رحلة المنع والحصار لقارئات القرآن الكريم في مصر

المرأة المسلمة

رحلة المنع والحصار لقارئات القرآن الكريم في مصر


06/06/2018

تَقدّم الشيخ أبو العينين شعيشع، نقيب قراء القرآن الكريم، بطلب للإذاعة المصرية عام 2009 بالموافقة على قبول قارئات للقرآن في الإذاعة، وذلك بعد فترة وجيزة من قبول النقابة لعضوية عشرات القارئات، غير أنّ الرفض كان من نصيب تلك المحاولة، بحجة أن صوت المرأة "عورة".

وكانت من أشد المعارضين لطلب شعيشع، هاجر سعد الدين، رئيسة شبكة إذاعة القرآن الكريم سابقاً، ورئيسة لجنة اختيار القراء في الإذاعة لمدة ست سنوات. وقالت سعد الدين في تصريحات صحفية عام 2010: "أرى أنه لا ضرورة الآن لذلك، خاصة أنّ القرآن الكريم له آداب وأخلاقيات معينة يجب على النساء الالتزام بها". وفي لقاء على فضائية مصرية عام 2018 كررت سعد الدين رفضها: "إذا كان هناك أصوات رجال فلماذا نلجأ للنساء". موضحة "حتى لا يخضع الذي في قلبه مرض".

رغبة الشيخ شعيشع كان لها جذورها التاريخية عندما اشتهرت قارئات القرآن في مصر منذ أيام محمد علي

رغبة الشيخ شعيشع كان لها جذورها التاريخية، عندما اشتهرت قارئات القرآن الكريم في مصر منذ أيام محمد علي، منذ مائتي عام، وقبل أن تسيطر دعوات التشدد على المشهد العام.

ألحان السماء

في كتابه "ألحان السماء" يشير الكاتب محمود السعدني إلى أنه في يوم من الأيام كانت هناك قارئات للقرآن في الإذاعة المصرية، نافست إحداهن الشيخ محمد رفعت، أشهر من تلا القرآن في مصر المعاصرة. و"بموت السيدة نبوية النحاس في عام  1973 انطوت صفحة رائعة من كتاب فن التلاوة والإنشاد الديني في العصر الحديث"، لينتهي الحديث عن قارئات القرآن، قبل عام من صعود جماعات الإسلام السياسي في مصر، بداية من الجماعة الإسلامية، مروراً بجماعة الجهاد، ثم الإخوان المسلمين.

اقرأ أيضاً: كيف نفهم أحكام السبايا وملك اليمين في القرآن الكريم؟

سؤال يتجدد كل عام، عن غياب صوت قارئات القرآن الكريم، الذي لم يكتشف رجال الدين أنه عورة قبل عام 1939، عندما قررت الإذاعة المصرية الرسمية منع الشيخة كريمة العدلية، والشيخة منيرة عبده، من تلاوة القرآن عبر أثير الإذاعة، بعد أن وصلت أصواتهما إلى إذاعتي لندن وباريس، وبعد أن اقترب أجر منيرة عبده من أجر الشيخ محمد رفعت.

"قبل الحرب العالمية الأخيرة بقليل أفتى بعض المشايخ الكبار بأنّ صوت المرأة عورة"، هكذا أشار السعدني في كتابه، مضيفاً: "وهكذا اختفت الشيخة منيرة من الإذاعة، وتوقفت إذاعة لندن وإذاعة باريس عن إذاعة أسطوانتهما خوفاً من غضب المشايخ الكبار".

الشيخة سكينة حسن

أم محمد

"أم محمد" أول من احترفن قراءة القرآن الكريم من السيدات في مصر، في عصر محمد علي، مؤسس مصر الحديثة، يقول عنها السعدني: "كانت تقوم بإحياء ليالي المآتم في قصور قُواد الجيش وكبار رجال الدولة، وكانت موضع إعجاب الباشا محمد علي.... ودفنت في مقبرة أنشئت خصيصاً لها في الإمام الشافعي، وجرت مراسم تشييع الجنازة في احتفال عظيم".

ورغم وجود عشرات القارئات في مصر منذ عصر محمد علي، فلا توجد غير بعض المصادر القليلة التي يمكن الرجوع إليها لمعرفة تاريخهن، مثل كتاب "ألحان السماء" للسعدني، والذي قدم ترجمة لهن في خمسة صفحات فقط من كتابه، ولا توجد إلا تسجيلات نادرة جداً لهؤلاء القارئات، وأشهرهن، كريمة العدلية، منيرة عبده، وسكينة حسن، وخوجة إسماعيل، ومنيرة أحمد المصري، ونبوية النحاس.

مع إنشاء الإذاعة الرسمية في القاهرة كانت الشيخة منيرة في طليعة الذين رتلوا القرآن من خلال موجاتها

وقبل منع صوت قارئات القرآن الكيرم نهائياً من الإذاعة، كان يحجب صوتهن خلال شهر رمضان من كل عام، كما أشار الباحث عصمت النمر في مقال نشرته مجلة "الهلال" المصرية "ومن الغريب أنّ الإذاعة كانت في شهر رمضان تحجب عن السميعة تلاوات القارئات  المعتمدات من قبل الإذاعة".

انتشار قارئات القرآن في مصر في النصف الأول من القرن العشرين يعود إلى تقاليد تمسكت بها الأسرة المصرية في تلك الفترة، يشير السعدني إليها فى كتابه، حيث "كانت ليالي المآتم تقام ثلاثة أيام للرجال وثلاثة للنساء، وكان لابد من وجود قارئات لإحياء ليالي المآتم عند السيدات، وفي البداية لم تكن هؤلاء السيدات يحترفن مهنة ترتيل القرآن، ولكنهن كن يحترفن مهنة النياحة، أو المعددات كما كان يطلق عليهن أبناء الشعب، وأشهر هؤلاء كانت الحاجة دربالة بالجيزة، وعندما كانت تحترف النياحة كانت قادرة على أن تستدر الدمع من عيون الصخر، ثم احترفت قراءة القرآن فترة من الوقت".

اقرأ أيضاً: القرآن الكريم والوجدان...والمضامين التاريخية المعطِّلة

رصد السعدني أيضاً إلى جانب الحاجة دربالة، الحاجة خضرة في المنوفية، والست عزيزة في الإسكندرية، والست رتيبة في المنصورة، والشيخة أم زغلول فى السويس. يقول السعدني: "والغريب أنهن جميعاً كن يحترفن النياحة في المآتم قبل أن يتحولن إلى قارئات، والنياحة مهنة معروفة فى مصر، ويبدو أنها ميراث من قدماء المصريين، الذين كانوا يحتفلون بالميت أربعين يوماً بالتمام والكمال".

وتوجد بعض التسجيلات النادرة لسيدة الغناء العربي أم كلثوم وهي تقرأ القرآن، وتحت عنوان "أم كلثوم والقرآن"، ذكرت نعمات أحمد فؤاد، ضمن كتاب "أم كلثوم وعصر الفن،" وفي سنة 1958 نشرت الصحافة المصرية اقتراحاً أن يسجل القرآن كله بصوت أم كلثوم وهذه المسألة سبق وأن أثيرت عام 1950".

منيرة عبده

منيرة عبده هي القارئة التي تسببت في غضب المشايخ الكبار، الساعين لحجب صوتها عن الإذاعة بحجة أنه عورة، بدأت ترتيل القرآن في الإذاعات الأهلية المصرية وهي في الثامنة عشرة من عمرها، عام 1920، ذكرها السعدني في كتابه: "أحدث ظهورها ضجة كبرى في العالم العربي، ولم يمض وقت طويل حتى أصبحت الشيخة منيرة نداً للمشايخ الكبار، وذاع صيتها خارج مصر، وتهافتت عليها جميع إذاعات مصر الأهلية".

ومن القصص اللافتة للانتباه، والتي رصدها السعدني، قصة أحد التجار الأثرياء في تونس، والذي طلبها لإحياء شهر رمضان في قصره بصفاقس، بأجر ألف جنيه، وهو مبلغ ضخم في تلك الفترة، غير أنها رفضت، فحضر التاجر لقضاء شهر رمضان في القاهرة؛ لسماع تلاوتها للقرآن الكريم.

ومع إنشاء الإذاعة الرسمية في القاهرة، مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي، كانت الشيخة منيرة في طليعة الذين رتلوا القرآن من خلال موجاتها، يقول السعدني: "كانت تتقاضى خمسة جنيهات، في الوقت الذي كان يتقاضى فيه الشيخ رفعت عشرة جنيهات".

كريمة العدلية

كريمة العدلية

ظهرت كريمة العدلية في عصر الشيخ علي محمود، سيد قراء زمانه، كتب عنها السعدني:"وصل صوتها للعالم العربي كله من خلال الميكرفون أيام الإذاعات الأهلية، وعاشت حتى تمصير الإذاعة، وظلت تذيع القرآن بصوتها العذب إلى فترة الحرب العالمية الثانية".

واعتبرها السعدني أشهر قارئات القرآن الكيرم في زمانها، وأشار أيضاً إلى قصة حب شديدة بين الشيخة كريمة والشيخ على محمود: "كانت تعشق صوته وطريقته الفذه في الأداء، وكان هو يفضل الاستماع إليها، ويفضل صوتها على أصوات بعض القراء، وكثيراً ما كانت تصلي الفجر في الحسين في الركن المخصص للسيدات لكي تتمكن من سماع صوت الشيخ علي محمود وهو يرفع أذان الفجر بصوته الذي ليس له مثيل".

اختفت الشيخة منيرة من الإذاعة وتوقفت إذاعتا لندن وباريس عن بث أسطوانتها خوفاً من غضب المشايخ الكبار

يشير إلى ذلك الباحث عصمت النمر في مقال الهلال: "وذكر الكثير من المؤرخين أن الشيخ على محمود جمعته بالشيخة كريمة العدلية قصة حب شديدة وكان الشيخ على محمود يفضل صوت كريمة العدلية على كثير من القراء الرجال، وكي ندرك أهمية ذلك. يكفي أن نعرف أن الشيخ على محمود كان من تلامذته الشيخ الجليل محمد رفعت، والشيوخ، طه الفشني، وكامل يوسف البهتيمي، وإمام الملحنين الشيخ زكريا أحمد، والموسيقار محمد عبد الوهاب الذي تعلم على يديه الكثير من فنون الموسيقى، وسيدة الغناء العربي أم كلثوم، وأسمهان. فالشيخ على محمود كان موسيقياً له باع بجانب كونه مقرئاً، وكان من أهم مؤسسي فن الإنشاد والتواشيح".

توجد بعض التسجيلات النادرة لسيدة الغناء العربي أم كلثوم وهي تقرأ القرآن

خوجة إسماعيل

خوجة إسماعيل ذكرها الباحث عصمت النمر في مقاله السابق؛ إذ "قدمت الإذاعة في الأسبوع التالي قارئة ثالثة هي الشيخة "خوجة إسماعيل" وجاءت تلاوتها الإذاعية الأولى في العاشرة من صباح الأحد 19 نيسان (أبريل) 1936، ونوهت مجلة الراديو المصري في صفحة 16 العدد 571 ليوم 18 نيسان (أبريل) 1936 أن عدد التلاوت في الظهور الأول للشيخة خوجة إسماعيل بلغ ثلاث تلاوات صباحية أيام 19 و21 و23 نيسان (أبريل) 1936".

ويتابع :"وزاد اهتمام الإذاعة بتلاوة الشيخة خوجة فأسندت إليها في شهر أيار (مايو) 1936 كل التلاوات النسائية وبلغت ثلاث تلاوات في الأسبوع الواحد، وواصلت الإذاعة ما تبقى من عام 1936 تقديم أغانى للشيخة كريمة العدلية بجانب تلاوتها القرآنية، بالإضافة إلى تلاوات الشيخة منيرة عبده وخوجة إسماعيل. والمتأمل لما قدمته الإذاعة من أغنيات لكريمة العدلية القارئة أنها عالجت في غنائها قوالب الغناء مثل الطقطوقة والدور والموال والقصيدة إلى جانب تلاوتها المتعددة مع كل من الشيخة منيرة عبده وخوجة إسماعيل".

رحلة القارئات مستمرة

ورغم إشارة السعدني في كتابه إلى انتهاء عصر تلاوة النساء مع وفاة نبوية النحاس إلا أن ذلك العصر انتهى فقط مع أثير الإذاعة المصرية، ولا تزال القارئات المصريات متواجدات وعضوات في نقابة قراء القرآن الكريم بالعشرات، وحارب من أجلهن آخر رواد دولة تلاوة القرآن في مصر، الشيخ أبو العينين شعيشع حتى وفاته عام 2011، غير أن الإذاعة المصرية رفضت السماح لهن بالتلاوة، بحجة أن صوت المرأة عورة.

اقرأ أيضاً: الإعجاز العلمي للقرآن الكريم وإشكالية التأويل بالإكراه

وأشارت الكاتبة الصحفية مروة بشير نائب رئيس قسم الأهرام في كتاب صدر قبل شهور بعنوان "فن الإنشاد الديني"، إلى المنشدة آية الطبلاوي، حفيدة الشيخ محمد الطبلاوي، قارئ القرآن الشهير، ونقيب قراء القرآن الكريم بمصر.

وانشغال حفيدة الطبلاوي بالإنشاد الديني غير مستبعد؛ بسبب مواقفه المعلنة، والمؤيدة لضرورة وجود قارئات للقرآن في الإذاعة المصرية، وسجل الطبلاوي ذلك الموقف في تصريحات صحفية "صوت المرأة ليس بعورة، لقوله تعالى في سورة الأحزاب "وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب"، مضيفاً "الأصل في الأشياء هو الإباحة، وما كان حلاله حلالاً فإن حرامه حرام، بمعنى أن المرأة التي تتحدث بترقيق متعمد لصوتها، يعد صوتها بالأساس خضوعاً بالقول ولا يجوز لها ترتيل القرآن بهذه الطريقة، في حين أنّ المرأة الرصينة الملمة بقواعد التجويد وأحكام الترتيل، لا غبار على قراءتها".


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية