أردوغان... لعبة الموازنات ومخاطر الفشل

أردوغان... لعبة الموازنات ومخاطر الفشل


08/02/2022

أحمد محمود عجاج

مرة أخرى يواجه الرئيس أردوغان خياراً صعباً، وهذه المرة في أوكرانيا، بعدما وصلت العلاقة بين الغرب وروسيا إلى احتمالات المواجهة؛ وهذه المواجهة تخير تركيا بين موجباتها في حلف الناتو ومصالحها الحيوية مع روسيا. هذا الخيار سببه سياسات إردوغان القائمة على التوازنات، والاستفادة من التناقضات، لحماية مكاسب تركيا، وضمان نجاح مشروعها لتكون دولة إقليمية مهمة تراعي الدول الكبرى مصالحها؛ ولتحقيق سياسة الموازنة بنى علاقة شخصية مع الرئيس بوتين سمحت له بتجنب الاصطدام معه في سوريا وليبيا وأذربيجان وأرمينيا؛ وحصل بوتين بالمقابل على صداقة حليف حلف الناتو، وعلى دولة لا تعاديه في سوريا، ولا تقاتله على أرض ليبيا، ولا تدعم حركات انفصالية إسلامية في منطقة القوقاز وآسيا. لكن هذه العلاقة مع بوتين دفعت الغرب إلى فرض عقوبات على تركيا لحملها على فك أواصر هذه العلاقة. وتمكن إردوغان رغم وقع العقوبات الأميركية من الحفاظ على توازن بين المعسكرين الغربي والروسي مكنه من الحفاظ على سياسة خارجية مستقلة؛ وهذا لأنه ليس مضطراً، بحكم الظروف المواتية، للانحياز لأحدهما.
تستند سياسة إردوغان إلى ركيزتين؛ هما الطورانية والإسلامية؛ وقد تنبأ بهذا التوجه التركي المفكر صموئيل هنتنغتون في كتابه الشهير «صراع الحضارات» بقوله إن النخبة العلمانية الحاكمة في تركيا والميالة للغرب سيحل مكانها النخبة القومية والإسلامية؛ وقد جسد هذا التحول إردوغان عملياً برفعه شعار الطورانية، وأقام تكتلاً لدول ناطقة بهذه اللغة في آسيا تتزعمه تركيا، واعتمد الشعار الإسلامي لجذب الشعوب الإسلامية غير التركية إلى محوره؛ هكذا نال تأييداً داخل تركيا وسوريا وفي بلدان إسلامية أخرى، وتدخل عسكرياً تحت شعار الطورانية في الصراع الأرمني - الأذربيجاني. هذه السياسة التركية رغم خطورتها على المصالح الروسية الاستراتيجية، استطاع بوتين، بالتنسيق مع إردوغان، أن يخفف من مخاطرها، ومن خلال هذا التنسيق تمكن إردوغان من تحقيق مصالح حيوية في سوريا وليبيا وأذربيجان. وتكمن المفارقة أن كلاً من إردوغان وبوتين متطابق ومتعارض في مضمون سياسته، لأن بوتين يرفع شعار العرق السلافي، ولواء الكنيسة الشرقية؛ ومع ذلك تجنبا الاصطدام، وإن مؤقتاً.
وتحت منطوق السياسة الواقعية استطاعا أن يتفاهما على الحد الأدنى، فرفض إردوغان الاعتراف بشرعية ضم جزيرة القرم التي تسكنها جالية طورانية كبيرة، ولم يمانع بوتين طالما أن هذا الرفض يبقى في إطار التعبير لا الفعل؛ لكن المشكلة بدأت تظهر بعد حشد روسيا قواتها على حدود أوكرانيا، واستنفار حلف الناتو، وتهديده بعقوبات واسعة على روسيا، وتوفير الدعم لحركات مقاومة أوكرانية إذا احتل أراضي أوكرانية أو العاصمة كييف. ورافق هذا التصعيد تسليح إردوغان أوكرانيا بطائرات مُسيّرة قصفت مراكز مدفعية لمتمردين تدعمهم موسكو في شرق أوكرانيا؛ وتعهد أوكراني بتزويد تركيا بمحركات حديثة للطائرات التركية الحربية الجديدة، وكذلك بيع تركيا قطعاً حربية للبحرية الأوكرانية. هذا الاندفاع التركي أسعد قادة حلف الناتو لأنهم كانوا يعتقدون أن إردوغان سيتراجع عن دعم أوكرانيا حفاظاً على علاقاته الاقتصادية مع روسيا، وحفاظاً على وجوده العسكري المهدد في سوريا وليبيا وأذربيجان. ولكي يشجع الغرب إردوغان على الابتعاد أكثر عن بوتين بدأ بمغازلة تركيا، وقبلت أميركا تزويده بطائرات حربية من طراز «إف 16»، ومعدات عسكرية رغم استمرار تركيا بالاحتفاظ بمنظومة الدفاع الجوية الروسية «إس 400» التي يرفض الغرب أن تشغلها تركيا لأنها تشكل خطراً على منظومة حلف الناتو.
اعتمد إردوغان سياسة الموازنة المدروسة في تعامله مع أزمة أوكرانيا؛ فرفض ضم روسيا لجزيرة القرم، ورسخ وجوده فيها ليشكل إزعاجاً وليس تهديداً لبوتين ولينتزع منه اعترافاً بنطاق نفوذ في شمال سوريا وفي ليبيا وأذربيجان؛ ولم يمانع بوتين بذلك لأنه يُحيد أكبر جيش بعد أميركا في حلف الناتو. ويدرك إردوغان كيف يفكر بوتين، وكيف يفكر الغرب، ولكيلا يُعصر بينهما اقترح أن يلعب دور الوسيط لما له من احترام في موسكو وكييف، كما انتقد تصعيد الغرب الكلامي، واصطف إعلامياً مع بوتين الذي يكرر أن لا نية له في احتلال كييف. ويبدو أن إردوغان لا خيار له سوى لعب دور الموازن، ويعتقد أنه قادر على ذلك بسبب علاقاته الجيدة مع طرفي النزاع أوكرانيا وموسكو، لكن هذا الرضا به يبقى مرهوناً بتطورات طارئة في المستقبل، واضطراره لمواقف لا يريدها، كما حدث مع الخليفة عبد الحميد أيام الحرب العالمية الأولى؛ فالخليفة العثماني آنذاك كان يلعب لعبة الموازنات لكنه اضطر في النهاية للتحالف مع ألمانيا، فخسر خسارة كبرى؛ وقد يكرر التاريخ نفسه، ويضطر إردوغان للاختيار، فمن سيختار؟
هذا أسوأ سيناريو يمكن أن يواجه إردوغان؛ لأن أي موقف انحيازي يتخذه لن يخدمه بل سيصيب سياسته بخلل كبير، ويهدد أمن تركيا وسلامة اقتصادها؛ لذلك فإن أي قراءة موضوعية سترجح دائماً وقوفه على الحياد، مع الميل، إذا اضطر، لموسكو، ومعها الصين، اعتقاداً منه أن الغرب معادٍ لصعود تركيا، وأنه مشحون تاريخياً ضدها، وأن المستقبل للشرق وليس للغرب. هذا الميل خطر على الداخل التركي لوجود شريحة كبرى من المثقفين والصناعيين والتجاريين تشكك في الغرب، وتؤيد سياسة مستقلة، وتوجد مقابلها شرائح تركية غربية الهوى، ووازنة، تعارضها؛ وهذا سيؤدي إلى غياب الإجماع الداخلي على السياسة الخارجية. كما أن الغرب لن يقف مكتوف الأيدي، وسيعاقب تركيا، وبذلك ستضطر تركيا للاعتماد أكثر على روسيا والصين وستخسر بذلك استقلالية قرارها الخارجي، وموقعها المميز في المنطقة كلاعب إقليمي ودولي.
إن إردوغان مدرك للتاريخ، ومولع به، ويعرف ماذا حل بالخلافة العثمانية، وبالإمبراطورية النمساوية، وعليه أن يفكر مرتين قبل اتخاذ قراره، لكونه يعرف تماماً ماذا سيحدث للأعشاب عندما تتصارع فوقها الفيلة.

عن "الشرق الأوسط" اللندنية



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية