعيه لإعادة دراسة مئات المصائد في طول البادية وعرضها.

يعد الموقع أحد مصائد الحيوانات البرية الواقعة إلى الشرق من قاع الجفر

وبحسب المهندس الأردني، فقد تمكن الفنيون من إعطاء تاريخ ضاعف دقته ومصداقيته اتباع أسلوبين مختلفين من تقنيات الاختبار وهما استعمال الكربون المشع  radiocarbon (بقياس نصف عمر الإشعاع في المواد العضوية من الموقع) من جانب، واستعمال التقنية الأحدث وهي OSL Optically Stimulated Luminescence والمتمثلة بتحاليل مخبرية (تبين آخر مرة تعرضت لها حبيبات الكوارتز في الرمل إلى أشعة الشمس).  وفي حال تقارب أو تقاطع النتائج بين تقنيات مخبرية مختلفة تماماً نحصل على تواريخ موثوقة إلى حد بعيد.

اقرأ أيضاً: هذه تفاصيل المضبوطات في قضية الآثار الكبرى في مصر... صور

إلى ذلك، قال عالم الآثار الأردني وائل أبو عزيزة، المدير المشارك للمشروع، إنّ "الموقع فريد، أولاً بسبب حالة الحفظ خاصته (...) عمره 9000 عام وكان كل شيء على ما يرام تقريباً".

وضم الفريق  الذي أشرف على هذا الاكتشاف علماء آثار من جامعة الحسين بن طلال الأردنية، والمعهد الفرنسي للشرق الأدنى، وتم التنقيب في الموقع خلال عام 2021.

الثقافة الروحية للسكان

وأوضح الباحثون المشاركون في عملية الاكتشاف في بيان، تناقلته وسائل إعلام متعدّدة، أنّ الكشف الأثري "يلقي ضوءاً جديداً بالكامل على الرمزية والتعبير الفني، وكذلك الثقافة الروحية لهذه المجموعات السكانية من العصر الحجري الحديث والتي لم تكن معروفة حتى الآن".

وورد في البيان كذلك أنّ قرب الموقع من الفخاخ يشير إلى أنّ السكان كانوا صيادين متخصصين، وأنّ المصائد كانت "مركز حياتهم الثقافية والاقتصادية وحتى الرمزية في هذه المنطقة الهامشية".

اقرأ أيضاً: من الطب إلى الآثار.. إليك 10 من أبرز الاكتشافات العلمية في 2021

ويؤكد ذلك ما كتبه خمّاش بأنّ لهذا الاكتشاف أهمية كبيرة؛ فهو يربط بدايات الاستيطان والعمارة بنشاط صيد منظم وليس بالنشاط الزراعي كما هو سائد. وهو من الأمثلة النادرة على وجود عدد كبير من المتحجرات ضمن ما يشبه المعبد أو المكان المعد لطقوس دينية مرتبطة بعمليه الصيد وربما الذبح تحديداً.

 الأردن اليوم هو البلد الوحيد بالعالم المتواجد فيه أكبر وأقدم مجموعة متحجرات جمعت وتم ترتيبها بشكل طقوسي ديني

وهنالك أمثلة نادرة جداً لتواجد متحجرات في مجموعات أثرية في أماكن أخرى في العالم، وفي معظمها تتكون من قطع حلي وخرز واستعمالات في الدواء وفي تصنيع أدوات صوانية من أصل أشجار متحجرة.

اقرأ أيضاً: العراق يسترد بعض آثاره المنهوبة... ما القصة؟

لكن الأردن اليوم، كما يرى خمّاش، هو البلد الوحيد بالعالم المتواجد فيه أكبر وأقدم مجموعة متحجرات جمعت وتم ترتيبها بشكل طقوسي ديني. ويوفر هذا الاكتشاف الأخير فرصة كبيرة لاحتمالية تكرار هكذا "مصائد- مسالخ- معابد" في عشرات المواقع المماثلة في البادية الشرقية الأردنية، لنخرج حينها بحضارة خاصة متكاملة ومعتمدة على عملية الصيد بشكل يتطلب تقنيات وتنظيمات اجتماعية ولوجستية معقدة ومتطورة، حضارة تعيد كتابة التاريخ وتملأ الفراغ بين الحضارة النطوفية الأقدم وحضارات العصر البرونزي الأحدث وبالتوازي مع حضارة عين غزال التي اعتمدت على الزراعة بدل الصيد.

من أين جاءت قطع المتحجرات؟

وتساءل خمّاش: ولكن من أين جاءت قطع المتحجرات؟ يوجد هذا الموقع ضمن خط من تكشفات طبقة الصخور من "تكوين الموقر" وهذه الصخور غنية بمستحثات الأمونايت البحرية، وهي نوع من حيوان الأخطبوط الذي عاش في مياه بحر التيثس وانقرض قبل 64 مليون سنة في مفصل زمني مهم من التاريخ الجيولوجي، في نهاية الفترة الماستريخية من أعلى العصر الطباشيري الكريتاسي. يبدو أنّ الأشكال المميزة لمتحجرات هذا الحيوان قد أثارت الفضول لدى الإنسان في هذا الموقع قبل 9 آلاف سنة، حيث إنها ربما اعتبرت ذات قوى أو قدرة أو "بركة" ما لعبت دوراً في طقوس صيد وذبح دينية محددة. وتتواجد أصداف الأمونايت على خط سلسلة جبال منخفضة إلى شرق وشمال قاع الجفر وغرباً حتى منطقة جرف الدراويش وشمالاً حتى محيط واحة الأزرق. 

ضم الفريق  الذي أشرف على هذا الاكتشاف علماء آثار من جامعة الحسين بن طلال الأردنية، والمعهد الفرنسي للشرق الأدنى، وتم التنقيب في الموقع خلال عام 2021

أما بخصوص التماثيل فهي ناتج إعجاب من صنعها بشكل حجارة طبيعية من كتل بشكل قريب من رأس الإنسان ليتم إضافة ملامح الوجوه باستعمال ربما حجارة صوانية كإزميل أو مطرقة، فقبل 9 آلاف سنة لم تكن تقنيات التعدين موجودة، وبذلك لم يعرف الإنسان حينها المعادن والأزاميل والشواكيش المعدنية المطلوبة لعملية النحت وتشكيل الحجر.

وقد عثر الآثاريون في الموقع على كميات كبيرة من عظام الغزال، مما يشير إلى أنّ عملية الصيد والذبح ، وربما تجفيف اللحوم، كانت أقرب إلى مصنع متطور ينتج كميات تجارية تفوق بكثير الاحتياجات الفردية لأعضاء العاملين في هذا "المسلخ المعبد" الكبير. وهنا علينا، وفق خمّاش، افتراض أنّ تجارة مقايضة لحوم الغزال ربما اعتمدت على أسواق مجتمعات إلى الغرب في الجبال الأردنية والأغوار.

التماثيل هي ناتج إعجاب من صنعها بشكل حجارة طبيعية من كتل بشكل قريب من رأس الإنسان

ولفت أيضاً إلى أنّ اتجاه معظم المصائد بفمها الواسع إلى الشرق وأحواضها المغلقة إلى الغرب، ربما يشير إلى صيد موسمي استغل عمليات الهجره الموسمية لآلاف الغزلان، ربما مع بداية الربيع هروباً من درجات الحرارة المرتفعة في صحراء العرب وباتجاه الأجواء الأكثر اعتدالاً صيفاً في هضبة الأردن على طول شرق الحفرة الانهدامية والأغوار.

اقرأ أيضاً: توقيف رجل أعمال مصري بتهمة تمويل نائب "الجن والعافريت" للتنقيب عن الآثار

ولكي نفهم هذه المصائد، يقول خمّاش إنّ علينا ربطها في البحيرات القديمة في البادية وخاصة مع بيئة نهاية العصر الجليدي قبل 10 آلاف سنة، حيث استمرت بيئة مطيرة أوجدت عشرات البحيرات في الأردن والسعودية، منها قاع الجفر وبحيرة الحسا- جرف الدراويش وطبعاً بحيرة الأزرق وغيرها كثير.

اقرأ أيضاً: كنوز سوريا في مهب الريح.. آثار فريدة تبخرت

وتابع الباحث الأردني: تفاجئنا بادية الأردن باكتشافات تغيّر تاريخ الحضارة الإنسانية المشتركة. فهذه البادية قدمت للعالم اكتشاف أقدم صناعة خبز عرفت بالتاريخ، وذلك في موقع شبيكة إلى الشرق من الأزرق، من الحضارة النطوفية قبل 14400 سنة، هذا الاكتشاف الذي صحح معتقدات العالم، حيث كان الربط  لتاريخ الخبز بالزراعة، ليعيد تاريخ الخبز إلى 4 آلاف سنة أقدم وربطه مع مجتمع الصيد والجمع.

اكتشافات ستغير كتب المناهج عالمياً

ويؤكد: يمكننا القول إنّ الاكتشافات التي سوف تغير كتب المناهج عالمياً قد تأتي بشكل أكبر من البادية وربما الأغوار، أكثر مما قد تقدمه المواقع الكلاسيكية مثل البترا وجرش والمواقع المشابهة.

وختم خمّاش، مباركاً "للأردن وللعالم هذا الاكتشاف المذهل": لدينا اليوم أقدم وأغنى موقع قام الإنسان به بجمع المتحجرات ونحت التماثيل ضمن منشأه بنيت خصيصاً للصيد بكميات كبيرة وبتنظيم اجتماعي إنتاجي طقوسي معقد ومتطور إلى حد بعيد.

وكان أقيم احتفال رسمي مساء أول من أمس الثلاثاء احتفاءً بالاكتشاف الذي يضم أيضاً 250 قطعة أثرية متحجرة معظمها من أصول بحرية، ودمى، وأدوات صوانية، ومواقد مرتبطة بممارسة طقوس دينية.

لدينا اليوم أقدم وأغنى موقع قام الإنسان به بجمع المتحجرات ونحت التماثيل ضمن منشأه بنيت خصيصاً للصيد بكميات كبيرة وبتنظيم اجتماعي إنتاجي طقوسي معقد ومتطور إلى حد بعيد

وقالت سفيرة فرنسا لدى الأردن فيرونيك فولاند خلال الاحتفال إنّ الاكتشاف "يقدم لنا شهادة لا تقدر بثمن عن تاريخ الحياة في الشرق الأوسط وتقاليدها وطقوسها".

وأشارت إلى دعم بلادها "حوالي 10 بعثات أثرية فرنسية في الأردن".

وأعلن وزير السياحة والآثار الأردني نايف حميدي الفايز، عن الاكتشاف الذي يرتبط بممارسة الطقوس الدينية في تلك المنطقة، ويعود هذا الاكتشاف إلى ثقافة جديدة سميت بالثقافة الغسانية وهي ثقافة مجتمع الصيادين خلال العصر الحجري الحديث.

وقال الفايز خلال الاحتفال "نتطلع مع ظهور الاكتشافات الأثرية الجديدة إلى انتعاش مستدام لقطاع السياحة".

ويضم الأردن مواقع أثرية عديدة شاهدة على الأزمنة والحضارات من العصور الحجري والبرونزي والحديدي وزمن البابليين والفرس واليونان والرومان.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية