الشيخ والمريد... بين سطوة الرمز وظمأ الأتباع

الشيخ والمريد... بين سطوة الرمز وظمأ الأتباع

الشيخ والمريد... بين سطوة الرمز وظمأ الأتباع


09/04/2025

العلاقة بين الأفراد المنتمين إلى التنظيمات والتيارات الإسلامية المختلفة وبين قادة ورموز هذه التنظيمات علاقة لها طابع خاص، فهي ليست فقط علاقة تلميذ بمعلم، أو علاقة مرؤوس برئيس، أو علاقة محبّ لعالم أو شيخ، وإنّما هي علاقة أعمق من ذلك ولها أبعاد مختلفة، فهي علاقة تقوم في الأساس على العاطفة والحب الشديد، والتبعية والثقة التي تجعل الفرد يعظم من الإيجابيات ويتغافل عن العيوب والسلبيات، ولا شك أنّ علاقة بهذه الطبيعة تثير العديد من التساؤلات حول أسبابها ودلالاتها ونتائجها.

كيف يرى الإسلاميون رموزهم؟

يوجد تشابه، إلى حد كبير، بين الإسلاميين بمختلف انتماءاتهم من حيث طبيعة العلاقة التي تربطهم بقاداتهم ورموزهم الدينية، سواء كانت علاقة تنظيمية تربط بين عضو في جماعة وبين قياداتها، أو علاقة تربط بين فرد ينتمي إلى تيار سائل وبين رموز وشيوخ هذا التيار؛ ففي كل الأحوال العلاقة تحكمها السيطرة من جانب والخضوع من جانب آخر، وتحيط بالنظرة إلى هؤلاء القادة والرموز هالة من القداسة والتعظيم، التي يعمل هؤلاء القادة والرموز على ترسيخها وتدعيمها من أجل امتلاك القدرة على التأثير وتعزيز المكانة التي يتمتعون بها في المجتمع.

فعن نظرة الإخوان لقادتهم نأخذ مثالًا ممّا قاله المرشد الرابع للجماعة عمر التلمساني في كتابه (ذكريات لا مذكرات) عن حسن البنا: "وأمّا ما يحدث في كل جماعة أو حزب أو مجتمع، فقد كان لبعض الإخوان آراء واقتراحات تتعارض مع فريق آخر، ولكنّي ـ بحمد الله ـ كنت بعيدًا عن هذه الخلافات كلها، وكنت أرى وأسمع وأفكر بعين فضيلته وأذنيه وعقله، لثقتي المطلقة في صواب كل ما يرى، وقد يكون في هذا شيء من الخطأ أو إلغاء الشخصية عند بعض الناس، ولكنّي كنت معه كالميت بين يدي مغسّله، وكنت سعيدًا بهذا كل السعادة"، كما قال أيضًا في موقع آخر: "إنّ حسن البنا هو أستاذ الجيل، سواء أقررتم أو أنكرتم... حسن البنا أخلد على الزمن، بفضل الله، أستاذكم جميعًا، أدّى للإسلام والمسلمين ما لم يؤده أحد منذ مئات السنين"، وقد شبّه الشيخ أبو الحسن الندوي مقتل البنا بعقر ناقة سيدنا صالح، فكما أنّ عقر الناقة جلب على ثمود عذاب الله لهم بالطاغية، فإنّ مقتل حسن البنا قد جلب على المسلمين عامة، وأهل مصر خاصة، الويلات والمصائب والنكبات! 

مؤسس جماعة الإخوان المسلمين: حسن البنا

ويضع السلفيون كذلك رموزهم وعلماءهم في منزلة كبيرة، ويرسمون حولهم هالة من القداسة تجعلهم أقرب للتابع منه إلى المحب أو طالب العلم، وتُسهم بعض أقوال السلف في ترسيخ تلك المنزلة، ومن الأمثلة التي يذكرها رموز التيار السلفي في كتبهم ومحاضراتهم حول هذا الأمر ما قاله الإمام أبو حنيفة: "إن لم يكن أولياء الله في الدنيا والآخرة الفقهاء والعلماء، فليس لله وليّ"، وقول ابن الجوزي: "أقرب الخلق من الله العلماء"، وقول ربيعة بن عبد الرحمن: "الناس في حجور علمائهم كالصبيان في حجور آبائهم"، كما يقول الشيخ سعد الششري عضو هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية: إنّ "الحاجة إلى العلماء تتزايد وذلك لعدد من الأمور؛ منها كثرة أعداد المسلمين، وكل من هؤلاء يحتاج إلى من يرشده ويفقّهه ويفتيه، وليكشفوا الشبهات التي تلقيها الشياطين، والفقيه الواحد أشدّ على الشيطان من ألف عابد، لأنّه يزيل شبهات الشياطين، كما أنّ كثرة الفتن على الناس تجعلهم بحاجة إلى العلماء، فلا يحرك الناس للخلاص أحد مثل علماء الشريعة". ويرى السلفيون أنّ العلماء يتصفون بصفة "الربانية"، وهي صفة تضفي عليهم هالة من القداسة، وتجعلهم في نظر الأتباع كأنّهم متحدثون باسم الإله، ويقول ابن عثيمين: "الربانيُّون هم الذين جمعوا بين العلم والتربية"، وعن طريقة تعامل الأفراد مع العلماء والشيوخ يقول الشيخ سعد الشثري أيضًا: "النصيحة للعلماء تكون بمحبتهم، وتوقيرهم، ومعرفة مكانتهم، ورفع منزلتهم، والصدور عن آرائهم، والرجوع إليهم فيما يشكل على الإنسان من مسائل شرعية ودينية، والرجوع حال الفتن إليهم، ليصدر الناس عن آرائهم، وبنشر فتاواهم وأقوالهم بجميع وسائل النشر، واحتساب الأجر في طبع كتبهم"، ويقول الشيخ بكر أبو زيد أحد علماء المملكة العربية السعودية: "العلماء، لما لهم على العامة والخاصة من فضل في تعليم الناس الخير ونشر السنن وإماتة الأهواء والبدع، فهم قد أُوتوا الحكمة يقضون بها ويُعلمونها الناس، ولم يتخلفوا في كهوف القعدة الذين صرفوا وجوههم عن آلام أمتهم، لهذا كله صار من الواجب على إخوانهم الذبُّ عن حرماتهم وأعراضهم. وعن التعامل مع أخطاء العلماء يقول الإمام الذهبي: "الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه، وعلم تحرِّيه للحق، واتسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعرف صلاحه وورعه أتباعه، يغفر له زلَّته ولا نضله ونطرحه، وننسى محاسنه، نعم لا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك، وإذا أخطأ إمام في اجتهاده، لا ينبغي لنا أن ننسى محاسنه، ونغطي مغارفه، بل نستغفر له، ونعتذر عنه"، ويقول الحافظ ابن عساكر كذلك: "اعلم أنّ لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في حق هتك أستار منتقصيهم معلومة"، ويقول ابن عثيمين: "غيبة العلماء أعظمُ إثمًا وأكبر جُرمًا، وأشدُّ قبحًا من غيبة العوام، لما يترتب على ذلك من الاستخفاف بالشريعة التي يحملها العلماء".

كما يحتل الشيخ عند الصوفية مكانة كبيرة في نظر المريدين، ويصفه الإدريسي في كتابه "معجم مصطلحات التصوف الفلسفي" بأنّه "هو الذي سلك طريق الحقّ، وعرف المخاوف والمهالك، وهو الإنسان الكامل في علوم الشريعة والطريقة والحقيقة، البالغ إلى حدّ التكميل فيها لعلمه بآفات النُّفوس وأمراضها وأدوائها، ومعرفته بدوائها وقدرته على شفائها والقيام بهداها، فهو قدسيّ الذات والصفات"، "وقد اعتبر صوفيّة المغرب الإسلامي المتأخرون المشيخة الصوفية من أعلى المراتب الروحيّة، واعتبروا اتخاذ الشيخ شرطًا أساسيًا لسلوك الطريق الصوفي، وأنّ من لا شيخ له فشيخه الشيطان، كما تلعب الكثير من القصص التي تحكي عن كرامات مشايخ الصوفية دورًا في ترسيخ صورة ذهنية حولهم تجعلهم في نظر الأتباع أبطالًا خارقين، ممّا يسهم في إضفاء هالة من القداسة حولهم، وتصف أسماء خوالدية هذا الدور في كتابها "الفَكَه في قصص كرامات الصوفية"، وترى أنّ كل ما في التصوف من سرد وحوادث وحبكة وشخوص وزمان جاء لغاية واحدة مدروسة لا تحيد عنها، وهي إعطاء الولي الصوفي الدور البطولي المبهر والقدرات الخارقة لسنن الكون. وعلى الجانب الآخر يوجد المريد الذي يتبع الشيخ الصوفي ويتلقى منه العلم ويحدد له الطريق الذي يوصله إلى الإله، فلا بدّ للمريد من شيخ مرشد إلى الحق يوجهه ويلقنه العلوم الشرعية والمعارف القلبية ليصل إلى مقام الولاية، وعن طبيعة العلاقة بين الشيخ والمريد يقول عبد الله الحمودي في كتابه "الشيخ والمريد": إنّ على المريدين والأتباع أن يلزموا في حضور الشيخ وضع الإجلال ويُبدوا الخشوع التام معبّرين عن ذلك باستخدام الحركات الجسدية مثل الإطراق التام والجلوس على هيئة القرفصاء وعدم المزاح، والامتناع عن الكلام بدون إذن الشيخ، كما يجب على المريد أن يقبل مشاعر الهيمنة والسيطرة عليه من جانب الشيخ، وأن يشعر بأفضليته وتميزه عنه، والتفاني في الخدمة وإبداء الخشوع والإخلاص والتبعية له، وعدم التصرف بالنفس والمال إلا بمراجعته، وحفظ أسراره عن الجميع إلا عنه، وأن يتنازل عن إرادته والخضوع لإرادة الشيخ وإبداء الولاء والطاعة العمياء والتعلق الكلي به.

يضع السلفيون كذلك رموزهم وعلماءهم في منزلة كبيرة، ويرسمون حولهم هالة من القداسة تجعلهم أقرب للتابع منه إلى المحب أو طالب العلم

حول أسباب تلك النظرة، ونتائجها

تسهم في صناعة هذه العلاقة ذات الطبيعة الخاصة بين أفراد التيار الإسلامي وبين قادتهم ورموزهم عدة عوامل؛ من أهمها تلك الثقافة الموروثة التي تسيطر على المجتمعات الإسلامية والتي تجعل من أقوال علماء السلف مُسلّمات وثوابت تحكم نظرة الأفراد إلى الرموز الدينية سواء كانوا قادة حركيين أو علماء شريعة أو شيوخًا ووعاظًا عاديين لا يمتلكون من العلم الكثير، كما أنّ تلك العلاقة تمثل أحد مظاهر الثقافة الأبوية الراسخة في المجتمعات العربية والحاكمة للشخصية العربية والمحددة لأنماط كثيرة من العلاقات في مجتمعاتنا. وتتسم الثقافة الأبوية، وفقًا للمفكر الفلسطيني هشام شرابي، بعدة سمات؛ منها أنّها تفضل الأسطورة على العقل، والخطابة على التحليل، والنقل على الإبداع، وهي سمات تجعل من السهل لتلك الرموز الدينية، التي تتمتع بالكاريزما المستمدة من الدين الذي تمثله، السيطرة على الأفراد بدرجة كبيرة.

ومن العوامل التي أسهمت في صناعة تلك العلاقة كذلك حالة الضعف والهزيمة التي يشعر بها المنتمون إلى التيار الإسلامي، والتي تنتج عن نظرتهم للمجتمعات الإسلامية على أنّها ابتعدت عن الإسلام وافتقدت إلى القوة المادية التي جعلت الغرب يسيطر عليها، وأنّه يجب العمل على استعادة نموذج متخيل للدولة الإسلامية كما كانت عليه في صدر الإسلام، وهذا يجعل أفراد هذا التيار ينظرون إلى الرموز الدينية على أنّهم يقومون بدور المنقذ الذي يقود الفئة المؤمنة نحو إقامة ذلك المجتمع المنشود، فتلك الرموز تمتلك في نظر الإسلاميين المعرفة الدينية الصحيحة، وتمتلك من ثمّ شرعية تمثيل الدين في ظل واقع ابتعد كثيرًا عن الإسلام فهمًا وتطبيقًا، أيضًا فإنّ تلك الرموز تلعب في نظر الأفراد المنتمين لهذا التيار دور البطل الذي يدافع عن الدين ويحارب من أجله ضد الأعداء والمتآمرين عليه من جميع القوى الداخلية والخارجية، كما أنّ المحن التي يتعرّض لها بعض هؤلاء الرموز من سجن وتضييق وهجرة قسرية... إلخ، تُسهم في صنع هالة القداسة حولهم وتجعلهم أكثر قدرة على التأثير والسيطرة على الأتباع.

وتُسهم الطبيعة التي تتميز بها تلك العلاقة في عدة نتائج؛ منها الضعف الذي تتميز به شخصية الفرد المنتمي لذلك التيار، وفقدان الثقة في الذات، والانغلاق عليها، وعدم القدرة على استخدام العقل، والحاجة دومًا إلى شخص آخر يسير خلفه مطمئنًا ملقيًا بمسؤولية التفكير واتخاذ القرارات وتحديد المسارات عليه، وعدم قدرة الفرد على رؤية أخطاء وعيوب التيار أو الجماعة التي ينتمي إليها والرمز الذي يتبعه، كما تجعله أكثر تعصبًا تجاه أيّ نقد للقادة والرموز التي يرتبط بها، وتجعل نظرته أحادية تجاه كلّ الأمور بشكل عام.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية