العنصرة بعيون النساء: حضور غائب في الأيقونة التقليدية، حاضر في الروح

العنصرة بعيون النساء: حضور غائب في الأيقونة التقليدية، حاضر في الروح

العنصرة بعيون النساء: حضور غائب في الأيقونة التقليدية، حاضر في الروح


10/06/2025

في يوم الخمسين، عندما حلّ الروح القدس على المؤمنين، كان الجميع حاضرين: الرجال والنساء، والتلاميذ والتلميذات. ومع ذلك كثيرًا ما تُغفل هذه الحقيقة في التقليد التصويري الشرقي. فالأيقونات الأرثوذكسية الكلاسيكية تُظهر العنصرة كمشهد يضم التلاميذ الاثني عشر، وأحيانًا العذراء مريم، من دون أثر لوجود النساء اللواتي ذكرهنّ العهد الجديد صراحة.

في أعمال الرسل (1: 14)، يقول الإنجيلي لوقا:

"هؤلاء كلهم كانوا يواظبون بنفس واحدة على الصلاة والطلبة، مع النساء، ومريم أم يسوع، ومع إخوته."

الجماعة الأولى، جماعة العلية، لم تكن جماعة ذكورية محضة، بل كانت جماعة مختلطة من: رجال ونساء، وإخوة وأخوات، جميعهم معًا في الصّلاة، بنفس واحدة، منتظرين عطية الروح.

وفي يوم الخمسين، يقول النص اليوناني (أعمال 2:1):

"Καὶ ἐν τῷ συμπληροῦσθαι τὴν ἡμέραν τῆς Πεντηκοστῆς, ἦσαν πάντες ὁμοῦ ἐπὶ τὸ αὐτό."

أي: "وكانوا جميعًا معًا في المكان نفسه."

كلمة "πάντες" (παντες) في اليونانية تعني "الجميع" وتشمل الرجال والنساء، لا كما تفهمها بعض الترجمات العربية التي تترجمها إلى "الرسل" أو "التلاميذ" فقط، مما يهمّش الحضور الأنثوي، ويجعله غائبًا في الذهن الجمعي والذاكرة الليتورجية.

الغائبون في الأيقونة... والحاضرون في الإنجيل

ما يُثير التساؤل هو أنّ بعض الأيقونات التقليدية أدرجت شخصيات لم تكن حاضرة في الحدث بحسب الروايات الإنجيلية ـ مثل بولس، أو مرقس، أو لوقا ـ رغم أنّ بولس لم يكن حتى قد آمن بعد، ولوقا لم يكن من التلاميذ في تلك المرحلة.

بينما تغيّبت نساء تمّ ذكرهنّ بوضوح: مريم المجدلية، مرثا، طابيثا، سوسنة، والعديد من النساء اللواتي تبعن يسوع منذ الجليل (لوقا 8: 1-3)، واللواتي كنّ أول من شهد القبر الفارغ والبشارة بالقيامة.

هل هذا الإقصاء متعمد؟ ربما لا، لكنّه يعكس ذهنية متوارثة، ترى أنّ الحدث الروحي الكبير لا بدّ أن يتمّ عبر الرجال فقط. وتُصبح الأيقونة عبئاً على رسالتها حين تتحول من لغة روحية جامعة إلى أداةٍ تُكرّس التفاوت وتعيد إنتاج التهميش.

أيقونة معاصرة... رؤية بديلة

أمام هذا التهميش البصري، جاءت محاولة فنية جديدة تضيء الحضور الأنثوي في العنصرة، في أيقونة رسمتها الفنانة ماري جين ميلر من الطائفة الأنكليكانية.

في هذه الأيقونة، نرى جماعة مختلطة: تلاميذ ونساء يجلسون سويًا في شكل دائري، لا هرمي، مستعدين لاستقبال الروح.

النساء الظاهرات في الأيقونة يشملن: مريم المجدلية، طابيثا، مرثا، سوسنة، صالومي، وحتى الأم تريزا كممثلة للقداسة الحديثة، وهو ما يعكس فهمًا رمزيًا يربط بين الماضي الرسولي والحاضر الكنسي.

مغزى هذه الأيقونة لا يتعلق بتحديد الأسماء، بل برسالة جوهرية:

إنّ الروح القدس لا يتحيز ولا يفرّق، بل يهب نِعَمه للجميع ـ رجالًا ونساءً ـ، في كلّ مكان وزمان.

 لا "نصيب أفضل" للرجل فقط

عندما قال يسوع لمريم: قد اختارت النصيب الأفضل الذي لن يُنزع منها" (لوقا 10: 42)، لم يكن مجرد مدح لشخصها، بل إعلانًا مبدئيًا بأنّ للمرأة الحقّ في الجلوس عند قدمي الرب، في السّماع، وفي الفهم، وفي الحضور اللّاهوتي، تمامًا كما للرجل.

ويوم العنصرة، نال الجميع "قوة من العلاء". وهذه القوة، كما وعد يسوع، ليست حكرًا على فئة واحدة، بل للجميع:

"ويكون في الأيام الأخيرة، أنّي أفيض من روحي على كل بشر، فيتنبأ بنوكم وبناتكم..."(أعمال 2: 17). 

إنّها كنيسة العنصرة، لا كنيسة السلطة أو الامتياز الذكوري.

كنيسة يولد فيها الجميع من الروح، ويُدعون إلى الشهادة والخدمة، لا بحسب الجندر، بل بحسب الإيمان.

 نحو لاهوت منفتح

ليس هدفنا من هذا الطرح مهاجمة التقليد أو تحطيم الرموز، بل إعادة قراءتها بعيون جديدة، بعيون الروح الذي يجدّد كل شيء. الأيقونة ليست صورة جامدة بل نافذة نحو السماء، وإذا ما أقصت نصف الكنيسة، فإنّها تحتاج إلى إعادة رسم.

نحتاج إلى لاهوت يصغي للمرأة، ولذاكرتها، ولصوتها، لاهوت لا يخشى الاعتراف أنّ النّساء، عبر القرون، حملن الإيمان في قلوبهن وبيوتهن وكنائسهن، وكنّ ركنًا أساسيًا في حفظ التعليم والروحانية.

التاريخ يشهد أنّ كثيرًا من المدافعات عن الإيمان في زمن الاضطهاد ومحاربة الأيقونات كنّ نساء، بينما شارك رجال كُثر في قمع الروح. هذه ليست دعوة إلى الصراع، بل التذكير بأنّ الروح لا يسكن بحسب التصنيفات البشرية، بل بحسب القلب المستعد لقبوله.

  الروح ما زال يهبّ حيث يشاء

إنّ كنيسة اليوم، لكي تكون كنيسة عنصرة حقيقية، عليها أن تعيد الاعتبار لهذا الحضور الأنثوي الذي بدأ منذ العلية، لا في الكتب فقط، بل في الأيقونة، وفي التعليم، وفي القيادة، وفي الشهادة اليومية. لا نطلب قلب الأدوار، بل استعادة التوازن، والنظر بإنصاف إلى "جميع الذين كانوا معًا" في البداية، وإلى "جميع الذين هم أعضاء في الجسد الواحد".

"مباركٌ أنت أيّها المسيح إلهنا، يا من أنرت الكلّ بحكمتك، وجمعت المفترقين إلى وحدة، وأعطيت الحياة لجماعتك بروحك القدوس".




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية