
لا أحد ستخونه ذاكرته لينسى أنّ جماعة الإخوان شرعت منذ استيلائها على السلطة عام 1989 في تدمير الجيش السوداني بتغيير عقيدته القتالية من وطنية قومية إلى إسلامية إخوانية، ثم بإنشاء ميليشيات موازية أكبرها وأقواها قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) عام 2013، قبل أن تخرج عن طوعها وتفارق طريقها؛ ممّا تسبب في الحرب الراهنة بينهما، بين قيادة الجيش السوداني التي تُسيطِر عليها الجماعة وتدعمها كتائبها وميليشياتها، وبين قوات الدعم السريع التي رفضت البقاء تحت سيطرة الإخوان حتى بلغ الخلاف بينهما حدّ الاقتتال، فكانت حرب 15 نيسان (أبريل)2021.
منذ ذلك التاريخ دارت معارك ضروس بين الجانبين، أسفرت عن أكثر من (11) مليون لاجئ وفق آخر إحصائيات الأمم المتحدة، وقالت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونسيف) إنّ (24) مليون طفل سوداني يواجهون مخاطر محدقة، بينهم (14) مليوناً في حاجة ماسّة إلى مساعدات منقذة للحياة، ووصفت ممثلة المنظمة في السودان مانديب أوبراين ما يحدث لأطفال السودان بـ "الكارثة الإنسانية ذات الأبعاد الملحمية".
خلال (14) شهراً من الحرب ظلت قيادة الجيش السوداني التي تتحكم بها جماعة الإخوان ترفض مبدأ التفاوض والحل السلمي؛ رغم خسائر الجيش الكبيرة في معظم المعارك التي خاضها مع قوات الدعم السريع، حيث لم يحقق أيّ انتصارات، ما عدا في بعض أحياء مدينة أم درمان القديمة بالعاصمة السودانية، الأمر الذي أثار العديد من التساؤلات حول هذا الرفض الذي بلغ درجة وصف كل من يدعو إلى وقف الحرب والعودة إلى المفاوضات بالخيانة والعمالة من قبل إعلام الجماعة الذي يتولى الدعاية الحربية للجيش ويسيطر على وسائل الإعلام الحكومية الرسمية.
معركة وجودية
يعتقد مراقبون وراصدون للأداء الإعلامي للجماعة خلال الحرب أنّه داعم لاستمرارها، لأنّه لا سبيل لجماعة الإخوان غير خوض هذه الحرب الفاصلة والوجودية بالنسبة إليها إلى نهايتها، لأنّ إيقافها يعني ببساطة نهاية حتمية لوجود الجماعة بالسودان، الأمر الذي جعلها تدفع بميليشياتها وكتائبها المسلحة إلى ميدان القتال بجانب الجيش، وتخوض في الوقت نفسه معارك إعلامية شرسة على الصعيدين الداخلي والخارجي تعتمد خلالها سياسة "اكذب، ثم اكذب، حتى يصدقك الناس". وتقول الأرقام والإحصائيات والمعلومات إنّ قوات الدعم السريع تحقق تقدماً كبيراً في جبهات القتال
جماعة الإخوان شرعت منذ استيلائها على السلطة عام 1989 في تدمير الجيش السوداني بتغيير عقيدته القتالية من وطنية قومية إلى إسلامية إخوانية
خلال الأسبوع المنصرم تمكنت قوات الدعم السريع من السيطرة على مدينة الفولة عاصمة ولاية غرب كردفان (غرب)، وبلدة جبل موية بولاية سنار (جنوب شرق)، وهاجمت الثلاثاء 25 حزيران (يونيو) مدينة سنار عاصمة الولاية التي شارفت على السقوط وشهدت موجات نزوح كبيرة جراء المعارك الضارية التي تدور حول مداخلها، كما هاجمت قرية حجر العسل شمال الخرطوم، وعلى بعد كيلومترات قليلة من مدينة شندي كبرى مدن شمال السودان.
انتصارات وهميّة
رغم هذه الحقائق، فإنّ إعلام الجماعة يتحدث عن تقدّم وانتصارات كبيرة للجيش، وعن هزيمة ساحقة لقوات الدعم السريع ونهاية وشيكة لها وللحرب بالضرورة، لكن لا أحد غير إعلام الجماعة يرى هذه الانتصارات الباهرة على الأرض، بل يرى عكس ذلك تماماً.
بالنسبة إلى المراقبين والراصدين، فإنّ التضليل عادة وتقليد إعلامي إخواني قديم، فقد كانت الجماعة تتحدث إبّان حرب جنوب السودان عن كسر شوكة التمرد والقضاء عليه، وتبث في هذا الصدد قصصاً خيالية من خلال برنامج حربي دعائي شهير كان يذيعه تلفزيون السودان مرة في الأسبوع بعنوان في (ساحات الفداء)، حتى تفاجأ السودانيون بعكس ذلك، وأنّهم كانوا ضحية الأكاذيب والأوهام، ووقتها كان جنوب السودان دولة مستقلة بنشيد وطني وعلم وعملة.
يعمد الإعلام الإخواني الحربي إلى توظيف واستخدام الخطاب الديني لتحقيق مآربه وكسب الحرب النفسية بما يطيل أمد الحرب، ويعطي الجماعة فرصاً متتالية للمناورة
الآن، عادت الجماعة إلى إعلامها التقليدي الذي يتخذ الكذب أداة أساسية في عمله، ولربما يعود ذلك إلى مقولة ذائعة منسوبة لعرّابها حسن عبد الله الترابي "الكذب في سبيل الدعوة حلال"، فبعد أن فشل في إقناع الشعب بأنّ قوات الدعم السريع تستخدم السحر و"النفاثات في العقد" لتحقيق الانتصارات واحداً تلو الآخر، وبعد أن يئست من الترويج بأنّ الكثير من "الكرامات" تتنزل من السماء على منسوبي كتائبها المقاتلة في إشارة إلى صلاحهم وإيمانهم وقربهم من الله، إذ بإمكان جندي واحد منهم إلحاق هزيمة نكراء بسريّة كاملة من قوات المرتزقة الكافرة، بحسب وصفهم لقوات الدعم السريع التي أسسوها بأنفسهم، ثم مكنوها وقووا شوكتها وسنّوا لها قوانين وتشريعات تمّت إجازتها بالإجماع في برلمانهم عام 2017، اتجهوا إلى تحويل الهزائم المتتالية إلى انتصارات، وظلوا يكررون ذلك ويرددونه ليل نهار من خلال أجهزة الإعلام الرسمية ووسائل التواصل الاجتماعي، حتى بدأ بعض الناس يصدقون ذلك، ويعتنقون الأوهام المصنوعة في الغرف الإعلامية الإخوانية عوضاً عن الحقائق الماثلة على الأرض.
الخُلاصة
يعمد الإعلام الإخواني الحربي إلى توظيف واستخدام الخطاب الديني لتحقيق مآربه وكسب الحرب النفسية بما يطيل أمد الحرب، ويعطي الجماعة فرصاً متتالية للمناورة سياسياً وعسكرياً، ومحاولة إقناع شريحة من المواطنين بانتصارات لم تحدث على الأرض ولم يرها أحد بالعين المجردة ولا بأجهزة "التكبير".
ويُعتبر الإعلام إحدى نقاط الضعف والثغرات الكبيرة بالنسبة إلى قيادة الجيش السوداني، فبعد أن تولى أمره (الكيزان) خسر الجيش مصداقيته داخلياً، فلم يعد السودانيون يصدقون ما يصدر عنه بل أصبح محل سخريتهم وتندرهم، فيما خسر السودان بسبب أداء الإعلام الإخواني العدائي علاقاته الدبلوماسية مع جميع دول الجوار ما عدا مصر، فضلاً عن الدول الأفريقية، بما فيها الاتحاد الأفريقي والهيئة الحكومية (إيغاد)؛ الأمر الذي أتاح لقيادة قوات الدعم السريع التمدد لملء هذه الفراغات، وهذا ما جعل دولاً كثيرة تُغيّر وجهة نظرها نحوها وتتعامل معها كطرف من أطراف الحرب يستجيب لدعوات التفاوض والسلام التي يرفضها الطرف الآخر.