عامر بدران: اعتمادنا فكرة الحقّ الإلهي أراح "إسرائيل" التي تستخدم اللغة ذاتها

عامر بدران: اعتمادنا فكرة الحق الإلهي أراح "إسرائيل" التي تستخدم اللغة ذاتها

عامر بدران: اعتمادنا فكرة الحقّ الإلهي أراح "إسرائيل" التي تستخدم اللغة ذاتها


27/11/2023

أجرى الحوار: عاصف الخالدي

قال الكاتب والشاعر الفلسطيني عامر بدران، إنّ اللغة السياسية في التعامل مع القضية الفلسطينية، تم استبدالها بأخرى تعتمد فكرة الحق الإلهي لا البشري، مما أراح "إسرائيل" التي تستخدم اللغة ذاتها لتبرير الاحتلال.

وأضاف بدران في حواره مع "حفريات"، أنّ أزمة الهوية في "إسرائيل" عنوانها المحاولة والمزيد من المحاولة، وأزمة الهوية الفلسطينية عنوانها الحنين والمزيد من الحنين، مؤكداً أنّ فلسطين ككيان مشغول بذاته وبالخلاص من عدو قومي لا يمكنه بسهولة إنجاز شكل مؤسساتي متطور يستطيع مواجهة، أو حتى الصمود أمام ضغط الشعار العربي الإسلامي.

علينا كفلسطينيين أن نكف عن الركون إلى أحقيتنا فقط وأن ندعّمها بلغة وعمل سياسيين

واعتبر بدران اتفاق أوسلو "خطأً تاريخياً"؛ بل و"كارثة" بعد التمسك به كأرضية للحل طوال ربع قرن منذ توقيعه وحتى الآن، منتقداً إدارة الفلسطينيين للثورة بلغة وأدوات الدولة، وإدارتهم السلطة بلغة وأدوات الثورة.

يذكر أنّ بدران، المولود في قرية قبلان بنابلس العام 1967، هو طبيب أسنان، وصاحب تجربة على الصعيد السياسي الفلسطيني، وله عدة دواوين شعرية منها "فوق عنق الغزال" و"ظلي وحيداً" و"لم أرَ بدراً".

وهنا نص الحوار:

أزمة هوية

الحق تم التعبير عنه في كثير من الحالات، كحق إلهي وليس كحقّ بشري

رغم ما مرت القضية الفلسطينية من متغيرات، هل ما تزال هي القضية الإنسانية الأولى اليوم؟

دعني أتوقف أولاً عند وصفك للقضية الفلسطينية بأنّها ما تزال القضية الإنسانية الأولى، لأتساءل إن كان هذا الوصف واقعياً من وجهة نظر سياسية أم لا.

إن كانت كذلك فهي بنظري إنسانية عندنا كفلسطينيين وعند حلفائنا من عرب وشعوب ترفض الظلم لأنّها تعرضت له، مثل شعوب أمريكا اللاتينية وإفريقيا وآسيا، لكنها القضية العقبة أمام مشاريع التوسع الإسرائيلية الأمريكية، وهي القضية التي لا تعني الكثير من دول وشعوب العالم غير المؤثرة، بناء على ذلك فأنا أرفض فكرة أنسنة السياسة وعناصرها.

إسرائيل مهيأة لأن تنتصر ليس لكثرة المؤمنين بها بل لقوّتهم وتأثيرهم

نحن أمام قضية سياسية من الدرجة الأولى، هذا صحيح، لكن ما يشبعها من عناصر الحق لا يكفي ولم يكف حتى الآن لإيجاد حل يعيد هذا الحق لأصحابه.

علينا كفلسطينيين أن نكف عن الركون إلى أحقيتنا فقط، وأن ندعّم هذه الأحقية بلغة وعمل سياسيين. التيارات الرجعية التي تتحدث عنها لم تكن رجعية بقدر ما كانت تيارات عاطفية ارتجالية، ولكنها ساهمت بشكل كبير في إزاحة لغة السياسة لصالح لغة الحق، وهذا الحق تم التعبير عنه في كثير من الحالات، كحق إلهي وليس كحقّ بشري.

وهنا أود التأكيد أنّ هذه اللغة أراحت "إسرائيل"؛ لأنها تملك أيضاً مقولة مشابهة؛ ربما ليست الأقوى لكنها الأكثر ترويجاً ودعماً من قبل الإعلام ورأس المال، وهي مهيأة لأن تنتصر، ليس لكثرة المؤمنين بها، بل لقوّتهم وتأثيرهم، ما أريد قوله هو أنّ علينا أن نقدّم قضيتنا كقضية سياسية بلغة سياسية يفهمها العالم، لا لغة يتعاطف معها العالم.

"إسرائيل" تحاول نيل الاعتراف بهويتها الدينية

أليس من الغريب أن يتحدث باحثون عرب عن أزمة هوية أوروبية ويهودية رافقت "اختراع" إسرائيل، بينما تعاني فلسطين من أزمة مماثلة بين الهوية القومية والإسلاموية؟

هذا غريب بالطبع، لكنه لم يعد يعني شيئاً في عصر الهويات المتحرّكة؛ أي في عصر العولمة، "إسرائيل" تحاول نيل الاعتراف بهويتها الدينية، والعرب ما يزالون يثبّتون التاريخ عند الزمن الذي كانوا فيه قوة عظمى بفضل رسالتهم الدينية، وإسرائيل رغم كل ما تدّعيه من حداثة وانتماء للقيم الأوروبية لم تستطع خلق أو تشكيل هوية حضارية أو قومية أو حتى قُطْرية، إن صح التعبير، بعيداً عن الدين، فيما العرب يطعّمون هويتهم أو هوياتهم بعناصر مستمدّة من الماضي المجيد، الديني بالأساس.

علينا أن نقدّم قضيتنا كقضية سياسية بلغة سياسية يفهمها العالم لا لغة يتعاطف معها

أزمة الهوية في "إسرائيل" عنوانها المحاولة والمزيد من المحاولة، وأزمة الهوية العربية عنوانها الحنين والمزيد من الحنين، ماذا عنّا نحن الفلسطينيين؟ أظنّ أنّ إعلان الاستقلال المنبثق عن دورة المجلس الوطني في الجزائر العام 1988 كان ورقةً تُعرّفنا بشكل جيد، لا أقول بالطبع إنّ الهوية تُكتب، بل أقول إنّ الكتابة تُعرِّف، لكن ما جدّ بعد ذلك التاريخ ليس أقل أهمية في مسيرة تشكيل هذه الهوية.

ولعله من مفارقات القدر أنّ التاريخ الذي وضعت فيه الحركة الوطنية الفلسطينية أهم تعريفات هويتها الوطنية والسياسية بشكل مكتوب وموثّق كمرجعية، ترافق مع بروز حماس كضاغط ديني، أو بالأصح كضاغط بعناصر دينية على هذه الهوية، وما تبع ذلك إلى يومنا هذا بات معروفاً للجميع.

طائفية سياسية

لعدم وجود مشكلة الطائفية الدينية تم تعويض ذلك بطائفية سياسية

ما رأيك بمقولة أنّ الدولة القُطْرية العربية بقيت في سياقات "سايكس بيكو" التي كرّست احتلال فلسطين، بينما بدت "إسرائيل" نتاجاً حداثياً متماسكاً للسردية الغربية وقومياتها؟

دعني أبدأ بفكرة أنّ القضية الفلسطينية لا تعاني من مواجهة العلماني والديني على المستوى الاجتماعي، بقدر ما تعاني من هذه المواجهة على المستوى السياسي نفسه، والإسلاموي في فلسطين، وربما لعدم وجود مشكلة الطائفية الدينية تم تعويض ذلك بطائفية سياسية.

لتوضيح الفكرة أحيلك إلى الطائفية في لبنان والعراق كمثال، هل يعاني العراق من مشكلة اجتهاد ديني بسبب تنوّع طوائفه؟ ربما، لكن هذه المعاناة لا تُقارن بما يعانيه من الطائفية السياسية، وأقصد أنّ كل طائفة دينية صارت بحكم الواقع طائفة سياسية.

إسرائيل تحاول نيل الاعتراف بهويتها الدينية والعرب يثبّتون التاريخ عند الزمن الذي كانوا فيه قوة عظمى

بهذا المعنى فإن "حماس" طائفة سياسية، و"فتح" طائفة سياسية أخرى. لماذا؟ لأنّ "فتح" تعاملت مع البراغماتية بوصفها أيديولوجيا، هذا فيما يخص الفصيلين الأساسيين المتحكّمين في السياسة الفلسطينية. أما فيما يخص اليسار فلا أعتقد أنّه ممثل جيد لا للعلمانية ولا لحق الفرد في الحرية والرأي، هو أيضاً يسار أيديولوجي، والأيديولوجيا مبنية على الإيمان والانحياز لا على الشك والمخالفة.

أودّ التأكيد أنّ كل ما سبق يمكن إدراجه على حالتنا كسلطة قائمة لا على حركة تحرّر، وربما أنّ أحد أهم مشاكلنا كفلسطينيين هي أننا أدرنا الثورة بلغة وأدوات الدولة وأدرنا السلطة بلغة وأدوات الثورة. في السلطة لا مكان لمصطلحات مثل "الوحدة الوطنية" بل هناك برامج سياسية واقتصادية متصارعة؛ هناك حكومة ومعارضة، هناك أحزاب لا فصائل.

أهم نجاحات منظمة التحرير تحويل قضية أرادها العالم قضية لاجئين إنسانية إلى سياسية قومية بامتياز

فيما يخص الجزء الثاني من سؤالك فإنني أؤكّد ما هو معروف، بأنّ "إسرائيل" نفسها نتاج لـ"سايكس بيكو" وفي سياقاته، هل هذا جيد أم سيئ؟ ليس لدي إجابة، لكنني أتساءل أيضاً: هل نريد نحن الفلسطينين دولة تنمو وتشيخ وتتفكّك؟ هل نريدها في سياقات "سايكس بيكو" أم نتاجاً لـ"أوسلو"؟ ولِمَ علينا أن نناضل من أجل هكذا شكل من تحقيق الكيان الذاتي.

أين أخطأ الفلسطينيون؟

هزيمة 1967 كانت عربية بامتياز

بماذا تلخّص أخطاء الفلسطينيين حتى اليوم، وصراع فصائلهم الإسلامية والقومية، التي مثّلت كذلك جانباً من الصراع السياسي العربي؟

أعتقد أنّ أخطاء الفلسطينيين يمكن نسبها إلى مرحلتين زمنيتين؛ المرحلة الأولى هي منذ بداية القرن العشرين وحتى نكسة حزيران العام 1967، وحول هذه المرحلة أستطيع القول إنّ أخطاءنا كانت محصلة لخطأ عربي كبير وشامل تمثّل في طريقة خسارة فلسطين.

  أما المرحلة الثانية فهي منذ النكسة وحتى اليوم، وتخصّ الأخطاء المتمثلة في طريقة استرجاع فلسطين، في المرحلة الأولى يمكن القول إنّ الأخطاء كانت ذات طابع فكري ناتج عن صراع ثلاثة تيارات تصدّت للهجرة اليهودية إلى فلسطين منذ بداية القرن، هذه التيارات هي القوميون العرب والشيوعيون وما يمكن تسميته نواة الوطنية الفلسطينية في بدايات تشكّلها.

اليسار ليس ممثلاً جيداً للعلمانية لأنّه أيديولوجي وحماس ضغطت دينياً على تشكل الهوية الفلسطينية

لا أريد الإطالة لكن نظرة متمحّصة إلى التحالفات الخارجية والحلول المقترحة والحيرة فيما يخص تعريف فلسطين، أهي جزء من سوريا أم هي كيان بحدّ ذاته، هل هذه الأقلية اليهودية جزء من الشعب أم هي حليف طبقي؟ الخ... من التوصيفات والمقترحات والتعريفات، نستطيع الاستنتاج أنّ ما حصل في العام 1948 كمرحلة أولى من ضياع فلسطين، لم يكن فقط بسبب أنّ عدونا منظّم وقوي ومدعوم دولياً، بل أيضاً لارتجالنا وتشتت رؤانا. وفي 1967 أعتقد أنّه من الظلم الحديث عن أخطاء فلسطينية، فالهزيمة كانت عربية بامتياز.

أما فيما يخص أخطاء المرحلة الثانية، أي مرحلة محاولات استرجاع فلسطين فيمكن اختصارها بعدم قدرة منظمة التحرير على اعتماد برنامج سياسي واقعي، مدعوم عربياً ومقبول دولياً؛ لقد كانت المنظمة إما انفعالية أو متأخرة  في كل تعديل على برنامجها ورؤيتها للحل، هذا على المستوى السياسي النظري، أما على مستوى السياسة العملية فأظنّ أنّه يمكن الإشارة إلى المال السياسي كعنصر مهم في التخريب، على الأقل في فترة الأنظمة العربية التي تلت مرحلة الاستعمار.

إسرائيل رغم كل ما تدّعيه من حداثة وانتماء للقيم الأوروبية لم تستطع تشكيل هوية حضارية أو قومية

واستمرت هذه الأخطاء التي تجلّت باصطفافات غير مبرّرة أو بارتجال في القرارات السياسية طوال فترة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي. وقد شكّلت الانتفاضة الأولى حبل النجاة للمنظمة وللمشروع الوطني برمته، لكن، وفي نفس الوقت، يمكن اعتبارها فاصلاً زمنياً مهمّاً فيما يخص تغيّر طبيعة الأخطاء.

هل كان اتفاق أوسلو خطأ؟ نعم، لو أخذناه من زاوية التفاف المنظمة على وفدها المفاوض في مدريد، ولا، لو اعتبرناه خطوة في مسيرة التحرّر، ونعود لاعتباره خطأ تاريخياً بل وكارثة بعد التمسك به كأرضية للحل طوال ربع قرن منذ توقيعه وحتى الآن.
دعنا نؤكد في النهاية أنّه في مقابل كل هذه الأخطاء كانت هناك نجاحات مبهرة للمنظمة، أهمها هو تحويل قضية أرادها العالم قضية لاجئين وقضية إنسانية إلى قضية سياسية قومية بامتياز. الفضل أولاً وأخيراً للمنظمة في دوام تصدّر قضية الشعب الفلسطيني للقضايا العالقة دولياً، والفضل لها في تحويل كيس الطحين القادم من الأونروا إلى بندقية مقاتلة.

الوعي بـ"النكبة" قام على أساس عاطفي لا عقلي

لماذا ما نزال نتذّكر النكبة كل عام كبكائية طويلة؟

لأن الوعي بها قام على أساس عاطفي لا عقلي، لم نجلس بعد النكبة لنتدارس ما حلّ بنا ولماذا حلّ بنا وما هي السبل لعلاجه.. لقد اكتفينا بإطلاق هذا المسمى الفضفاض على ما حدث، وصنعنا على أساسه وعياً ميزته الأولى هي الإحساس بالفارق بين ما كان وما صار.

والفارق هنا لم يكن سياسياً جمعياً بقدر ما كان مُلكياً فردياً، لقد تم تكوين لغة كاملة تتعاطى مع أملاكنا قبل النكبة وتشريدنا بعدها، فكل فلسطيني في هذا الوعي يملك بيّارة في حيفا أو يافا تمت سرقتها، وكل فلسطيني يملك حصاناً ظل وحيداً في البيت بعد أن هاجر أهله.

القضية الفلسطينية لا تعاني من مواجهة العلماني والديني على المستوى الاجتماعي بقدر ما تعاني منه سياسياً

هذا الوعي المتأرجح بين فكرة الحلم وفكرة الكابوس، حلم العودة إلى ما كان، وكابوس الواقع في مخيمات اللجوء هو ما كرّس هذه البكائية وغذّاها. يضاف إلى ذلك أنّ خسارة البلاد لم تتم نتيجة حرب بين جيشين نظاميين؛ بل بين عصابات مسلّحة ومدنيين لا يملكون إلا بيّاراتهم وأحصنتهم. ويضاف إلى ذلك أيضاً أنّ الكيان الناشئ بعد النكبة أبى إلا أن يجعل من تاريخ تهجيرنا عيداً لاستقلاله. ويضاف أيضاً أنّ النكبة تشكّل رواية شخصية لكل فرد من هذا الشعب المُهجّر وتم تناقلها شفهياً من جيل إلى جيل، بكل تفاصيلها وبكلّ الإحساس الملموس بالفارق.

مفاتيح المستقبل

بلد مُطالب للأسف أن يدافع عن نظافته وكأنها تهمة

التطور الصناعي والاجتماعي وحقوق الأفراد، من أجل إنشاء سردية فكرية عربية تحبّ ذاتها، وتستطيع مواكبة ومواجهة الآخر، هل من الضروري أن تبدأ من فلسطين؟

هذا يذكّرني بسؤال الوحدة العربية في السبعينييات والثمانينيات من القرن الماضي؛ هل الوحدة العربية شرط  لتحرير فلسطين أم أنّ تحرير فلسطين يسهّل الوحدة العربية؟ أعتقد أنّ هذا السؤال، وإن كان على المستوى الفكري مشروعاً إلا أنّه، ومن زاوية ما، يمكن اعتباره حجة من لا يستطيع التحرير ولا يرغب بالوحدة.

أما سؤالك الحالي فأجيب عنه بـ "لا" قاطعة، وذلك لسببين؛ الأول أنّ فلسطين ككيان مشغول بذاته وبالخلاص من عدو قومي لا يمكنه بسهولة إنجاز شكل مؤسساتي متطور يستطيع مواجهة، أو حتى الصمود أمام ضغط الشعار العربي الإسلامي، الذي قدّم وما يزال يقدّم شكلاً واحداً من الخطاب الشعبوي، والذي وإن أثبت فشله إلا أنّه مايزال يلاقي استحسان "الجماهير العريضة" إن جاز التعبير.

ترافق قيام الحركة الوطنية الفلسطينية بتعريف هويتها الوطنية والسياسية بشكل مكتوب وموثّق مع بروز حماس كضاغط ديني

هل علينا إقناع "الجماهير العريضة" بضرورة مواكبة الآخر من فلسطين أولاً؟ أو بنموذج فلسطيني حداثي سابق لمحيطه العربي؟ قد يبدو السؤال نفسه طوباوياً، فما بالك بالإجابة.

أما السبب الثاني والذي ينتج بشكل ما عن السبب الأول، فهو أنّ أية سردية فكرية تحب ذاتها وتستطيع مواكبة الآخر لن تكون عربية بالضرورة، بمعنى أنّها لن تكون نتاجاً طبيعياً للهوية العربية بتعريفها وعناصرها الحالية، السردية جزء لا يتجزأ من الهوية التي تحدّد المسمّى، وإن تغيرت هذه السردية وأخذت شكلاً حداثياً، فلا بد ساعتها أن تكون الهوية نفسها قد انتقلت إلى مكان آخر.

ربما تكون فلسطين مؤهلة للانتقال خطوة إلى الأمام في هذا الشأن، لكن هل سيُنظر لها عربياً من نفس المنظار؟ دعني أستذكر هنا وصف أحد المثقفين العرب لمدينة رام الله حين رآها لأول مرة، واكتشف أنّها نظيفة وحديثة، حيث قال : "رام الله متبرّجة أكثر من اللازم"، وأنا في النهاية أسألك: هل تريد تطوراً اجتماعياً وحقوقاً للأفراد من بلد تحت الاحتلال، وبلد مُطالب للأسف أن يدافع عن نظافته وكأنها تهمة؟، وإلا سيتم وصفه بأوصاف بنات الهوى.

الدولة كمؤسسة حاكمة في العالم في طريقها إلى الزوال

كمراقب، ككاتب، وإنسان، أين تكمن مفاتيح المستقبل بخصوص فلسطين، مقابل الدولة العربية، والربيع العربي؟

أعتقد أن مستقبل فلسطين لا يجب أن يُناقش أو أن يتم التنبؤ به مقابل الدولة العربية أو الربيع العربي، بل معهما؛ فلسطين ليست في النهاية إلا بقعة جغرافية صغيرة إذا ما قورنت بالوطن العربي أو بالعالم، نحن لسنا ألمانيا ولا روسيا ولا الصين لنرى المستقبل بمعزل عن محيطنا أو عن العالم. وفي هذا السياق، لنائب الرئيس الأمريكي الأسبق آل غور كتاب مهم بعنوان "المستقبل" يتحدث فيه عن ترابط العالم وتداخله وبالتالي ترابط وتداخل مشاكله وسبل حلّها جماعياً.

أزمة الهوية في إسرائيل عنوانها المحاولة والمزيد من المحاولة وأزمة الهوية العربية عنوانها الحنين والمزيد من الحنين

لم يقل آل غور طبعاً إنّ معظم مشاكل العالم تتسبب بها بلده، لكنّه في المقابل يطرح رؤية متفائلة لمستقبل جيد للبشرية جمعاء إن واجهت مهدّداتها الأساسية من تلوث وفقر ونقص موارد، لكن إن كان لا بد من النزول عند رغبة سؤالك السياسية فإنني أقول إنّ على الفلسطيني أن يتفوق أخلاقياً وعلمياً وأن يكون كفؤاً لمجاراة القيم البشرية. هذا ما بقي لنا مع انسداد آفاق الحل السياسي المُرضي قومياً، وربما أمتلك بعض الجرأة لأقول إنّ الدولة كمؤسسة حاكمة في العالم أو كشكل جديد نسبياً للحكم، في طريقها إلى الزوال، وهي ليست مقدّسة في كل الأحوال لتكون هدفاً نسعى إليه في مقابل فكرة الوطن، أنا مع الوطن الفلسطيني بقيم عالمية إن تعذّرت الدولة، أو إن كانت بقيم رجعية.

الصفحة الرئيسية