قواعد الفكر الإخواني (33): هذه ملامح الانقلاب الذي دعا إليه البنّا

الإخوان المسلمون

قواعد الفكر الإخواني (33): هذه ملامح الانقلاب الذي دعا إليه البنّا


19/08/2018

ما تزال رسائل حسن البنا تكشف أسلوبه بتوظيف النصوص الدينية وشرعنة خلط الدين بالسياسة، من خلال خطاب يتخفّى خلف الكتاب والسنّة، والقراءة الخاصة بأحداث السيرة.

تمهيد لأفكار الجماعة

يتجلّى ذلك بوضوح في رسالته، التي تحمل عنوان "إلى أيّ شيء ندعو الناس"؛ التي حاول من خلالها تمهيد الطريق لأفكاره، كي تشقّ طريقها نحو نفوس من يدعوهم لاتباع جماعته، وجسّدت انقلاباً حقيقياً في المفاهيم والتصورات عن طبيعة الدين وفعله في دنيا الناس.

دعا البنا، في بداية تلك الرسالة، إلى اعتماد مقياس للحكم على ما يطرحه، بما أسماه "دعوة الإخوان المسلمين ومقاصدها وأساليبها ووسائلها"، مدّعياً استنباطه من كتاب الله، عز وجل، وهو يحرص على طرح مقدمة ترقى إلى مسلَّمة لا تقبل الجدل؛ فمن ذا الذي يرفض تحكيم كتاب الله، عز وجل، في الأقوال والأفعال!

تكشف رسائل البنا أسلوبه بتوظيف نصوص الكتاب والسنّة وشرعنة خلط الدين بالسياسة

يقول: "يا قومنا، إنّ القرآن الكريم كتاب جامع، جمع الله فيه أصول العقائد، وأسّس المصالح الاجتماعية، وكليات الشرائع الدنيوية، فيه أوامر وفيه نواهٍ، فهل عمل المسلمون بما في القرآن، فاعتقدوا وأيقنوا بما ذكر الله من المعتقدات، وفهموا ما أوضح لهم من الغايات؟ وهل طبقوا شرائعه الاجتماعية والحيوية على تصرفاتهم في شؤون حياتهم؟"، ويتابع قائلاً: "إن انتهينا من بحثنا أنّهم كذلك، فقد وصلنا معاً إلى الغاية، وإن تكشّف البحث عن بُعدهم عن طريق القرآن، وإهمالهم لتعاليمه وأوامره، فاعلم أنّ مهمّتنا أن نعود بأنفسنا، وبمن تبعنا، إلى هذا السبيل".

اقرأ أيضاً: قواعد الفكر الإخواني (32): حسن البنا يصنّف الناس برؤية إخوانية

هكذا، ببساطة، يطرح حسن البنا نفسه قيّماً على الناس من خلال فهمه الخاص لواقع كلّ شخص بمدى تقيده بمراد الشريعة والقرآن، فيصدر حكمه، ثم يقيّم هؤلاء على مراد الله الذي يعرفه؛ وكأنّه وحده هو وحده من فهم الشريعة، والإخوان دون غيرهم القادرون على حمل الناس عليها.

احتكار تصوّر مكتمل ومنمَّط للشريعة

يتسلّح البنا بالمنطق الحدّي نفسه الذي لجأت إليه كل الجماعات التي ظهرت قبله أو بعده، وهو احتكار تصوّر مكتمل ومنمَّط للشريعة، لا ينقصه سوى التطبيق على الناس؛ لذا يبدو واقع الناس دوماً -وهو واقع متباين بتباين قدراتهم وأفهامهم وطاقاتهم- واقعاً مغايراً للصورة التي يعرفونها أو بالأحرى يتوهّمونها، وهم يخلطون بين سلوك الناس وغاياتهم، التي تبقى أمراً باطنياً في نفس كلّ منهم.

تسعى رسالة "إلى أيّ شيء ندعو الناس" لقلب المفاهيم والتصورات عن طبيعة الدين وفعله في دنيا الناس

مختبئاً من جديد خلف النصوص، ومقسماً الناس حول الغاية من الحياة، يقول: إنّ "القرآن حدّد غايات الحياة، ومقاصد الناس فيها، فبيّن أنّ قوماً همّهم من الحياة الأكل والمتعة، وغيرهم الزينة والعرض الزائل، وأنّ قوماً آخرين شأنهم في الحياة إيقاد الفتن وإحياء الشرور والمفاسد"، ولا يجد غضاضة في الادعاء بأنّ الله ألقى على الإخوان المسلمين مسؤولية تحمل هداية الناس إلى الغايات دون غيرهم، لمعرفتهم بالمقصد الصحيح، فيقول: "تلك مقاصد من مقاصد الناس في الحياة، نزّه الله المؤمنين عنها وبرّأهم منها، وكلفهم مهمة أرقى، وألقى على عاتقهم واجباً أسمى؛ هو هداية البشر إلى الحقّ، وإرشاد الناس جميعاً إلى الخير، وإنارة العالم كلّه بشمس الإسلام".

اقرأ أيضاً: قواعد الفكر الإخواني (31): ازدواجية الخطاب والسلوك

لكن أين تلك الغاية من مشروع الإخوان؟ّ أثبتت الوقائع أنّه مشروع سياسي بامتياز، يتوسّل بإطار الجماعة الدعوية، ليبقى بمنأى عن ضعف الرابطة التنظيمية بين أعضاء الحزب الواحد في جلّ الأحزاب السياسية، التي هضم البنا تجربتها جيداً، ليمزج لاحقاً بين الحزب والجماعة في حركته.

الوصاية على الناس

فهم حسن البنا من القرآن الكريم أنّ الإسلام يفرض وصاية المسلمين على البشر، يقول في فهم هذا السياق، بعد الآية الكريمة {يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير} ويتابع في هذا السياق قائلاً: معنى هذا أنّ القرآن الكريم يقيم المسلمين أوصياء على البشرية القاصرة، ويعطيهم حقّ الهيمنة والسيادة على الدنيا لخدمة هذه الوصاية النبيلة، إذاً؛ ذلك من شأننا لا من شأن الغرب، ولمدنية الإسلام لا لمدنية المادة".

يضع البنا نفسه قيّماً على الناس بفهمه الخاص لمدى تقيّد كلّ شخص بمراد الشريعة والقرآن

وهذا الحق بالوصاية على الناس الذي يدعيه البنا لم يعطِه الله تبارك وتعالى حتى للنبي محمد، صلّى الله عليه وسلّم، في مواجهة من يدعوهم، فقال تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ}، وَ{إِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ}؛ آيات واضحة في دلالتها لم تعط النبيّ هذا الحقّ، لكنّ حسن البنا يعطي نفسه وجماعته الحقّ في أن يدعو لما يريد، ويحمل الناس عليه بالقوة، معتقداً أنّ هذا حقّ الإنسانية، يقول: إنّ الله أمر المسلمين بإقامة الصلاة والزكاة والحجّ .. إلخ، ثمّ أمرهم بعد ذلك أن يجاهدوا في الله حقّ جهاده، بنشر هذه الدعوة وتعميمها بين الناس بالحجة والبرهان، فإن أبوا إلا العسف والجور والتمرد، فبالسيف والسنان:

والناس إن ظلموا البرهان واعتسفوا ≈ فالحرب أجدى على الدنيا من السلم

وقد مضى سلوك الجماعة بالفعل في هذا السبيل، سبيل الحرب وحمل الناس على ما تكره بالقوة كما يشهد تاريخهم.

فهم حسن البنا من القرآن الكريم أنّ الإسلام يفرض وصاية المسلمين على البشر

يمثل الكلام السابق دعوة تتناقض مع زعم البنا من جمع الخلق على المتفق عليه من هدي السماء، لذا بدا الاتهام حتمياً له بأنّ هذه سياسة وهذا اشتغال بالسياسة، فحرص على نفيه بالقول، تحت عنوان "نحن والسياسة من نفس الرسالة": "ويقول قوم آخرون إنّ الإخوان المسلمون قوم سياسيون، ودعوتهم دعوة سياسية، ولهم من وراء ذلك مآرب أخرى"، فينفي التهمة بالقول: "يا قومنا: إننا نناديكم والقرآن في يميننا، والسنّة في شمالنا، وعمل الصالحين من أبناء الأمة قدوتنا، وندعوكم إلى الإسلام وتعاليم الإسلام، وأحكام الإسلام، وهدى الإسلام، فإن كان هذا من السياسة عندكم، فنحن أعرق الناس، والحمد لله، في السياسة"، وهذا خلط واضح يختبئ من جديد خلف النصوص، معتسفاً فهمها، ومدعياً أنه هو وحده من يمثلها، وهو اختطاف للدعوة فعله الخوارج قبلهم وفعله كثيرون من بعدهم.

الوصول إلى الحكم غاية يكشفها البنا بنفسه بعيداً عن النصوص التي اختبأ خلفها

هذا ما فهمه حسن البنا من الإسلام، ودعا الناس إليه، وعمل عليه، وهو يرى أنّ بإمكانه فعل ما فعله الأوائل من المسلمين، وعدّ ذلك نهضة لا نظير لها، بهذا المنطق يقول في نهاية تلك الرسالة: "من ذا الذي كان يصدّق أنّ هذه الشيعة الضئيلة المستترة من بني علي والعباس، تستطيع أن تقلب ذلك الملك القويّ واسع الأكناف، ما بين عشية وضحاها، وهي ما كانت يوماً إلا عرضة للقتل والتشريد والنفي والتهديد؟ ومن ذا الذي كان يظنّ أنّ صلاح الدين الأيوبي يقف الأعوام الطوال فيردّ ملوك أوروبا، ذلك في التاريخ القديم، وفي التاريخ الحديث، أروع المثل على ذلك؛ فمن كان يظنّ أنّ الملك عبد العزيز آل سعود، وقد نفيت أسرته، وشرّد أهله، وسلب ملكه، يسترد هذ الملك ببضعة وعشرين رجلاً، ثمّ يكون بعد ذلك أملاً من آمال العالم الإسلامي في إعادة مجده وإحياء وحدته؟ ومن كان يصدّق أنّ ذلك العامل الألماني هتلر يصل إلى ما وصل إليه من قوة النفوذ ونجاح الغاية".

اقرأ أيضاً: قواعد الفكر الإخواني (30): الإنكار تهرباً من المسؤولية

تلك، إذاً، هي الغاية؛ الوصول إلى الحكم، يكشفها البنا بنفسه، بعيداً عن النصوص التي اختبأ خلفها، والشريعة التي يدعي رفع لوائها، وبذلك تتبدّى على نحو واضح ملامح الانقلاب الذي دعا إليه؛ من تحويل الدعوة الدينية، التي يفترض أن تجمع الناس، إلى فتن تقتل وتفرّق، وبذا تنكشف بوضوح ملامح رسالته "إلى أيّ شيء ندعو الناس".


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية