
يسعى تنظيم (داعش) خلال الأشهر الأخيرة إلى التركيز على الساحة السودانية، في محاولة من جانبه لإعادة التموضع وإنشاء نقطة ارتكاز جديدة في الداخل السوداني، وذلك بحسب دراسة حديثة صادرة عن (مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية)، للباحث أحمد كامل البحيري، تحت عنوان: "هل يسعى داعش إلى غلق الدائرة في السودان؟".
وقد عبّر التنظيم عن ذلك في رسالته الأخيرة، التي وجّهها عبر صحيفة (النبأ) في 23 كانون الثاني (يناير) 2025، بعنوان "السودان المنسي"، والتي دعا فيها عناصره في دول الجوار السوداني إلى إعادة الارتكاز والتموضع وتفعيل نشاط التنظيم والتواجد في الداخل السوداني، على نحو يطرح العديد من التساؤلات حول أسباب تركيز تنظيم (داعش) على التطورات التي طرأت على الساحة السودانية للمرة الثالثة على التوالي في أقلّ من عام، ودوافع إصدار تلك الرسالة في هذا التوقيت تحديداً؟
آفاق العودة
حاول تنظيم (داعش) خلال الفترة الماضية إيجاد موطئ قدم في الداخل السوداني، وذلك عبر عدّة أمور رئيسية، ومنها الاستقطاب والتجنيد، فقد دعا التنظيم، في العديد من الرسائل التي أصدرها، العناصر المتعاطفة معه من السودانيين إلى تنفيذ عمليات إرهابية، وذلك في الرسائل التي صدرت في افتتاحيات صحيفة (النبأ) التابعة له.
الأمر الذي تمّت ترجمته بشكل سريع عبر محاولة بعض العناصر تنفيذ عملية إرهابية في السودان نجحت أجهزة الأمن السوداني في 28 أيلول (سبتمبر) 2021 في إحباطها، وإلقاء القبض على (15) شخصاً من جنسيات مختلفة، وذلك بإحدى البنايات في ضاحية جبرة والأزهري جنوب العاصمة الخرطوم قبل تنفيذ إحدى العمليات الإرهابية.
وسبق ذلك إعلان الأجهزة الأمنية في 7 شباط (فبراير) من العام نفسه الكشف عن إحدى الخلايا النائمة التابعة للتنظيم في منطقة "صوامع الغلال" بولاية القضارف الواقعة شرقي البلاد، وذلك بعد أن رصدت قيام عدد من العناصر النشطة على موقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك) بنشر مقطع فيديو يرفعون فيه علم داعش، ويعلنون عزمهم إنشاء إمارة جديدة تحت إمرة وولاية زعيم واحد لكل دول العالم، وهو المسار نفسه الذي يسعى التنظيم عبر رسالته الأخيرة التي نشرت بالعدد (479) بصحيفة (النبأ) إلى تكراره.
الأمر الآخر، بحسب الباحث أحمد كمال، يتمثل في إعادة الهيكلة التنظيمية، ومنذ أن تولى أبو حفص الهاشمي القرشي قيادة التنظيم، أعلن عن استراتيجية جديدة تحت عنوان "استراتيجية الأرض السوداء"، التي يركز من خلالها على أفريقيا باعتبارها نقطة الارتكاز والانطلاق والتمدد للتنظيم خلال عام 2025، عبر إعادة الانتشار وإحداث اختراقات جديدة للتنظيم في بعض الدول والمناطق.
وكانت دولة السودان إحدى أهم النقاط المستهدفة للتنظيم، التي يعدّها بمثابة "الجائزة الكبرى" خلال عام 2025، وقد قام بتكليف الإرهابي (أبو بكر العراقي) بقيادة التنظيم في السودان، والذي قام خلال الأشهر الماضية بإنشاء نواة للتنظيم بالداخل السوداني، ويكشف تحليل مضمون الصور المنشورة لأعداد التنظيم بالداخل السوداني عن تزايد عدد المنضمين حتى الآن، وتتحدث بعض التقديرات عن حوالي (150) إلى (300) عنصر إرهابي داعشي في الداخل السوداني.
ما دوافع التنظيم؟
بحسب الدراسة، تعكس الرسالة الأخيرة للتنظيم اهتمامه بتحويل السودان إلى نقطة انطلاق له للتخطيط لشنّ وارتكاب عمليات إرهابية جديدة، سواء داخل السودان أو في دول الجوار. وفي هذا الإطار يمكن تفسير تصاعد اهتمام تنظيم (داعش) بتعزيز نشاطه في البلاد في ضوء اعتبارات عديدة هي:
أوّلاً: السيولة الأمنية، وتعاني البلاد من حالة سيولة أمنية، نتيجة الأدوار التي تقوم بها قوات الدعم السريع، فخلال الشهرين الأخيرين ازدادت حدة الاشتباكات المسلحة في عدد من الولايات السودانية، قبل أن تنجح قوات الجيش السوداني في تحقيق انتصارات نوعية على قوات الدعم السريع خلال الفترة الأخيرة.
وعلى الرغم من ذلك، فإنّ حالة السيولة الأمنية شجعت العناصر الموالية للتنظيم على تشكيل خلايا تابعة له تؤمن بأفكاره وتوجهاته الإيديولوجية في الداخل السوداني.
ثانياً: استقطاب عناصر جديدة، ويسعى دائماً تنظيم (داعش) إلى استغلال تصاعد حدة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية من أجل استقطاب عناصر جديدة للانضمام إليه، ويعتبر ذلك إحدى أهم الأولويات التي يعمل عليها خلال المرحلة الجارية، لا سيّما في ظل تراجع عدد العناصر التي انضمت إليه خلال المرحلة التي أعقبت سقوط مدينة الباغوز السورية في آذار (مارس) 2019، وتعرّضه لضربات أمنية قوية، ومنها مقتل (4) من قياداته الرئيسية في أقلّ من (4) أعوام منذ مقتل قائده السابق (أبو بكر البغدادي) في محافظة إدلب في 27 تشرين الأول (أكتوبر) 2019، خلال العملية العسكرية التي شنتها الولايات المتحدة الأمريكية.
ثالثاً: تأسيس دائرة "داعشية" جديدة، فقد تزايد اهتمام التنظيم المركزي لـ تنظيم (داعش) بتعزيز وجوده في القارة الأفريقية، وهو ما يمكن ملاحظته في إنشاء التنظيم (5) أفرع تشكل ما يمكن تسميته بــ "الهلال الداعشي"، الذي يبدأ من منطقة الساحل الأفريقي ويمتد إلى غرب أفريقيا مروراً بوسط أفريقيا وموزمبيق وصولاً إلى الصومال. ومن هنا يعتبر التنظيم أنّ دولة السودان تمثل نقطة "غلق الدائرة"، كما تمثل محوراً رئيسياً للربط بين الأفرع الـ (5) في أفريقيا.
ويعني ذلك، وفق الباحث، أنّ التنظيم يرى أنّ دولة السودان تمثل ممراً له من الصومال بشرق أفريقيا إلى فرعه في غرب أفريقيا ومنطقة الساحل والصحراء الأفريقية وصولاً إلى وسط أفريقيا، على نحو يوحي بأنّ تركيز التنظيم المركزي على السودان خلال المرحلة الجارية نابع من سعيه إلى استكمال الاستراتيجية التي أعلن عنها مؤخراً وتقضي بإنشاء "دائرة داعشية أفريقية".
رابعاً: الاقتراب من البحر الأحمرو يبدي تنظيم (داعش) منذ تأسيسه في عام 2014 اهتماماً خاصاً بالاقتراب من الممرات الملاحية، وخاصة مضيق باب المندب والبحر الأحمر، وذلك في محاولة من جانبه للتأثير على طرق الملاحة وخطوط المواصلات العالمية، وبشكل خاص ناقلات النفط. ويفسر ذلك، إلى حد كبير، تركيز التنظيم خلال الأعوام الماضية على محاولة تعزيز نفوذه في كل من الصومال واليمن وجيبوتي.
ومع تراجع قدرات تنظيم (داعش) في اليمن منذ منتصف العام الماضي، وتصاعد نفوذ حركة "شباب المجاهدين" في الداخل الصومالي، وفشل التموضع في جيبوتي، يسعى التنظيم خلال المرحلة الجارية إلى إعادة تعزيز نشاطه في الداخل السوداني، بهدف الاقتراب من البحر الأحمر.
ويخلص الباحث إلى أنّ الرسالة الأخيرة التي وجهها تنظيم (داعش) عبر صحيفة (النبأ) وركز فيها على التطورات في السودان، تشير بوضوح إلى أنّه يتبنّى سياسة "إعادة التموضع" التي يحاول من خلالها الوصول إلى مناطق جديدة وتأسيس بؤر إرهابية يستطيع من خلالها توسيع نطاق نفوذه وتعويض الخسائر التي تعرّض لها نتيجة الهزائم العسكرية التي مُني بها، والضربات التي وجهتها القوى الدولية والإقليمية المعنية بالحرب ضده، واستهدفت من خلالها قياداته ومواقعه فضلاً عن مصادر تمويله.