إسلام سياسي أم إسلامان متناقضان؟

إسلام سياسي أم إسلامان متناقضان؟


10/10/2018

منذ نشأت جماعة الإخوان المسلمين، العام 1928، بهدف "إصلاح" أحوال المسلمين، وانتشالهم من "الجاهلية"، و"تنقية" الإسلام من الخرافات والبدع، وإقامة دولة "الخلافة الإسلامية الراشدة"، عن طريق "الجهاد"؛ إذ كان شعار الجماعة: "الله غايتنا، والرسول زعيمنا، والقرآن دستورنا، والجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا"، بذرت هذه الجماعة، وغيرها من الجماعات السياسية، بذور انشقاقات جديدة في العالم الإسلامي، وفي أوساط أهل السنة والجماعة، بوجه خاص، حيثما شكل المسلمون السنة أكثرية السكان، أضيفت هذه الانشقاقات إلى الانشقاقات التاريخية المعروفة، فأنتجت حالة من التشتت زادت المسلمين ضعفاً على ضعف.

فقد كشفت الحرب الدائرة في سوريا منذ ثمانية أعوام معالم هذا التشتت؛ إذ برزت اتجاهات مؤيدة للعنف وأخرى رافضة له، ما أدى إلى انقسام في المؤسسة الدينية وتشرذم فئات الشعب بكافة طوائفها وإثنياتها، وقد كشفت الحرب أيضاً أنّ جماعات الإسلام السياسي لا ترى في الإسلام ديناً وحسب، إنما سياسة وقانون واجتماع واقتصاد. فقد أدى خلط الدين والدنيا بالسياسة إلى تبلور ثلاثة اتجاهات أو ثلاثة إسلامات، إن جاز التعبير، الإسلام الرسمي، وهو إسلام سياسي متكيف مع الدولة وموال للسلطة، والإسلام الجهادي، المناهض للدولة والمجتمع، وإسلام "البزنس"، وتوزع الإسلام "الشعبي" بين هذه الاتجاهات وبين الفرق الصوفية المختلفة.

عبد الفتاح مورو: أدعو أبناء تونس أن يتابعوني في مقالي وليس في لباسي فلباسي يوحي بالقديم ونحن نريد التجديد والجديد

الواقع المعيش في سوريا ينطق بهذه الحال، ويبرز إسلامين سياسيين متناقضين، تحت مسمى الموالاة والمعارضة، ويصح فيهما معاً تعريف المفكر السوري الراحل، صادق جلال العظم، للإسلام السياسي بأنه "أيديولوجية تعبوية شديدة التأثير مستمدة ومُشكلّة، بصورة انتقائية وجزئية، من بعض نصوص الإسلام المقدسة ومن عدد من مرجعياته التراثية ومن عدد من سوابقه التاريخية ومن حكاياته المتداولة أبّاً عن جد، ومن حاضر العجز الإسلامي المزمن ومن هامشية العالم الإسلامي والعالم العربي في مجريات التاريخ الحديث والمعاصر". نستنتج من هذا التعريف أنّ الإسلام السياسي ليس موحداً؛ إنما ينطوي في داخله على صراعات حادة.

"إسلام الدولة الرسمي" حسب صادق العظم، متكيف مع وجود الدولة ويدافع بكل قوته وحججه عن السلطة، وينفذ تعليماتها وتوصياتها من خلال "رجال الدين"، العاملين في وزارة الأوقاف، ومنهم أئمة مساجد، ومؤسسة الإفتاء العام ومن خلال الجمعيات الدينية، ومنها جمعيات نسائية واسعة النفوذ؛ كالقبيسيات. هذه الشبكة تساهم في إنتاج العنف الرمزي وتمارسه على أفراد المجتمع بموازاة العنف المادي، الذي تمارسه الجماعات المسلحة. وهذان شكلان متكاملان من العنف يؤديان الوظيفة ذاتها، وهي إخضاع المجتمع وشلّ فاعليته.

اقرأ أيضاً: علاقة الإسلام السياسي بسايكس بيكو

الحالة الثانية البارزة في الإسلام: هي حالة إسلام التجارة والعمل "البزنس" وهو الإسلام البعيد عن التطرف والعنف، يلازم عمله وتجارته، ويدعو إلى السلام والوئام، مع أنه لا يخلو من الارتباط المباشر بالدولة من خلال غرف التجارة والصناعة، لكن تلك الغرف هي مؤسسات أهلية مدنية أكثر من أن تكون مؤسسات حكومية؛ فالغالبية من أعضائها هم من المجتمع المدني غير السياسي، هذا الإسلام من مصلحته الاستقرار والأمن والأمان، فهو يميل إلى التسامح على المستوى العام، وإلى المحافظة على المستوى الشخصي.

أما الإسلام الشعبي فهو هذا الإسلام المسالم الذي لا يعنيه أي صراع في العالم، لا يعنيه إلاّ العبادة والعمل بما يرضي الله، عز وجل، لا يطرح سؤالاً، ولا يجيب عن سؤال، يرضى بواقع الحال، كما هو، يستقي دينه من إيمانه بالله؛ أي إنّ علاقته مباشرة مع الله لا يحتاج إلى وسيط أو وزير من وزراء الله على الأرض.

اقرأ أيضاً: التاريخ الإسلامي: قراءة واعية أم انتقائية منحازة؟

أما ما يشكل خطراً، لا على سوريا فحسب إنما على العالم؛ هو التيار "التكفيري"، الذي ينخرط في جميع الصراعات في العالم، هذا الذي يحمل أنصاره راية الله بيده اليسرى، والسيف بيده اليمنى، فيروّجون للعنف والتفجير، وهي السلفية المتشددة، شعارهم القتل وسبي النساء والطائفية ورفض الآخر المختلف ولو كان من أهل السنّة والجماعة، فلم ينجُ من شرهم أحد. وهو تيار يئس إلى حدود العدمية من تحقيق أية برامج بأي أسلوب أو منهج غير أسلوب ومنهج التكفير والتفجير الإرهابي الانتحاري الأعمى، ولتكن النتائج مهما تكن حتى لو انعكست تدميراً على الاسلام عموماً، وعلى التكفيريين أنفسهم تحديداً، كما وصفه العظم، لا يتوانى عن رفع شعار "عليّ وعلى أعدائي يا الله". هذا "الإسلام التكفيري الإرهابي"، لم يبق سلفياً وحسب؛ إنما أصبح عسكرياً، يقيم معسكرات للتدريب على القتل وتعذيب المعتقلين، ويقيم محاكم شرعية وينصّب قضاة وغير ذلك من أشكال الخروج على القانون. أما الإسلام الصوفي الذي يتخذ موقف الحياد من كل الأطراف المتناحرة على الأرض، فهو الأقل شأناً في سورية، لا يأتي ذكره ولا يظهر إلاّ في الموالد والمناسبات الدينية، ولا ننسى أن لكل إسلام حاضنته الاجتماعية وقوته الشعبية.

الإسلام الشعبي مسالم لا يعنيه أي صراع في العالم إلاّ العبادة والعمل بما يرضي الله عز وجل

إذا ما قارنا بين الإسلام في الوقت الراهن والإسلام في خمسينيات القرن الماضي في سوريا، نجد أنّ الإسلام في تلك الفترة كان معتدلاً أقرب إلى الوسطية والتسامح منه إلى التشدد والتطرف، يسعى في سياسته إلى التنوير والتثقيف لكافة أطياف المجتمع السوري، يحمل في مضمونه السلام كما يظهر في خطابه تماماً، (عدا جماعة الإخوان آنذاك التي اتخذت السياسة برنامجاً للدين) فهو أشبه بإسلام تونس اليوم، الذي يدعو إلى الانفتاح والتجديد والإصلاح، يقول الشيخ عبد الفتاح مورو في مقابلة تلفزيونية عندما أشار المذيع إلى عباءته أثناء سؤاله عن الرسالة التي يوجهها إلى الشعب التونسي: "لا تُشر إلى عباءتي، أدعو أبناء تونس أن يتابعوني في مقالي وليس في لباسي، فلباسي يوحي بالقديم ونحن نريد التجديد والجديد، والإسلام لم يأتنا بلباس محدد....".

تلك المقولة للشيخ مورو تختزل كل العوائق التي يتشبث بها الإسلام المتشدد في سوريا وغير مكان من العالم. فكم نحن في حاجة إلى مرجعيات منفتحة تقبل الآخر وتجمع كل العالم تحت راية السلم والسلام والأمن والمحبة.

الصفحة الرئيسية