
فتحي أحمد
يعد مفهوم الثورة من المفاهيم الزئبقية التي يصعب على الباحث الإمساك بتلابيب خيوطها. فقد استأثر هذا المفهوم باهتمام كبير من لدن الباحثين في علوم وحقول مختلفة وخصوصًا مجالي السياسة والعلوم الإنسانية. تُعرف الثورة بأنها تغيير وضع سيء قائم سواء كان اجتماعيّا أو سياسيا أو اقتصاديا، بالمحصلة تغيير الحالة المتردية إلى وضع أفضل. فالثورة الفلسطينية منذ أن قامت لتقارع الاحتلال الإسرائيلي قبل حوالي 6 عقود، جاءت في فلسفتها لإزالة الظلم الذي وقع على الشعب الفلسطيني والمتمثل في احتلال إسرائيل لأراضيه ومصادرة حريته. إذن، رفع الظلم هو الوضع السيء ونيل الحرية والاستقلال هما ثمرة الثورة التي طال نضوجها.
هنا لا بد من التوقف طويلاً ومطولاً. بعد توقيع اتفاق أوسلو كانت حماس سباقة لاتهام الطرف الذي وقع الاتفاقية بالخيانة، واعتبرت أوسلو تفريطًا في الحلم الفلسطيني وهو دحر الاحتلال من كل فلسطين التي احتلت عام 1948 وعام 1967. فحصلت سجالات وتبادل التهم بين قطبي الحركات السياسية على الساحة الفلسطينية، لكن سرعان ما انقلبت حماس واعترفت ضمنًا بأوسلو، وذلك من خلال مشاركتها في الانتخابات التشريعية الثانية. فرغم عدم الاعتراف علنًا بأوسلو، فإن حماس اعترفت بأوسلو بطريقة ملتوية، أي التعايش مع إفرازاتها.
إذا أضيف إلى ذلك ما بعد انقلاب حماس على السلطة الفلسطينية عام 2007، حيث أرادت السيطرة الكلية على القطاع والاستحواذ عليه تمامًا، فهذا دليل آخر على أن الحركة نظرت إلى اتفاق أوسلو على أنه ثمرة من ثمرات تحقيق الإنجازات السياسية التي حققتها الثورة الفلسطينية. ولكن تعلم حماس أو لا تعلم بأن انقلابها الذي أحدثته قبل حوالي عقدين من الزمن شرخ صفوف الكل الفلسطيني، وما زالت تداعياته إلى يومنا هذا. نحن أمام نهجين مختلفين: النهج الأول المتمثل في حركة فتح والمُصر على دولة فلسطينية على حدود السابع من حزيران وعاصمتها القدس الشرقية، والنهج الذي تتبعه حماس برفض أوسلو في ظل الوضع الحالي، لكنها في المحصلة تسعى إلى أن يكون هو الطريق إلى الدولة الفلسطينية ولكن باستحياء.
نعلم تمامًا أنه منذ توقيع أوسلو قبل ما يزيد عن ثلاثة عقود والأفق السياسي مغلق أمام تحقيق إقامة الدولة الفلسطينية. فجاءت انتفاضة الأقصى كسبيل لإقامة الدولة وإرضاخ إسرائيل للانسحاب من المناطق التي احتلتها عام 1967، ولكن لم تحقق انتفاضة الأقصى ما يصبو الشعب الفلسطيني إليه، فزادت معاناته في ظل تعنت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة وخصوصًا الحكومات التي شكلها رئيس وزراء إسرائيل الحالي بنيامين نتنياهو، وبالأخص الحكومة اليمينية المتطرفة التي تحكم اليوم.
يبدو أن حماس لم تتعلم الدرس، ولم تتحسس حركة الثورة الفلسطينية منذ تأسيسها حتى يومنا هذا، التي اصطدمت بتعنت إسرائيلي ودعم أميركي غير محدود للقرار الإسرائيلي وعالم خجول لا يقدر أن يقول لأميركا كفاك ظلمًا. أقدمت حماس ومن معها من الفصائل الفلسطينية الأخرى على اجتياح غلاف غزة لمدة سويعات قليلة، وأوهمت نفسها بأنها أحرزت نصرًا يعيد للقضية الفلسطينية مجدها. بعد صراع طويل امتد لحوالي 15 شهرًا وما حل بأهل غزة من تشتيت وترحيل وقتل وتدمير لبيوتهم، بقيت ورقة الأسرى هي المكسب الوحيد بيد حماس. فسرعان ما تنتهي هذه الورقة بعد إتمام بنود الصفقة بمراحلها الثلاث، هذا إذا كتب لها النجاح والاستمرار حتى النهاية. ولم يزل الخطر الإسرائيلي، والتخوف من معاودة استئناف الحرب في غزة وهذا سيناريو محتمل تدرسه إسرائيل بشكل جدي بعد تحرير أسراها إذا لم تنجح قضية التهجير، وهو العودة إلى القتال مجددًا والإجهاز على القطاع بشكل كلي.
ونستنتج بقدر ما هو جلي حتى الآن أن العالم المناصر للقضية الفلسطينية أمام أخطر مرحلة مرت بها القضية الفلسطينية، وهي تثبيت وقف إطلاق النار وانسحاب إسرائيل من المحاور التي احتلتها بعد السابع من أكتوبر، والأهم من ذلك وقف تهجير الغزيين من القطاع حسب خطة ترامب. إذن، العالم باستثناء الولايات المتحدة يعمل جاهدًا على إزالة تداعيات السابع من أكتوبر وعودة قطاع غزة إلى ما كان عليه قبل ذلك، فالإصرار الأميركي والإسرائيلي على ترحيل أهل غزة عقبة يصعب تجاوزها في ظل تمسك ترامب بخياره الوحيد والأوحد وهو إخلاء القطاع من سكانه وترحيلهم إلى الأردن ومصر.
على عكس ما يروج إعلاميًا، لم تكن هناك مكاسب حققتها حماس التي أخذت من رفع الظلم عن الأسرى والأقصى شعارًا لهجوم 7 أكتوبر، بل زادت الأمور تعقيدًا، وأصبحنا نطالب بالعودة إلى ما قبل الهجوم على الغلاف. لهذا علينا أن ندرك بعيدًا عن العواطف أن ما حققته حماس مؤخرًا لم يحرز تقدمًا في رفع الظلم عن الأسرى، ولم يساعد في تخفيف القيود عن رواد المسجد الأقصى، بل زادت معاناة الأسرى، وحوصر الأقصى، ومُنع المصلون من الوصول إليه بحيث تم تخفيف عددهم بشكل ملحوظ. الخلاصة، أضحت حماس اليوم تبحث عن تقليل الخسائر، أما المكاسب حسب المثل الشعبي “في علب العرائس”.
العرب