
في الشهور الأخيرة من عام 2024 اتخذت فرنسا سلسلة من الإجراءات المكثفة لمواجهة نشاط جماعة الإخوان المسلمين على أراضيها. هذا التصعيد جاء استجابة لمخاوف متزايدة من التأثير المتنامي للجماعة على الجاليات المسلمة في فرنسا وعلى النظام السياسي والاجتماعي في البلاد.
ووفقاً لتقارير حديثة، تمّ تكليف وزراء ومسؤولين بارزين، ومنهم وزيرا الداخلية والخارجية، بإجراء تحقيق شامل حول هيكل ونشاط جماعة الإخوان المسلمين في فرنسا. التقرير المتوقع تقديمه في خريف 2024 سيتناول الجوانب المتعلقة بكيفية عمل الجماعة وأساليبها في نشر أفكارها المتطرفة، بالتوازي مع الاستراتيجية الفرنسية لمكافحة "الانفصالية".
تدابير جديدة
في أيار (مايو) 2024 أعلنت الحكومة الفرنسية عن بدء تحقيق رسمي حول التأثيرات التي تمارسها جماعة الإخوان المسلمين في فرنسا، وهذا التحقيق يشمل دراسة الشبكات التي تديرها الجماعة، وعلاقاتها بفروع أخرى في أوروبا والشرق الأوسط، ومدى توافق نشاطاتها مع القوانين الفرنسية، وتعتقد الحكومة أنّ الجماعة تستغل المؤسسات التعليمية والدينية للتأثير على المسلمين الفرنسيين، خاصة الشباب منهم، وهو ما تعتبره فرنسا تهديداً مباشراً لقيمها العلمانية، ويسهم في نشر التطرف.
بالتزامن مع هذه التحقيقات، نفذت السلطات الفرنسية العديد من عمليات التفتيش والإغلاق ضد مؤسسات دينية ومدارس تعتبرها الحكومة على صلة بجماعة الإخوان، وتم إغلاق عدة مساجد ومراكز دينية بدعوى أنّها تروّج لأفكار متطرفة أو تتلقى تمويلات أجنبية مشبوهة، بالإضافة إلى ذلك، تم تفعيل عدة إجراءات مرتبطة بقانون مكافحة الانفصالية لعام 2021 لتقييد قدرة الجماعات الدينية على التأثير السياسي والاجتماعي في البلاد، ومنع التمويل الخارجي الذي يمكن أن يعزز نفوذ الإخوان.
في السياق، أصبحت مسألة تمويل الجماعات الدينية من الخارج نقطة محورية في الإجراءات الفرنسية ضد جماعة الإخوان المسلمين، وقد قامت باريس بتشديد الرقابة على الجمعيات التي تتلقى تمويلات من دول خارجية، خاصة من دول الشرق الأوسط التي تُعرف بعلاقاتها مع الجماعة، والهدف من هذه الخطوة هو تقليل النفوذ المالي الذي يساعد الجماعة على توسيع أنشطتها وتجنيد المزيد من الأفراد، وتهدف عمليات التدقيق المالي إلى تتبع المصادر المالية للجماعات التي تنشر الأفكار المتطرفة وإيقافها لمنع تدفق الأموال التي قد تُستخدم في أنشطة تتعارض مع الأمن القومي الفرنسي.
جزء من الحملة المكثفة التي أطلقتها فرنسا لمواجهة جماعة الإخوان المسلمين يشمل تفتيش المساجد والمراكز التعليمية الإسلامية. وتقوم السلطات بزيارات ميدانية متكررة لهذه المؤسسات للتحقق من الأنشطة التي تُجرى داخلها، والتأكد من أنّ المناهج التي تدرّس والأفكار التي تُنشر تتماشى مع القيم العلمانية للدولة، وقد تم ضبط مواد تعليمية وخطب يُلقيها بعض الأئمة التي تعتبرها السلطات تحمل رسائل متطرفة تدعو إلى الانفصال المجتمعي والعصيان المدني، ممّا أدى إلى إغلاق عدد من هذه المؤسسات وملاحقة الأئمة قضائياً.
في إطار تطبيق سياسات مكافحة الانفصالية، قامت الحكومة الفرنسية بحلّ العديد من المنظمات التي تُعتبر جزءاً من شبكة جماعة الإخوان المسلمين. ومن أبرز هذه المنظمات التي تمّ حلها "التجمع ضد الإسلاموفوبيا في فرنسا" (CCIF) في عام 2020، الذي اعتبرته السلطات الفرنسية يروّج لأفكار متطرفة تسهم في نشر الانفصالية المجتمعية، وتم حل هذه المنظمة رغم اعتراضات منظمات حقوق الإنسان التي اعتبرت أنّ القرار قد يكون موجهاً ضد حريات التعبير والدين، إلا أنّ الحكومة الفرنسية تؤكد أنّ هذه الخطوات ضرورية للحفاظ على النظام الجمهوري وحماية المجتمع من الأفكار التي تحرّض على التطرف.
وما سبب هذه الإجراءات؟
يرى العديد من الخبراء أنّ خطوات فرنسا الأخيرة لمواجهة جماعة الإخوان المسلمين تأتي نتيجة لتصاعد المخاوف من تأثير هذه الجماعة على المجتمع الفرنسي، وفي هذا الصدد يقول الباحث الفرنسي جيل كيبيل، المختص في شؤون الإسلام السياسي: إنّ جماعة الإخوان تسعى إلى تعزيز نفوذها في أوروبا من خلال التغلغل في المجتمعات المحلية واستغلال الثغرات القانونية، ويرى أنّ استراتيجية الحكومة الفرنسية تهدف إلى الحدّ من هذا النفوذ عبر إجراءات قانونية وأمنية صارمة، لكنّها تواجه تحديات كبيرة بسبب التوترات الاجتماعية والسياسية التي تثيرها هذه الخطوات.
من جهة أخرى، يشير كريم العمدة، أستاذ الاقتصاد السياسي، إلى أنّ النشاطات الاقتصادية المرتبطة بجماعة الإخوان تشكل جزءاً من استراتيجية الجماعة للتأثير على المجتمعات الإسلامية في أوروبا، ويرى أنّ فرنسا تعمل على مراقبة هذه النشاطات بشكل دقيق، خاصة فيما يتعلق بالتمويلات القادمة من الخارج التي قد تستخدم لدعم أفكار التطرف والانفصالية داخل المجتمع الفرنسي.
أخطر التنظيمات على الأراضي الفرنسية
يشير (المركز العربي لدراسات التطرف) في دراسة حديثة إلى أنّ فرنسا تعتبر جماعة الإخوان المسلمين واحدة من أهم التهديدات الإيديولوجية التي تواجهها في الوقت الحالي، ووفقاً للدراسة، فإنّ الجماعة تعتمد على شبكة واسعة من المؤسسات التعليمية والدينية لنشر أفكارها بين الشباب المسلمين في فرنسا، وتوضح الدراسة أنّ هذه المؤسسات، على الرغم من مظهرها الخارجي المتماسك، قد تكون أداة لتعزيز الانفصال الاجتماعي وبث الأفكار المتطرفة التي تتعارض مع القيم الفرنسية.
وتُظهر الدراسة أيضاً أنّ جماعة الإخوان المسلمين تسعى إلى خلق مجتمعات موازية داخل الدول الغربية، بما في ذلك فرنسا، وهو ما يؤدي إلى تصاعد التوترات بين المسلمين وغير المسلمين. وتشير الدراسة إلى أنّ فرنسا تحتاج إلى اتخاذ تدابير أكثر شمولاً لوقف تأثير الجماعة، بما في ذلك تعزيز الرقابة على المؤسسات التعليمية والدينية التي تديرها الجماعة، وتقييد التمويلات الأجنبية التي تصل إلى هذه المؤسسات.
وفي إطار مواجهة جماعة الإخوان المسلمين، تعمل فرنسا على تعزيز التعاون مع دول أوروبية أخرى مثل ألمانيا والنمسا، التي تشترك معها في مواجهة التحديات نفسها. وشهدت الفترة الأخيرة عقد لقاءات بين مسؤولين أمنيين من هذه الدول لتبادل المعلومات حول نشاطات الجماعة. والهدف من هذا التعاون هو وضع استراتيجية مشتركة لمكافحة نفوذ الإخوان المسلمين في أوروبا بشكل عام، خاصة مع تزايد المخاوف من تصاعد نشاطات الجماعة في ظل الأزمات السياسية والاقتصادية التي تشهدها المنطقة.
وقد بات من الواضح أنّ فرنسا تعتبر جماعة الإخوان المسلمين تهديداً خطيراً لنظامها الجمهوري، لذلك تتبنّى الحكومة الفرنسية سياسات صارمة تشمل التحقيقات، والإجراءات القانونية، والتعاون الدولي. وتحاول الحكومة الحدّ من نفوذ هذه الجماعة داخل المجتمع الفرنسي، ومع ذلك يظل هذا التحدي معقداً، لأنّ فرنسا تواجه انتقادات من بعض المنظمات الحقوقية التي تعتبر أنّ هذه الإجراءات قد تؤدي إلى تقييد الحريات الدينية وتفاقم التوترات الاجتماعية.