فتش عن الماسونية

فتش عن الماسونية

فتش عن الماسونية


03/07/2025

توفيق السيف

المجتمع العربي بحاجة إلى التخلص من «عقدة الضحية»، أي الاعتقاد أنه يقع دائماً في الجانب الضعيف والمظلوم من أي معادلة سياسية أو اقتصادية تنشأ على الساحة الدولية. هذه العقدة هي السبب وراء كثرةِ حديثنا عن مؤامرات الأعداء، وتضخيمِنا قوتهم، وتقبّلنا المفرط الحلول السحرية والغيبية واللامادية بشكل عام.

المصابون بهذه العقدة لا يبحثون عن أسباب المشكلة، ولا يستمعون لمن ينفي هواجسهم أو يقترح حلولاً لِعلّتهم، بل يركزون على «النيات» والإرادات الخفية التي يقطعون بوجودها في نفوس أعدائهم. ولو سألتَ الذين يبشرون بتلك المؤامرات الخفية، لأجابوك من دون انتظار: «وهل تتوقع أن يعلن العدو نياته على رؤوس الأشهاد؟»... أي إن إقرارهم بالجهل بحقيقة ما يكتمه العدو، يتحول خلال لحظات إلى ادعاء العلم بالمكتوم... وهذا من أعجب العجب.

وأذكر أننا مررنا بحقبة كانت فيها كل خيباتنا التي تحققت، أو التي يُنتظر أن تتحقق في المستقبل، تُعلَّق على مشجب «الماسونية». ويؤكد أصحاب هذه الرؤية الكسيحة دائماً على الإمكانات الضخمة للماسونية، وقدرتها على النفوذ إلى أصعب المواقع، حتى إنها لم تترك شخصاً مؤثراً، ولا شخصاً تتوسم فيه قوة التأثير في المستقبل، في شرق العالم وغربه، إلا وجنّدته ووجّهته لهدم الإسلام وتدمير بلاد المسلمين.

وصدرت عشرات من الكتب التي لو صدقت الأقاصيص المروية فيها، لكانت الماسونية اليوم أقوى من الولايات المتحدة وحلف «الناتو» والصين واليابان مجتمعة. وتضم قوائم الأعضاء في الخطة الماسونية التي ذكرتها تلك الكتب أسماء لرؤساء دول ومنظمات دولية وقادة جيوش ووزراء وعلماء واقتصاديين وأكاديميين، وحتى قادة للمؤسسة الدينية في مختلف الأديان.

والعجيب أن عقدة الضحية تلك تتوازى، في كثير من الحالات، مع تفخيم الذات وتعظيمها والتفاخر على الغير. وقد حضرتُ نقاشات ظهرت فيها هذه الازدواجية بشكل كاريكاتوري. وأذكر مثلاً ندوة في الكويت تحدث فيها أستاذ جامعي عن مفاخر المسلمين وسبقِهم في العلم، فسأله أحد الحاضرين عن سبب انقطاع الحركة العلمية القديمة وانفصال العرب المعاصرين عنها، فقال المتحدث إن السبب هو مؤامرات الغرب، الذي لا يسمح للعرب بركوب قطار الحضارة، خشية أن يستقلوا بأنفسهم فيكونوا أقوى منه. وسرد عدداً من الشواهد وأسماء العلماء، الذين قال إن الغرب اغتالهم، بعدما رفضوا الانضمام إليه.

لعل القراء الأعزاء قد سمعوا كلاماً كهذا أو قرأوه. ولعل بعضهم قد أدرك التناقض بين جزأي الحديث: الجزء الذي يدعي السبق إلى العلم، والجزء الذي يدعي أن الغرب يمنعنا من مواصلة البحث العلمي أو التقدم في مجال العلم.

أقول إنه متناقض؛ لأن العلم ليس الكتب التي يُدعى أن التتار قد أغرقوها في دجلة، أو العلماء الذين يقال إنهم قتلوا على أيدي هؤلاء أو على أيدي غيرهم. إن أردتم الدليل فانظروا إلى اليابان وألمانيا اللتين دمرت مدنهما ومصانعهما ومدارسهما في الحرب العالمية الثانية، لكنهما عادتا أقوى وأعلى تقدماً مما كانتا، في مدة تقل عن 30 عاماً. لقد انتهت الحرب في 1945، وفي بداية السبعينات، كان الإنتاج العلمي والصناعي في كل منهما، منافساً للدول الغالبة، أي الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا.

العلم لا يندثر بحرق الكتب أو موت العلماء، إلا إذا كان محصوراً في نخب محدودة، ونعلم أن هذا لا يقيم حضارة. العلم الذي نتحدث عنه هو الذي يخلق مجتمع المعرفة، أي المجتمع الذي تسوده روحية المعرفة ومعايير العلم في تفكيره وأعماله.

وخلاصة القول؛ إن إلقاء المسؤولية في تخلفنا على مشاجب الآخرين، أعداء أو غيرهم، ليس سوى تمظهر لعقدة الضحية التي تجعل الإنسان راضياً عن نفسه، باحثاً عن السلوى في قصص الظلم أو في ممارسة الظلم على من يظنه أضعف منه، وأظننا جميعاً قد شهدنا حوادث تجسد هذه الحالة قليلاً أو كثيراً.

الشرق الأوسط




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية