أحمد خالد توفيق.. وداعاً أيها الغريب

أحمد خالد توفيق.. وداعاً أيها الغريب


04/04/2018

هذا الملل المتسلل إلى الطفل الكبير، بعدما أصبحت مجلات الرسوم لا تشبع فضوله تجاه الحياة، روايات نجيب محفوظ، وإحسان عبدالقدوس، يوسف إدريس، لم تداعب وجدانه بعد، ليقف محملقاً بين صفحات هذا الأدب الفريد، بكلمات تراود خياله.

أخذته تلك الصفحات في صولات وجولات، أصابته بنشوة جديدة، لم يعهدها من قبل، نشوة استكشاف آفاق أكثر عمقاً للحياة، وكأنه سحر وقع في أسره جيل كامل من الشباب العربي، أطفال الثمانينيات والتسعينيات الذين تبوأوا اليوم أماكنهم بين الكتاب والنقاد والمثقفين، كلهم مدينون للراحل" أحمد خالد توفيق"، الذي احترم الصغار، فجالسهم وحدثهم، ونزل من علياء الكاتب المعهود، فاتسمت لغته بالبساطة، فلم ينحدر، ولم يسع للجوائز، ولم يزاحم على اللقاءات الصحفية، فكان رصيده الأكبر محبة الناس، ونقش في عقول الصغار، ما لن يزول من وجدانهم.

كان الراحل يرى الموت على مقربة منه. ولم يكتب إلا وصية صغيرة "اكتبوا على قبري: جعل الشباب يقرؤون"

الدكتور أحمد خالد توفيق الذي وافته المنية مساء الإثنين الثاني من نيسان (أبريل)  عام 2018، كان تنبأ بموته في روايته "قهوة بطعم اليورانيوم" قائلاً: "كان من الوارد جداً أن يكون موعد دفني هو الأحد 3 أبريل بعد صلاة الظهر"، فكانت نبوءته حقاً؛ إذ تم تشييع جثمانه صباح الثلاثاء الثالث من نيسان، من مسجد السلام، بمدينة طنطا في محافظة الغربية، مسقط رأسه التي لم يتركها يوماً، فقد كانت ملاذه الآمن، بعيداً عن القاهرة وضجيجها التي لم يحبها يوماً فآثر البقاء هناك، يكتُب ويدرس الطب في جامعة طنطا، ومات كالفقراء، في مستشفى جامعة عين شمس، التي يرتادها يومياً آلاف المصريين البسطاء.

من جنازة الراحل أحمد خالد توفيق

رحلة العراب

أنا أخشى الموت كثيراً ولست من هؤلاء المدّعين الذين يرددون في فخر طفولي نحن لا نهاب الموت، "كيف لا أهاب الموت وأنا غير مستعد لمواجهة خالقي"، هكذا كتب أحمد خالد توفيق الذي ولد بمدينة طنطا التابعة لمحافظة الغربية شمال مصر، في حزيران (يونيو) 1962، وتخرج في كلية الطب، عام 1985، واستكمل الدكتوراه في طب المناطق الحارة، وكان عضو هيئة التدريس بكلية الطب جامعة طنطا.

بدأ رحلته في الكتابة عام 1992، حيث كتب أول سلسلة رعب "ماوراء الطبيعة" وقدمها للمؤسسة العربية الحديثة، وتم رفضها من اللجنة المختصة، أصابه الإحباط، وكان حمدي مصطفى مسؤول المؤسسة متمسكاً به، فعرضها على لجنة أخرى، كان أحد أعضائها الدكتور نبيل فاروق، وهو من وافق على نشر الرواية، وأعجب بطريقة السرد، فانطلقت أولى رواياته في السلسلة "أسطورة مصاص الدماء" الصادرة عن المؤسسة العربية الحديثة، والتي نعته على لسان الكاتب الصحفي أحمد عابدين: "ظالمة هي الكلمات وفقيرة، لا تستطيع أن توفيك قدرك ولا مقدار حزننا على فراقك، لكن يشفع لها أنها تحمل إرثك لنا كما حملت إبداعك الذي ربى أجيالاً وراء أجيال. نحن لا نرثيك ولكننا نرثي نبعاً من الإبداع كنا نتمنى أن يبقى ألف عام يفيض علماً وحكمةً وصدقاً ونبلاً، نرثي فيك إشعاعاً من الصدق أنار للملايين طريقاً لحب القراءة والمعرفة، ففاض الحب منهم إليك، وصرت لهم أباً روحياً. من هنا، من بيتك الذي شرُف بحمل إبداعك للناس نهديك حباً أنت جدير به وأهلاً له، وشكراً لا يكفيه المدى، وعزاؤنا فيك ما تركته للأجيال، إنه ليس وداعاً، إنما سلام طيب لروحك الجميلة الغالية الباقية في نفوسنا ونفوس محبيك، سلاماً طيباً أبدياً".

إبراهيم عبد المجيد: الراحل لم يكن كاتب زومبي، لكنه استطاع أن يرسخ لأدب الخيال العلمي بثقافة نادرة

شكلت روايات أحمد خالد توفيق لوناً جديداً للأدب، لم يعهده الشباب من قبل، فالوسط الأدبي مكتظ بالكتابات الأدبية التي تستهدف الكبار، وتوائم مرحلتهم العمرية.

استهدفت روايته جيل الشباب المراهقين، فقدمت لهم خبرات فكرية وأدبية لم يستطع أحد أن ينافسه في تلك الحلبة، وهذا ما انعكس عبر نعي المخرج الشاب عمرو سلامة للراحل:" لقد كنت معلمي وملهمي ومصدر أهم النصائح التي أخذت بها وأول من قرأت له في حياتي وأبي الثاني". استكمل الدكتور أحمد سلسلة ما وراء الطبيعة حتى مات بطله "الدكتور رفعت إسماعيل".

وزيرة الثقافة المصرية إيناس عبدالدايم نعت توفيق، وقالت إنّ "الثقافة المصرية والعربية فقدت روائياً عظيماً طالما أثرى الحياة الثقافية في مصر والوطن العربي، لقد ترك الراحل للمكتبة العربية العديد من الروايات والكتابات النقدية المهمة، وكان أحد أبرز كتاب قصص التشويق والشباب في الوطن العربي التي تتميز بأسلوبه الممتع والمشوق، مما أكسبه قاعدة كبيرة من الجمهور والقراء".

حملت شخصية رفعت إسماعيل الكثير من ملامح الدكتور أحمد خالد توفيق

في رثاء رفعت إسماعيل

حملت شخصية رفعت إسماعيل الكثير من ملامح الدكتور أحمد خالد توفيق، فهو طبيب أمراض دم متقاعد، يبحث عما حدث له منذ تخرجه عام 1959، ويأخذ القارئ معه في رحلة استمرت 22 عاماً ينتظرها الشباب بنهم، إلى جانب أخواتها "فانتازيا"، "سافاري"، رسخ بسلاسله لأدب الخيال العلمي، وهو ما أكده الكاتب الكبير إبراهيم عبدالمجيد، ناعياً صديقه: "أحمد خالد توفيق لم يكن كاتب زومبي كما يقال، لكنه استطاع أن يرسخ لأدب الخيال العلمي بثقافة نادرة، ثقافته كانت رصينة وعميقة، وكان مثل الكاهن في محراب متصل بالكون وأعاجيبه". لم يُحسب الراحل على أي تيار سياسي، ولم يأخذ يوماً سوى موقف المعارض لكل الأنظمة المستبدة التي مرت على مصر، واتخذ موقف الثوار في ثورة يناير، ولكنه لم يستطع الانضمام إلى صفوف المتظاهرين؛ حيث كان مصاباً بالربو، وكان إبان الثورة يكتب في جريدة الدستور، منذ عام 2006، له مقال أسبوعي، مما شكل الوعي السياسي لقراءه ومحبيه من جيل الشباب.

صديق وأب وقدوة

وأكد الكاتب محمد أبوالغيط، في نعيه للراحل الذي كان بمثابة صديق وأب وقدوة له ولجيله من الكتاب:"أتت الثورة وأتى معها السقوط، بسرعة عرفنا أنّ كثيراً ممن رفعناهم سقفاً فوق رؤوسناً ليحمونا قد انهاروا فوقنا، أغلبهم انحاز بوضوح لجانب من يقتلنا، نحن أبناؤه المفترضون، وبعضهم تجاوز ذلك لسُبابنا نحن جمهوره السابق، فشاهدنا من وصف الشباب بأنهم "مخنثون" وتافهون، ومن ينتقد الأسر التي "غابت فيها التربية والأدب والتهذيب، فأنتجت شباباً لا تكترث بما تفعل، تندفع دون روية وتخرج من بيتها دون رقابة".

لم يزاحم الراحل على الجوائز أو المناصب، ولم يرغب العيش في العاصمة ككل المشاهير من الكتاب، وهو الأكثر شهرة

لم يزاحم الراحل على الجوائز أو المناصب، ولم يرغب العيش في العاصمة ككل المشاهير من الكتاب، وهو الأكثر شهرة، فهو القارئ المفضل لجيل كامل من الشباب، هم جمهوره الأول، وهو لا يسعى إلا إلى جذبهم، وهو ما عبّر عنه الكاتب عمرو عزت: "علاقة هي خليط جميل من الأبوة والصداقة نجح أحمد خالد توفيق ككاتب وكإنسان صنعها، والحفاظ عليها بإخلاص وتواضع مع قطاعات واسعة من أجيال انقلبت حياتها بعنف، وتفرقت بهم السبل والتجارب، وليس من السهل أبداً أن يحتفظوا بالعرفان والود بهذا القدر لأي أب أو صديق".

كان الراحل يرى الموت على مقربة منه دائماً، وكثيراً ما عبّر عن هذا في لقاءاته الصحفية، حتى أتاه الموت واختطفه فجأة أفجعت محبيه، فاكتظت جنازته بالأصدقاء والجماهير الذين لم يلتقهم ولم يلتقوه، قادمين من كل حدبٍ وصوب لتشييع جثمانه كما تنبأ بذلك، ولم يكتب إلا وصية صغيرة "اكتبوا على قبري جعل الشباب يقرؤون".


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية