رحلات الصيد في سوق سينما ديانا بوسط القاهرة

رحلات الصيد في سوق سينما ديانا بوسط القاهرة

رحلات الصيد في سوق سينما ديانا بوسط القاهرة


21/12/2023

هناك أوقات نتمنى فيها العودة بالزمن إلى عقود مضت، وقد يساعدنا على استدعاء هذه الحالة مشاهدة فيلم بالأبيض والأسود، أو الاستماع لأغنية قديمة، أو تصفح الألبومات القديمة للعائلة، ولكن لا شيء يضاهي زيارة منزل فنان أو مثقف مهتم باقتناء التحف والأنتيكات، هناك يمكنك الجلوس على كرسي قديم، لتنفض رماد سيجارتك في مطفأة سجائر نحاسية تفوقك عمراً، وأنت تسترق السمع لأسطوانة قديمة على الجرامافون، وترى على الجدار صوراً في براويز قديمة، وتحفاً مختلفة تحيط بك من كل جانب، وعند السؤال عن مصدر هذه التحف تكون غالباً الإجابة: "سوق سينما ديانا" المجاور لسينما ديانا بالاس، بمنطقة شارع عماد الدين بوسط البلد.

حرفة الشراء من سوق ديانا 

كل سبت مع بداية النهار يتوجه الباعة ببضائعهم القديمة إلى سوق الأنتيكات المعروف بوسط البلد، ليحولوا الشارع الشهير إلى فاترينة عرض ضخمة، فكل شبر من الأرض تُغطى بالعشرات والعشرات من البضائع المختلفة، أو كما يقول المصريون بإيجاز: "من الإبرة للصاروخ"، كلها تستقبلك بطريقتها، وتعيدك إلى أيام لا تراها إلّا على الشاشات، فترى العديد من ساعات الجيب واليد، معظمها لا يعمل، لكنّها احتفظت بتفاصيل زخرفية مميزة، أدوات مائدة صدئة شهدت بالتأكيد أياماً أفضل من هذه، ترى أكواماً من النظارات المعدنية التي فقدت بريقها، وحقائب سفر قديمة ما تزال تحمل بطاقات المطارت التي مرت بها، وقطعاً خزفية وخشبية نادرة، والعديد من المشغولات النحاسية بأحجام مختلفة، وعدداً كبيراً من اللوحات الزيتية لفنانين غير معروفين، وتابلوهات مطرزة بالكنافاه الذي كان هواية رائجة في الستينيات، ومجلات قديمة، وكتباً تاريخية ربما تكون محظوظاً وتشتري طبعة نادرة بثمن بخس، وتحتل العملات المعدنية والورقية جانباً لا بأس به من سلع السوق. 

كل سبت مع بداية النهار يتوجه الباعة ببضائعهم القديمة إلى سوق الأنتيكات المعروف بوسط البلد

مهارة صيد الأسماك تتطلب الكثير من الصبر، ولكي تستطيع امتلاك مجموعة من التحف المميزة بحق، لا يكفي أن تقوم بزيارة واحدة إلى هذا المكان المحفوف بالمغامرة، فبعد عدد من الزيارات المنتظمة إلى السوق، سوف تكتسب خبرة الصيادين المخضرمين، ربما يغريك اقتناء هاتف بقرص دوّار، وسترى عدداً كبيراً من البائعين يقومون بعرضه، لكن وسط هذه البضائع القديمة يوجد ما يصلح للاستخدام، والذين يترددون على السوق باستمرار يعرفون باعة بعينهم، وفي بعض الأحيان لا يحتاج الزبائن للذهاب إلى السوق للحصول على ما يرغبون فيه، بل يمكنهم الاتصال بالباعة بشكل مباشر، وقد يقوم البائع بالاتصال بزبونه الدائم ليعرض عليه قطعة يعرف أنّها ستثير اهتمامه.

مطاردات أمنية للتجار بعد شهرة سوق ديانا

يحصل التجار على بضائعهم من مصادر مختلفة؛ من المزادات، وبائعي الروبابيكيا، والمنازل القديمة التي يعرض أصحابها مقتنياتها للبيع دون إدراك قيمتها الحقيقية، وأيضاً من أسواق أخرى كسوق التونسي، وسوق الجمعة، وبعد اشتهار السوق وظهوره في عدد من البرامج، تعرّض الباعة لمضايقات أمنية، وواجهوا عدداً من الاتهامات بالمغالاة في الأسعار، والتهرب الضريبي، والاتجار بالآثار، ولذلك نجد السوق في الوقت الحالي محاطاً بالخصوصية التامة، فمعظم التجار فرضوا قاعدة هي "ممنوع التصوير أو الإدلاء بمعلومات لوسائل الإعلام".

وجوه مختلفة تتردد على سوق ديانا 

بعد أن تتردد على السوق عدداً من المرات، ستلاحظ تبايناً شديداً بين الحضور، فهناك الشباب الذين رأوا مقاطع فيديو على وسائل التواصل الجتماعي، وقرروا القيام بهذه المغامرة، ومنهم الأهالي الذين يصطحبون أطفالهم لجولة في هذا المتحف المجاني، الذي يتمكنون فيه من لمس المعروضات التاريخية، وتجربتها في بعض الأحيان، وهناك الباحثون عن شيء بعينه، وقد يغادرون السوق إن لم يجدوا غايتهم، على أن يعودوا في يوم السبت التالي، بعد توصية عدد من البائعين، وهناك الأجانب الذين ساقتهم أقدامهم أثناء تجولهم للسوق، وغالباً ما يخرجون محملين بعدد كبير من البضائع كتذكارات، وهناك فنانو ومثقفو وسط البلد، الذين يعلمون جيداً أنّ الذهاب في الصباح الباكر سيمنحهم أفضلية الرؤية، والحصول على التحف بسعر أفضل.

المخرج السينمائي المصري (خالد الحجر)

من الزبائن المخضرمين المخرج السينمائي المصري (خالد الحجر)، ومن أعماله فيلم (الشوق) و(حرام الجسد)، والذي يقطن بـ (عمارة الإيموبيليا) الشهيرة بوسط البلد، التي اعتاد الفنانون أن يقطنوها منذ إنشائها في العام 1938، ومنهم: نجيب الريحاني، ومحمد عبد الوهاب، وليلى مراد، وأنور وجدي، وعشرات غيرهم، تمكن (خالد) أن يحوّل شقته إلى متحف، وعندما تطأ قدماك داخل المنزل تجده مزدحماً بتفاصيل كلها تحمل عبق التاريخ، وتدلّ على دأب وإصرار أن تظل الشقة بروح الأربعينيات نفسها، يمتلك تسريحة عليها طاقم خزفي مكون من فرشاة، وزجاجة عطر، وعلبة صغيرة للحلي، ومرآة صغيرة تعود كلها للمطربة (ليلى مراد)، وتسمع الأغاني من خلال جرامافون كانت تملكه والدة الممثل المصري الراحل (جميل راتب)، وتتزين جدران شقته بعدد من أفيشات الأفلام القديمة، وبصور ولوحات لفنانين وفنانات مصريين، وفي زيارته الأخيرة لسوق سينما ديانا، اشترى أباجورة قديمة فرنسية الطراز بـ (500) جنيه، ثم بحث في الإنترنت فوجد الأباجورة نفسها تباع بـ (750) يورو على موقع الشركة المصنعة.

رحلة البحث والتنقيب في سوق سينما ديانا تصيب الزائر بعدد من المشاعر المختلفة، قد يكون منها الخوف غير العقلاني من أنّ ممتلكاته وذكرياته سينتهي بها الأمر ذات يوم ملقاة على الأرصفة، ومعرضة لتدقيق الغرباء مثل: صور التجمعات العائلية وحفلات الزفاف والإجازات الصيفية، وحتى الخطابات الشخصية، كلها معروضة للبيع، ولكنّ الإحساس الأقوى بالطبع سيكون الانبهار بقطع التاريخ المتناثرة من حولك.

 




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية