
يتواصل الجدل في فرنسا بشأن مستقبل المعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية، أحد أبرز مراكز تكوين الأئمة والدعاة، والذي بات يواجه تهديدًا رسميًا بالإغلاق على خلفية اتهامات خطيرة بنشر أفكار متطرفة تروّج لـ"الإسلام السياسي".
وقد كشف تقرير استخباراتي حديث، جرى رفعه إلى وزارة الداخلية الفرنسية وعُرض أمام مجلس الدفاع برئاسة الرئيس إيمانويل ماكرون، عن دور محوري للمعهد في تغلغل جماعة الإخوان المسلمين بالمجتمع الفرنسي، واصفًا إياه بأنه "ركيزة بارزة للحركة داخل البلاد" وفق ما أوردته صحيفة لا كروا الفرنسية.
وذكرت وزارة الداخلية الفرنسية أن هذا المعهد يُشتبه في تحوّله إلى "قناة شرعية لتخريج أئمة يحملون فكراً سلفيًا محافظًا"، رغم إصرار إدارته على نفي هذه الاتهامات. وفي بيان دفاعي، أعلن المعهد التزامه بـ"الشفافية والمبادئ الجمهورية"، ونفى أي علاقة بخطاب الكراهية أو العنف، مؤكدًا أن خريجيه يمارسون وظائفهم في المساجد ضمن احترام القانون والعلمانية.
لكن المصادر الاستخباراتية أكدت أن المعهد "ينتج خطباء يكرسون خطًا أيديولوجيًا متشددًا ويبتعدون عن مناهضة الفكر الانعزالي".
في هذا السياق، لم يتردد وزير الداخلية الفرنسي برونو ريتايو في وضع المعهد تحت مجهر قوانين مكافحة الانعزالية التي أقرها ماكرون سنة 2021، قائلاً بوضوح إنه "لا مكان في فرنسا لمؤسسات تكوّن أئمة خارج الإطار المدني والعقلاني الذي تريده الجمهورية".
صحيفة لا كروا لاحظت مفارقة لافتة؛ فالجهة التي تدّعي الانفتاح ما زالت تدرّس الفقه المقارن وفق منهجيات تقليدية، وتدرج في برامجها مواد عن القانون الفرنسي وحقوق المرأة، لكن دون توضيح كاف لكيفية تقديم هذه المواضيع أو المرجعيات الفكرية المستعملة. وهو ما دفع كثيرين للتساؤل عما إذا كان المعهد مجرد غطاء تربوي لتيارات أصولية أكثر خطورة من ظاهرها.
ويشير مراقبون إلى أن هذه القضية تندرج ضمن ما يصفونه بـ"المعركة المعقدة" ضد الإسلام السياسي الناعم، إذ انتقلت جماعة الإخوان المسلمين من المنابر الدعوية المباشرة إلى استراتيجية التغلغل عبر المؤسسات التعليمية والكوادر "المعتدلة ظاهريًا".
انتقلت جماعة الإخوان المسلمين من المنابر الدعوية المباشرة إلى استراتيجية التغلغل عبر المؤسسات التعليمية والكوادر "المعتدلة ظاهريًا"
الخبير في الحركات السلفية والمتطرفة الدكتور رومان كاييه، الباحث المقيم في ليون، صرّح، لصحيفة "العين الإخبارية"، بأن "ما نراه اليوم هو سلفية إخوانية هجينة تتخذ شكل المعاهد التعليمية وتستغل فراغ الدولة في تكوين الأئمة". وأكد أن المعهد قد لا يدرّس أفكارًا تكفيرية صريحة، لكنه "يعيد إنتاج منظومة دينية تفضّل الانتماء الديني على المواطنة وتشوّه مفاهيم العلمانية وحقوق المرأة من الداخل".
كاييه حذّر من التأثير طويل الأمد لهذه المؤسسات، معتبرًا أن "الخطاب المتشدد لم يعد يأتي فقط من دعاة المنفى أو المتطرفين، بل من خريجي معاهد تقدم نفسها منفتحة، بينما تعزز ثقافة انفصالية".
من جهتها، أوضحت بريجيت مارشال، أستاذة علم الاجتماع المتخصصة في سوسيولوجيا الأديان، لـ"العين الإخبارية"، أن المعهد "تجلٍّ كلاسيكي لمقاربة الإخوان الناعمة"، حيث يتم تقديم خطاب محافظ في ثوب الاعتدال، لكنه يرسخ ذهنية موازية للقيم الجمهورية.
واعتبرت أن خطره لا يكمن بالدعوة العلنية للعنف، بل في "ترسيخ نموذج انعزالي يهيئ التربة للفكر المتطرف".
في ضوء ذلك، دعت مارشال إلى مساءلة المرجعيات الفكرية لهذه المؤسسات، متسائلة: "هل يدرسون أدبيات يوسف القرضاوي وسيد قطب؟ وهل الهدف احترام الجمهورية أم التحايل عليها؟".