
الشيخ ولد السالك
في إطار تغطية قناة سكاي نيوز عربية للشأن الموريتاني؛ أعددت تقريرا ميدانيا من العاصمة الموريتانية نواكشوط عن مبادرة سياسية لدعم الرئيس الحالي المرشح محمد ولد الشيخ الغزواني (منصة الشعب)، وقلت إن المرشح ولد الشيخ الغزواني يواجه منافسة من تنظيم الإخوان المؤدلج الذي يلعب على الوتر الديني، ومرشحين آخرين يلعبون على وتر العرق.
وقد أثار توصيفي لتنظيم الإخوان ضجة واسعة بين أعضاء التنظيم، ووصل بهم الأمر لتقديم شكاية ضدي أمام السلطة العليا للصحافة والسمعيات البصرية “هابا”، وهي أعلى هيئة للإعلام في البلاد. استدعتني السلطة وأبلغتني بمضمون الشكاية، وشرحت لهم وجهة نظري التي تستند إلى أمرين أساسيين؛ الأول يتعلق بواجب الالتزام بالسياسة التحريرية لوسيلة الإعلام التي أعمل فيها، والثاني مرتبط بقناعتي الشخصية التي ترسخت لديّ بناء على حقائق وأدلة دامغة.
بعد يومين من بث التقرير، وقف مرشح حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية “تواصل” الإخونجي، حمادي ولد سيد المختار أمام أنصاره في خطابٍ ألقاه ليلة افتتاح الحملة الانتخابية، ومن ضمن ما ورد في خطابه قولُهُ إن مشروع حزبهم يسعى إلى تطبيق شرع الله وإعادة الأمل والمكانة المفقودة للعلماء وترسيخ الهوية الإسلامية، وأضاف أن مشروعهم سيخصص جزءاً ثابتا من ميزانية الدولة لتشييد المساجد وتعزيز مكانة العلماء.
ماذا يعني تطبيق شرع الله في بلد يسمى الجمهورية الإسلامية الموريتانية؟ مع العلم أن القوانين والتشريعات فيه نابعة من الشريعة وهي مرجعيتها. وماذا يعني ترسيخ الهوية الإسلامية في بلد جميع سكانه مسلمون، ومجتمع محافظ متدين في غالبه؟ وماذا تعني إعادة المكانة لأئمة المساجد وعلماء الدين، الذين يحظون بكامل الاحترام والتقدير في مجتمع مسلم، ودولة تحترمهم وتقدرهم وتعطيهم المكانة اللائقة؟
كل ذلك يعني أمرا واحدا فقط، وهو اللعب على وتر الدين والعاطفة الدينية للشعب، واستغلال “الخطاب الديني” للحصول على أصوات انتخابية فحسب.
اتهام تنظيم الإخوان – المصنف إرهابيا في الكثير من الدول – باستغلال الدين للوصول إلى سدة الحكم، ليس من باب إلقاء التهم جزافا؛ بل هو حقيقة “يعلمها الذئب..” كما يقال في لهجتنا الحسانية. وهذا لب مشكلتنا معهم. فهم يعتقدون أنهم أقرب إلى الله من الجميع، ويصل بهم الأمر إلى الشعور بأن استخلاف الله للإنسان في الأرض محصور في أعضاء التنظيم. إنهم يمارسون الكذب والنفاق باسم الدين ويلعبون على عواطف الشعوب الدينية، ويمجّدون القتل ويتاجرون بالمقدسات الإسلامية لكسب التعاطف الشعبي، وذلك ديدنهم في كل أقطار الدنيا.
انكشف هذا التنظيم عند جل الشعوب العربية. ففي السودان، حكم هؤلاء عقودا من الزمن بعد انقلاب على الديمقراطية، وتسبب “نظام الإنقاذ” في كل أنواع المآسي والحروب والتقسيم والتخلف الاقتصادي والعزلة، وظلت خدمة التنظيم أولوية لدى الإخوان وهم في سدة الحكم، وقاد ذلك السودان إلى ما هو عليه اليوم.
ومن تحت عباءة الانتخابات، حاولوا تكرار التجربة نفسها في الجزائر، متحالفين مع مجموعات من القوى المتشددة، ونعلم جميعا كيف تحول الأمر إلى بحر من الدماء سبحت فيه الجزائر طيلة عقد من الزمن، وما زالت تدفع ثمنه إلى اليوم.
وظل الدور الإخونجي مستمرا لسنوات طوال في مصر وتونس وليبيا وسوريا والعراق والجزائر والمغرب ودول الخليج، وغيرها من الدول التي كانوا يعملون فيها تحت عباءة تنظيم سري يسعى إلى هدم الدول وإثارة النعرات والفوضى سبيلا للوصول إلى السلطة في نهاية المطاف. وكان يظهر أحيانا في شكل جمعيات وهيئات خيرية ومنظمات وأحزاب سياسية “مدنية”، لكنها أحزاب تسقط وتنكشف في الاختبارات السياسية على كل حال، وتفشل حين تتاح لها فرصة الوصول إلى الشأن التنفيذي عبر الصناديق (نموذج المغرب)، ثم سرعان ما تلقى الجزاء والعقاب الملائم من الشعوب بعد خوض التجربة الفاشلة.
دور الإخوان برز جليا خلال ما سمّي بالربيع العربي، حين باعوا الوهم للشعوب، وعندما وصلوا إلى الحكم في مصر لم يغيروا ساكنا – حتى في العلاقات مع إسرائيل – لينكشفوا أمام الجميع، عندما حافظوا على هذه العلاقات التي كانت حبل المشنقة المقدس عندهم والممدود نحو رقاب المناهضين لهم.
كما انكشف الإخوان في موقفهم من إيران، فقد أيدوها في قتل الناس في سوريا والعراق، وعارضوها في مواقف أخرى واعتبروها “طائفية”، كل ذلك للّعب على وترين معاً: جني التمويل والحصول على التعاطف الشعبي.
كما فُضح موقفهم تجاه السعودية التي كان قادة التنظيم يكيلون لها المدح ليلا ونهارا ومن على جميع منابرهم، واليوم يناصبونها العداء، وينفثون سمومهم نحو ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وذلك بعد اتخاذ بعض الإجراءات القضائية ضد قادتهم، عندها أصبحت المملكة العربية السعودية بالنسبة إليهم “بلاد اللهو واللعب وانتهاك المقدسات” حتى وصل بهم الأمر إلى محاولة منع المسلمين من تأدية فريضة الحج واعتبار الحرم المكي “ليس آمنا”.
الإخوان لا يؤمنون بالديمقراطية، إلا إذا كانت ستوصلهم إلى كرسي الحكم (النموذج الجزائري)، أما إذا أوصلت غيرهم فهي ليست حلا (النموذج الليبي)، تأكيدا لما قاله منظّرهم سيد قطب في كتابه “معالم في الطريق” بأن الديمقراطية انتهت إلى ما يشبه الإفلاس.
جميع التنظيمات الإرهابية والتكفيرية خرجت من تحت عباءة الإخوان، مثل القاعدة وداعش والنصرة وكل جماعات التكفير على اختلافها، لذا فالنظرة واحدة بالنسبة إلى كل هذه التنظيمات وخلاصتها: إما أن تناصرهم وإما أن تجاملهم، أما غير ذلك فأنت كافر ودمك مهدور لأنك تعادي الله ورسوله والمسلمين.
في السنوات الأخيرة، وبعد ترخيص بعض الدول لتنظيم الإخوان الإرهابي بشأن تشكيل أحزاب سياسية، لاحظنا خروج بعض قادتهم للإعلام للتنصّل من تنظيم الإخوان، كما رصدنا مساعي بعضهم لـ”تجديد الخطاب”، والحديث عن الفصل بين العمل الدعوي والسياسي، إلا أن الواضح للجميع أن ذلك كان نوعا من النفاق السياسي والضحك على الشعوب، وسوف يظل الإخونجي يلعب على الوتر الديني والعاطفة الدينية للشعوب، ممتهنا حرفة النفاق والكذب إلى يوم الدين.
يرى الإخوان في موريتانيا أنها تمثل حلما لدولتهم المستقبلية، ورغم نجاح الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني في شق صف جماعتهم وخلق أجواء تهدئة سياسية كبيرة خلال حكمه، فإن طموحهم لا يزال يراوح مكانه.
في الانتخابات الرئاسية عام 2009، رشحوا محمد جميل منصور زعيم حزبهم السابق (الداعم الحالي للرئيس الغزواني) وحصل على أقل من 5 في المئة من أصوات الناخبين. وقد يكون ترشيح شخصية من حزبهم للرئاسة هذه المرة (انتخابات 2024)، بالون اختبار بذلوا من أجله كل ما لديهم من أوراق الضغط الدينية والمالية، حتى إن بعض المراقبين يرون أن الملايين من الدولارات التي جمعها قادتهم من تبرعات القبائل الموريتانية بحجة مساعدة شعب غزة، قد ذهبت لتمويل حملتهم الانتخابية من أجل إنجاح التجربة التي يضع فيها التنظيم الدولي للإخوان أمله الكبير، وإن كانت قوة الرئيس الغزواني في الشارع الموريتاني ستفشل هذه التجربة، إلا أن الشعب الموريتاني أمام اختبار حقيقي ليقول لهم لا تحلموا؛ فموريتانيا لن تكون دولة إخوانية، ولن تكون ملعبا لتطبيق تجربة أثبتت فشلها الواضح والمتكرر في أقطار عربية أخرى.
عن "العرب" اللندنية