
شهدت الأعوام الأخيرة تواصلًا وتنسيقًا متصاعدًا بين الجماعة الإسلامية الباكستانية، (الذراع السياسية للإخوان المسلمين) والجمهورية الإسلامية الإيرانية، بشكل يتجاوز أعراف السياسة الخارجية الباكستانية التقليدية، ويثير تساؤلات حول انعكاساته على الأمن القومي الباكستاني.
وتعود بوادر هذا التقارب إلى أواخر عام 2023، حينما قام سراج الحق (أمير الجماعة الإسلامية آنذاك) بزيارة إلى طهران، والتقى عددًا من القيادات الإيرانية، وخلال تلك الزيارة عبّر سراج الحق عن ضرورة وحدة العالم الإسلامي لنصرة قضية فلسطين، وأشاد بجهود إيران وثورتها الإسلامية، جنبًا إلى جنب مع أفكار مؤسس الجماعة الإسلامية أبو الأعلى المودودي، معتبرًا أنّ كِلتا القيادتين (الإيرانية والباكستانية) سعتا لحماية الأمّة الإسلامية من الانقسام الطائفي.
"تحالف الجماعة الإسلامية الباكستانية مع إيران يتجاوز التقاليد السياسية لباكستان، ويضعها في مرمى نار المحاور المتصارعة إقليميًا ودوليًا."
ويمكن القول إنّ سراج الحق حاول منذ ذلك الحين إدخال الجماعة الإسلامية ضمن المشروع الإيراني، وهو توجه سياسي غير مألوف في باكستان، التي اعتادت تاريخيًا التوازن بين علاقاتها مع إيران من جهة، وتحالفاتها التقليدية مع الولايات المتحدة ودول الخليج (خصوصًا السعودية) من جهة أخرى.
تعميق أواصر التحالف المشبوه
بلغ التقارب أوجه في العام 2024 عبر مواقف لافتة من القيادة الجديدة للجماعة الإسلامية. ففي 22 أيّار (مايو) 2024 قام أمير الجماعة الإسلامية الحالي، حافظ نعيم الرحمٰن، بزيارة السفارة الإيرانية في إسلام آباد، لتقديم التعازي في وفاة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، ووزير خارجيته حسين أمير عبد اللهيان إثر حادث تحطم مروحية. وخلال لقائه بالسفير الإيراني رضا أميري مقدم سجّل حافظ نعيم تعازيه في سجل الزوار وأعرب عن حزنه العميق لما سمّاه "استشهاد" القيادة الإيرانية.
"من طهران إلى إسلام آباد، تُنظّم الولاءات باسم فلسطين، فيما تُدار التحالفات على وقع حسابات تتخطى المصالح القومية."
وأكد نعيم الرحمن أنّ قلوب الباكستانيين والجماعة الإسلامية موجوعة لهذا المصاب، وأنّ جهود الرئيس رئيسي في تعزيز العلاقات الباكستانية-الإيرانية ستظل خالدة. وشدّد أيضًا على أنّ الشعب الباكستاني والجماعة الإسلامية يقفون إلى جانب الأمّة الإيرانية في هذه اللحظة الحرجة.
وربما كانت المفاجأة في الأول من تمّوز (يوليو) الجاري هي الزيارة التي قام بها حافظ نعيم الرحمن إلى السفارة الإيرانية لحضور مأدبة غداء أقامها السفير الإيراني في إسلام آباد على شرف أمير الجماعة الإسلامية، حيث شكر السفير الإيراني رضا أميري مقدم الجماعة، على موقفهم الداعم لإيران أثناء مواجهة العدوان الإسرائيلي والأمريكي. وأكد السفير في رسالة خطية سلّمها لحافظ نعيم الرحمن أنّ الدعم المبدئي والقوي من أمير الجماعة الإسلامية، وحشده التضامن الشعبي الباكستاني، شكّل مصدر قوة لإيران أثناء المعركة.
"زيارة سراج الحق لطهران كانت بداية اصطفاف غير مألوف، كرّسته قيادة الجماعة الإسلامية الجديدة تحت لافتة مقاومة العدو المشترك."
من جانبه، أشاد أمير الجماعة الإسلامية بالقيادة الإيرانية لصمودها في وجه إسرائيل وأمريكا، واعتبر المرشد الأعلى علي خامنئي وقادة إيران الآخرين مثالًا للقيادة الرشيدة للأمّة الإسلامية. وترحّم على من سقطوا من الإيرانيين الشهداء، ودعا لهم بالمغفرة، وقدّم التعازي لأسرهم.
الدعم العلني لأجندة إيران الإقليمية
تتبنّى الجماعة الإسلامية علنًا أجندة سياسية منسجمة مع الرؤية الإيرانية الإقليمية؛ فقد دعا أمير الجماعة إلى وحدة الصف الإسلامي ضد العدو المشترك، ووضع الخلافات البينية جانبًا، لأنّ "إسرائيل وأمريكا تريدان إضعاف الدول الإسلامية واحدة واحدة، ولا يمكن إحباط طموحاتهما إلا بالاتحاد"، بحسب تعبيره. وطالب حكومة بلاده بتعزيز تعاونها الاقتصادي مع طهران، عبر استكمال مشروع خط أنابيب الغاز الثنائي، ووضع خطة رسمية لاستيراد النفط الإيراني. ولم يكتفِ بذلك، بل اقترح أيضًا تشكيل تحالف سياسي ودفاعي استراتيجي يضم باكستان وإيران وتركيا، معتبرًا أنّه "إذا وقّعت هذه الدول الثلاث اتفاقية دفاع مشترك، فلن تجرؤ أيّ قوة في العالم على مهاجمتها".
"الدعوة لتحالف يضم باكستان وتركيا وإيران تُقصي حلفاء تقليديين، وتفتح أبواب التوتر مع الخليج والولايات المتحدة."
هذه الرؤية تتجاوز بكثير منطلقات السياسة الخارجية الباكستانية التقليدية، وتتماهى مع طموح إيراني معروف لبناء محور إقليمي تقوده بادعاء مقاومة النفوذ الأمريكي.
وختم حافظ نعيم مواقفه بالتنويه بدور إيران في دعم المقاومة الفلسطينية، زاعمًا أنّ طهران "عزّزت النضال من أجل تحرير فلسطين، بدعمها شعب غزة المظلوم". كذلك أعلن وقوف جماعته مع الفلسطينيين حتى التحرير الكامل، وطالب بإلزام باكستان بموقف تاريخي رافض للاحتلال والتطبيع.
وكانت الجماعة الإسلامية قد طالبت على لسان أميرها حافظ نعيم الرحمن بفتح مكتب رسمي لحركة حماس الفلسطينية في باكستان والاعتراف بها، ممّا أثار تحذيرات بأنّ مثل هذه الخطوة قد تشعل اضطرابات داخلية وتجلب تداعيات دولية خطيرة على باكستان.
تعارض مع نهج الدولة وأمنها القومي
أثار حماس الجماعة الإسلامية لتكوين تحالف مع إيران ومحور الممانعة، انتقادات ضمنية وعلنية في باكستان، إذ يُنظر إلى الأمر باعتباره تجاوزًا لاعتبارات الأمن القومي ومصالح الدولة العليا. تقليديًا تتبع إسلام آباد سياسة توازن دقيقة؛ فهي تحتفظ بعلاقات تقليدية مع إيران، يشوبها التوتر في أحيان كثيرة، بسبب النزاعات الحدودية، واحتضان طهران لجماعات البلوش المتمردة. وهي حريصة على شراكتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، وعلى تحالفها الوثيق مع المملكة العربية السعودية ودول الخليج.
"حين يقول أمير الجماعة الإسلامية إنّ المرشد الإيراني مثال القيادة الرشيدة، فإنّه لا يمدح فقط، بل يُؤسّس لمحور سياسي جديد."
كما تواجه باكستان حساسيات داخلية ذات بُعد طائفي، تجعل الاصطفاف العلني مع إيران التي تعمل على تصدير الثورة الشيعية خطوة محفوفة بالمخاطر.
وسبق لباكستان أن رفضت عام 2015 الانخراط العسكري في حرب اليمن، بناءً على قرار برلماني، تجنبًا لمواجهة إيران بشكل غير مباشر، وهو قرار أيدته الجماعة الإسلامية آنذاك، لكنّه أغضب حلفاء باكستان الخليجيين. أمّا اليوم، فخطاب قادة الجماعة الإسلامية أشد جرأة في تحدي المحظورات؛ فهم يطالبون الحكومة بدعم إيران "بكل السبل"، حتى أنّ مجلس شورى الجماعة الإسلامية أصدر قرارًا يعلن "الدعم الكامل لإيران". وقد وصف حافظ نعيم إسرائيل بأنّها "فيل هائج يهدد أمن المنطقة" داعيًا باكستان إلى اتخاذ خطوات عملية لنصرة إيران.
"إصرار الجماعة الإسلامية على فتح مكتب لحماس في باكستان يُنذر بأزمة داخلية ويقوّض علاقات إسلام آباد الدولية."
هذه المواقف تضع باكستان في موضع الاصطفاف مع معسكر مناهض بشدة لواشنطن، وتخاطر بإثارة غضب الإدارة الأمريكية التي تعتبر التعاون الباكستاني محوريًا في قضايا إقليمية في أفغانستان ومكافحة الإرهاب. كما أنّها تُربك علاقة باكستان التاريخية مع الرياض؛ فالسعودية تتحسّس من تنامي النفوذ الإيراني في جوارها، في ظل الجرائم التي يرتكبها الحوثي باستمرار.
وليس بخافٍ أنّ دعوة الجماعة الإسلامية إلى تحالف يضم تركيا وإيران، وتستبعد ضمنيًا السعودية وغيرها من الدول الحليفة لباكستان، تولد توترات دبلوماسية غير مرغوبة.
"السياسة الخارجية الباكستانية بُنيت تاريخيًا على التوازن، لكن خطاب الجماعة الإسلامية اليوم ينقض هذا الإرث باندفاع مقلق."
ويمكن القول: إنّ التماهي التام مع المشروع الإيراني يجعل باكستان هدفًا لعزلة أو استهداف مستقبلي، فضلًا عن خسارة دعم شركائها الخليجيين. وهو ما تدركه الحكومة الباكستانية جيداً، التي سبق أن أصدرت تعليمات في العام 2023 لمواطنيها بتوخي الحذر عند السفر إلى إيران والعراق، في مؤشر يعكس قلقًا رسميًا من الانزلاق في توترات إيران الأمنية.