إمارة "بندر ريق"... قصة إمارة عربية في الساحل الشرقي للخليج العربي

إمارة "بندر ريق"... قصة إمارة عربية في الساحل الشرقي للخليج العربي

إمارة "بندر ريق"... قصة إمارة عربية في الساحل الشرقي للخليج العربي


01/02/2021

لم تقتصر مناطق السيطرة والحكم العربي في التاريخ الحديث للخليج العربي على مناطق الساحل الغربي والجنوبي للخليج، حيث توجد دول الخليج العربية الحالية، أو على الساحل الشمالي، حيث كانت إمارة بني كعب في الأحواز، وإنما امتدّت أيضاً إلى مناطق متوغلة في الساحل الشرقي للخليج، الذي يقع اليوم ضمن حدود دولة إيران.

اقرأ أيضاً: إمارة بني كعب... وحكاية قرنين ونصف من الحكم العربي في الأحواز

في هذا التقرير نتعرّف على قصة أحد فصول الحُكم العربي هناك، الذي امتدّ من شطّ العرب شمالاً إلى بوشهر جنوباً، وهي قصة إمارة "بندر ريق" التي كانت تحكمها قبيلة بني صعب العربية، خلال قرابة 7 عقود من القرن الـ18.

التأسيس... ولادة إمارة عربية

مع سقوط حكم السلالة الصفوية مطلع القرن الـ 18، وصعود السلالة الأفشارية إلى الحكم في إيران، تراجعت سطوة الدولة الإيرانية على مناطق جنوب الهضبة الإيرانية، وخصوصاً المناطق الساحلية والموانئ على ساحل الخليج العربي. في هذا السياق برز اسم قبيلة بني صعب الكهلانية العربية، مع تمكنها من فرض سيطرتها على المناطق الممتدة من حدود مدينة "بندر غناوة" شمالاً، حيث كانت تصل إمارة بني كعب في المحمرة، وصولاً إلى ميناء بوشهر في منتصف الساحل الشرقي للخليج العربي جنوباً، متخذةً من مدينة "بندر ريق" مركزاً لها.

موقع مدينة بندر ريق عاصمة إمارة بني صعب على الساحل الشرقي للخليج

وكان تأسيس حكم القبيلة في بندر ريق وتوابعها، بداية القرن الـ18، على يد الأمير حمد الصعبي، أمير قبيلة بني صعب، وبعد وفاته تولى الحكم ابنه الأمير نصر بن حمد الصعبي، الذي استطاع جعل بندر ريق ميناءً ومركزاً تجارياً مهمّاً في الجزء الشمالي من الخليج العربي، فقد باتت تقصده وترسو فيه السفن البريطانية والهولندية المتجهة شمالاً باتجاه البصرة. واستطاع الأمير نصر توسعة حدود الإمارة، فعقد تحالفاً مع الشيخ ناصر بن مذكور المطروشي حاكم بوشهر، وتمكّنا من انتزاع حكم جزيرة البحرين فترة من الزمن من حكم قبيلة "آل حرم".

المواجهة مع الهولنديين... وثورة من داخل البيت

تزايد توافد الهولنديين إلى بندر ريق، وبدؤوا يتطلعون إلى السيطرة على جزيرة "خارك" المجاورة لها، وفي نهاية عام 1753م قام الهولنديون باحتلالها فعلاً، وشرعوا بإقامة ميناء تجاري فيها، وكلّ ذلك دون استئذان الأمير نصر، ورفضوا دفع إيجار سنوي للأمير مقابل ذلك، وفي المقابل لم يبادر الأمير إلى مقاومتهم. وبدلاً من ذلك، وفي عام 1754م شرع الأمير نصر بالاتفاق مع الهولنديين من أجل القيام بمساعدتهم  في حصار مدخل شط العرب، وكان الهولنديون في ذلك الوقت عازمين على إجبار حاكم إمارة المنتفق في جنوب العراق، الشيخ ثامر بن سعدون الحسيني، من أجل تسديد المبالغ المتأخرة عليه للهولنديين، وقد كلف الأمير نصر ابنه حسين لتجهيز أسطول من أجل لذلك.

في عهد الأمير نصر بن حمد أصبحت بندر ريق ميناءً ومركزاً تجارياً مهمّاً في الجزء الشمالي من الخليج العربي

إلا أنّ الابن الثاني مهنا بن نصر غضب من مواقف والده هذه، ومن تراخيه في مقاومة الهولنديين، وإقدامه على التعاون معهم في مواجهة حكام إمارة المنتفق العرب، الذين كانت تجمعه علاقة صداقة وثيقة معهم. فما كان منه إلا أن قاد حراكاً معارضاً لوالده، واتهمه أنه بتراخيه يتحمل مسؤولية الاحتلال الأجنبي لجزيرة خارك. وانتهى هذا الحراك إلى الانقلاب على الأمير نصر وقتله على يد ابنه مهنا عام 1754م، ومن ثمّ أعلن مهنا نفسه حاكماً على بندر ريق.

صراع بين الأخوين... وتباين التحالفات

كان حسين، الابن الثاني للأمير نصر، قريباً من مواقف والده، فقام مهنا بحبسه في السجن، إلا أنه تمكن من الفرار، وهرب إلى منطقة "دشتستان" المجاورة، وهناك اتصل بأمرائها الفرس، وقام بتحريضهم على الأمير مهنا مدعياً بأنه منحاز للعرب ويكره كلّ ما هو فارسي.

جزيرة خارك... أدى احتلال الهولنديين لها إلى اندلاع ثورة على حكم الشيخ نصر بن حمد الصعبي

واستطاع حسين بذلك حشد جيش كبير، ومن ثمّ اقتياده لمهاجمة بندر ريق، فسلّم الأمير مهنا نفسه، وقام أمراء دشتستان باعتقاله ونقله إلى منطقة تنكسير، قبل أن يتوسط له شيخ بوشهر، الشيخ ناصر بن مذكور بن طاهر المطروشي، فأطلقوا سراحه مقابل أن يبقى مقيماً في بوشهر، واستلم الأمير حسين الحكم في بندر ريق.

اقرأ أيضاً: متى ظهر مسمى "العرب" في التاريخ؟ وعلى من أطلق؟

إلّا أنّ الأمير مهنا تمكّن في العام التالي من حشد قوات والتوجّه إلى بندر ريق، ومن ثمّ قام بالإطاحة بحكم أخيه ونصّب نفسه مجدداً حاكماً على الإمارة. أمّا حسين فقد هرب إلى جزيرة خارك لاجئاً إلى الهولنديين. ومن ثمّ انطلق من هناك مجدداً إلى دشتستان، حيث حلفاؤه من أمرائها الفرس، وبدعم منهم ومن الهولنديين استطاع استعادة الحكم في بندر ريق، وهذه المرّة هرب مهنا شمالاً إلى خاله الشيخ كايد بن حيدر في "بندر غناوه"، لتبدأ بذلك علاقة التحالف بينهما.

خاض الحاكم الفارسي كريم خان زند سلسلة طويلة من المواجهات مع إمارة بندر ريق بهدف القضاء عليها

بدأ كل من الأخوين الإعداد للمواجهة الحاسمة، فتحالف مهنا مع كل من شيخ بوشهر، ناصر المطروشي، وخاله الشيخ كايد بن حيدر، حاكم بندر غناوة، وقام بتقديم المساعدة له في العام 1755م للهجوم على بندر ريق، وبدأت المعركة بين قوات الأمير مهنا وحلفائه من جهة، وبين شقيقه حسين وحلفائه من أمراء دشتستان والهولنديين من جهة أخرى.

اقرأ أيضاً: الإمارة المشعشعية... حكاية دولة عربية قاومت الغزوَيْن الصفوي والعثماني

كانت النتيجة انهزام الأمير مهنا ومن معه، وانسحابهم إلى بوشهر، ومن ثمّ بادر الأمير مهنا بشّن هجوم واسع في أوائل عام 1756م، فهجم على بندر ريق وسيطر عليها وقام بقتل أخيه حسين بن نصر، ومن ثمّ سيطر على جزيرة خارك، وقام بهدم المقرّ التجاري للهولنديين وأخرجهم منها.

في مواجهة الدولة الزندية الفارسية

وخلال تلك الأعوام كان قد برز حاكم جديد في إيران، وهو كريم خان زند، الذي كان قد أسّس دولة واسعة في إيران بحدود عام 1750م، وعُرفت بـ"الدولة الزندية" نسبة إليه. وقد طمع بالقضاء على إمارة مهنا بن نصر الصعبي والمناطق المجاورة لها وضمّها إلى ملكه، ونتيجة لذلك خاض كريم خان زند سلسلة طويلة من المواجهات مع إمارة بندر ريق، حاول فيها التحالف مع مختلف الإمارات المجاورة والقوى الأجنبية في سبيل تحقيق غايته.

باللون الأخضر... موقع مقاطعة "دشتستان" في إيران اليوم بجانب بوشهر وغناوة

في عام 1756م قام خان زند بإرسال قوات إلى بندر غناوة للقضاء على حكم الشيخ كايد بن حيدر فيها، ومن ثمّ التوجّه إلى بندر ريق. وبعد فترة من الحصار من قِبل الفرس والقوات الهولندية، سلّم الأمير مهنا بن نصر نفسه لقوات خان زند، ونُقل إلى شيراز وتمّ تعيين أخيه علي بن نصر حاكماً على بندر ريق بالوكالة عن الدولة الزندية.

اقرأ أيضاً: الجرهاء.. قصة أقدم مركز تجاري على ساحل الخليج العربي

وأثناء توقيفه في شيراز أصبحت علاقته بكريم خان زند جيدة. إلى أن قرّر إطلاق سراحه وتعيينه حاكماً على بندر عباس. وبعدها بفترة بسيطة استطاع دخول بندر ريق وقام بإعدام أخيه الأمير علي بن نصر، ونصّب نفسه حاكماً عليها.

 

قام حاكم البصرة العثماني بإعدام الأمير مهنا بعد لجوئه إليها، وذلك بأمر من والي بغداد الذي كان يكنّ الكراهية له

إلّا أنّ الضائقة المالية بدأت تحاصر إمارة بندر ريق، خصوصاً مع ابتعاد الهولنديين عن موانئها، فبدأ بسلب السفن التجارية المتجهة من البصرة وإليها، حتى بدأت السفن تتخذ إجراءات تحفظها من الهجوم. وفي عام 1759م بدأ بنهب حقول بندر غناوة المجاورة، التي يحكمها خاله الشيخ كايد، ما أدّى إلى انفضاض التحالف بينهما، ومن ثمّ حاول حصار بندر غناوة، إلّا أنه فشل في إخضاعها بسبب مساعدة الهولنديين لأهلها.

اقرأ أيضاً: ما هي أبرز التأثيرات الفارسية في الثقافة العربية؟

استمرّ الهولنديون بالتدبير لإنهاء حكم مهنا المناوئ لهم، وقاموا بتنسيق هجوم واسع مع الفرس وأمراء دشتستان وذلك في عام 1761م، وقد حاصر الفرس بندر ريق من البر والهولنديون من البحر، إلّا أنّ رجال مهنا استطاعوا التسلل إلى معسكر الجيش الفارسي وقاموا بقتل القائد الفارسي، وبعدها بفترة انتهى الحصار بالفشل واضطرت القوات المهاجمة للانسحاب، وإثر هذا الانتصار تمكّن الأمير مهنا من فرض نفسه رقماً صعباً على مستوى منطقة الخليج، وتراجعت المخططات لغزو إمارته.

حكم الأمير مهنا يبلغ أوجه

سرعان ما اتجه الأمير مهنا إلى توطيد دعائم ملكه عبر توجيه ضربات للمشيخات والإمارات المجاورة، وبدأ بخاله الشيخ كايد بن حيدر الذي تعاون مع الهولنديين، فهجم على مقرّ حكمه بندر غناوة، واضطره للانسحاب، ومن ثمّ قام بمهاجمة دشتستان ونهبها، وحاول الاعتداء على بوشهر. وفي عام 1762م هجم على جزيرة خارك واستولى على سفن للهولنديين وقتل رئيس البحرية الهولندية.

منمنمة فارسية تصوّر كريم خان زند وهو وسط حاشيته يدخن الشيشة

في عام 1763م أدرك كريم خان زند أنّ إمارة مهنا بدأت بالاتساع وحاول توجيه ضربة حاسمة لها، فأرسل جيشاً إلى بندر ريق، ولكنّ الحملة فشلت وهرب الجيش الفارسي من قوات الأمير مهنا، إثر ذلك استتبت سيطرة الأمير مهنا على كامل منطقتي غناوة ودشتستان، وبذلك أصبح الأمير مهنا يسيطر على منطقة تجارية وزراعية واسعة تجلب له المال الوفير. واضطر الهولنديون للدخول معه في معاهدة سلام مؤقت، وقاموا بدفع إيجار سنوي مقابل إشغالهم لجزيرة خارك.

حملة هولندية فارسية ثانية

في عام 1764م، وبعد أن تفرّغ كريم خان زند من حروبه في الجهات الشمالية والشرقية من دولته، طلب من الأمير مهنا دفع الجزية له، فرفض الأمير ذلك، وعندئذ أعلن خان زند الحرب عليه، وأرسل قوة عسكرية كبيرة إلى بندر ريق.

اقرأ أيضاً: بين المُسنَد والآرامي والنبطي... ما هو أصل الخط العربي؟

هرب الأمير مهنا إلى جزيرة خارك قبل وصول جيش كريم خان زند، في حين اتخذ الهولنديون موقفاً حيادياً، بالرغم من طلب خان زند مساعدتهم  في الهجوم. وفي عام 1765م، وبعد تعيين ممثل هولندي جديد، قرّر مشاركة قوات كريم خان زند والشيخ ناصر آل مذكور المطروشي في الهجوم على جزيرة خارك، حيث اعتصم الأمير مهنا وقواته، بالرغم من ذلك، انتهى الهجوم بالفشل. أخذ الأمير مهنا بعدها زمام المبادرة، وشرع بتصفية الوجود الهولندي في جزيرة خارك، ومن ثمّ قام بتوجية ضربة إلى ميناء بوشهر.

إعدام الأمير مهنا... ونهاية الإمارة

تزايد أعداء الأمير مهنا في جواره وبدؤوا بتضييق الخناق على إمارته، بدءاً من ضربات والي البحرين الشيخ عيسى آل مذكور المطروشي، الذي هجم على تحصينات الأمير مهنا في بندر غناوة وحطمها، إلى قيام العثمانيين بالاستيلاء على سفن للأمير مهنا كانت تنقل البضائع إلى البصرة.

باللون البنفسجي مناطق انتشار قبيلة المطاريش وقبيلة بني صعب في بوشهر وبندر ريق

إلّا أنّ التطوّر الأخطر جاء من الداخل، ففي عام 1769م حدث خلاف بين الأمير مهنا وبين "درباس"، زعيم إحدى العشائر المهمّة في جزيرة خارك، وتطوّر هذا الخلاف، إلى أن أمر الأمير بسجن درباس، فكان أن بدأ التحرّك من شيوخ العشائر ضدّ الأمير.

اقرأ أيضاً: الفاو: عاصمة مملكة كندة الأولى.. وفصول من حكاية التحضر العربي قبل الإسلام

إثر ذلك هرب الأمير مهنا إلى البصرة، وحاول الاتصال بالشيخ عبد الله بن محمد الحسيني، شيخ إمارة المنتفق طلباً للمعونة والسند منه، وكان مقيماً في مدينة الزبير قرب البصرة، وبالرغم من أنّ حاكم البصرة العثماني استقبله استقبالاً حسناً إلّا أنه لم يلبث أن غدر به، وذلك بعد أن تلقى الأوامر من والي بغداد العثماني الذي كان يكنّ الكراهية للأمير مهنا، فقام بإلقاء القبض عليه وأعدم شنقاً، وكان ذلك في آذار (مارس) عام 1769م.

باللون الأخضر حدود إمارة المنتفق بجنوب العراق حالياً في أقصى اتساع لها أواخر القرن 17

وبالإطاحة بالأمير مهنا استطاعت الدولة الزندية الفارسية مدّ نفوذها نحو مناطق إمارة بندر ريق وقامت بالقضاء عليها، لتنتهي بذلك قصة إمارة عربية سعت لإقامة حكم عربي مستقل في  الساحل الشرقي للخليج العربي.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية