أسباب النزول؛ هو علم من العلوم الإسلامية أو العلوم القرآنية، ومن اسمه، فهو علمُ يهتم بأسباب نزول الآيات القرآنية، وذلك لبيان الأحداث التي ارتبطت بالوحي، ممّا يساعد في تفسير الآيات والنصوص في حدّ ذاتها.
ومن يريد أن يتبحّر في علم أسباب النزول، فربّما يلجأ لأمهات الكتب التراثية، ومنها، على سبيل المثال لا الحصر: "أسباب نزول القرآن للإمام علي بن أحمد الواحدي" (توفَّى 468 هـ)، "لباب النقول في أسباب النزول" لجلال الدين السيوطي (894-911 هـ)؛ الذي ُولد وُتوفي في القاهرة. "العُجابُ في بيان الأسباب" للحافظ المحدّث أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (توفَّى 852 هـ)، وغيرها الكثير، فعلم أسباب النزول يعدّ مجالاً محورياً يساعد في الحكم والتشريع.
الشيخ عبد الفتاح عاشور: القارئ للقرآن الذي لا يعلم أسباب نزول الآيات قد يقع في خطأ ويضلّ الطريق
وفي تاريخنا المعاصر، يؤكّد أستاذ التفسير في جامعة الأزهر، الشيخ عبد الفتاح عاشور، أنّ القارئ للقرآن، الذي لا يعلم أسباب نزول الآيات القرآنية، قد يقع في خطأ، ويضلّ الطريق، وهذا التحذير نسمعه، مراراً وتكراراً، من الأئمة الذين يعبّرون عن خشيتهم من وقوع بعض الناس في اللّغط، وإساءة فهم بعض الآيات بشكلها المجرّد.
تعالت الأصوات التي تنادي بأهمية الالتفات إلى علم أسباب النزول، أكثر وأكثر، في الأعوام الأخيرة، خاصة مع ظهور تنظيم داعش، وتناثر أخبار واردة عن انتهاكات عدة، منها: سبي النساء في المعارك الدائرة في العراق، واتخاذهن ملكاً لليمين.
وقد تطرّقتُ، في كتابي الأخير "نساء في عرين الأصولية الإسلامية" إلى إشكالية سبي النساء، ورغم أنّي استهللتُ الكتاب بتجربة مقتضبة لي مع جماعة الإخوان المسلمين، قبل 15 عاماً، لكن كان لزاماً علينا أن نتطرق فيه لما هو أبعد من أدبيات الجماعة السياسية الدعوية، كان علينا أن ندخل بقوة إلى سطوة الموروث الديني الذي تستند إليه كثير من الجماعات الجهادية؛ لنحاول فكّ الاشتباك في القضايا الجدلية، وبالتأكيد؛ فإنّ أسر النساء في المعارك الدائرة في سوريا والعراق على يد الدواعش، كان من بين تلك القضايا.
بعد ما ورد من شهادات للنساء الإيزيديات، اللّاتي تعرضن للسبي والاسترقاق على يد المحاربين في العراق، بدأ العامة يسألون عن الفتوى الشرعية في ذلك، ولا مجال للشكّ في أنّ الأمر لا يحتاج إلى فتوى، فما حدث للإيزيديات جرائم حرب يندى لها جبين الإنسانية، لكنّ الغدة الدينية تغلب على الفطرة الإنسانية في العقل الجمعي، فيبحث قطاع كبير من الناس عن الرأي الشرعي، وفي حالات أخرى، يبحث بعضهم عن رأي شرعي يدين جرائم داعش ضدّ النساء اللاتي تعرضن للسبي، لتطمئن القلوب، وتهدأ النفوس، خاصة بعد أن خرج الشيخ صالح فوزان، عضو اللجنة الدائمة للإفتاء، وعضو هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية، في حزيران (يونيو) 2015، ليقول نصاً: إنّ "الإسلام لم يحرّم سبي النساء، ومن ينادي بتحريم السبي هو جاهل وملحد"، وقد تسبّبت هذه الفتوى في إثارة موضوع شائك وجدلي، اعتقد بعض الناس أنّه كان قد تمّ حسمه.
عرف الرومان واليهود وغيرهم السبي والرق لذا فمن يقول إنّ سبي النساء والاسترقاق صاحب انتشار الإسلام فهو مخطئ
وفي حقيقة الأمر؛ فإن سبي النساء في الحروب كان أمراً متعارفاً عليه من قبل الإسلام، سنجد أنّ تلك الظاهرة لها جذورٌ تاريخية في شبه جزيرة العرب، كما ورد في كتاب "تاريخ اليعقوبي، الجزء الأول، ص 195"، واليعقوبي هو أبو العباس أحمد بن إسحاق بن جعفر بن وهب بن واضح اليعقوبي؛ الذي توفَّى في مصر عام 284 هـ.
كما عرف الرومان واليهود وغيرهم سبي النّساء والرق؛ لذا فمن يقول إنّ سبي النساء والاسترقاق صاحب انتشار الإسلام، فهو مخطئ.
لكن، في الوقت ذاته، الإسلام لم يُحرّم السبي في الحروب، كما أنّ السبي لا يقع على النساء وحدهنّ، فالسبي قد يطال الصبيان والشيوخ، إلّا أنّ سبي النساء نال اهتماماً كبيراً؛ لأنّه ارتبط بالمعاشرة الجسدية، وهو ما يتوافق قولاً، مع ما صرحت به الدكتورة سعاد صالح الأزهرية، حين قالت: "يحقّ للقائد المسلم الاستمتاع بالأسيرات".
وقد ورد في مرجع مهمّ بعنوان "أحكام الأسرى والسبايا في الحروب الإسلامية"، للدكتور عبد اللطيف عامر، أستاذ الشريعة في جامعة الزقازيق، الطبعة الأولى لعام 1986، أنّ موقف السبايا يختلف بمجرد النقل إلى دار الإسلام، فقبل نقل الغنائم من السبايا، كانت الغنائم ملكاً للإمام في وقت الحرب، لكن حالما انتقلت إلى دار الإسلام، وتمت القسمة، أصبحت السبايا ملكاً للأفراد (ص 316).
وإذا حملت الأمة من سيّدها، أصبحت (أم ولد)، وتُعتق حال وفاته، فلا تورّث مع تركته، وكان يجوز بيع السبايا إلّا في حالة أن تكون قد سُبيت برفقة طفلها الصغير، وقد اختلف الفقهاء في متى يُسمح ببيعها، فقال الإمام الشافعي: "إن بلغ سبعاً أم ثماني؟ وقال مالك: إذا أثغر (أي إذا نبتت أسنانه). وقال الإمام أحمد: لا يُفرَّق بينهما حتى وإن كبر ولدها واحتلم (ص 321).
هنا لم تقف دار الإفتاء المصرية مكتوفة الأيدي، وخرجت بفتوى في تشرين الثاني (نوفمبر) 2016، نصّها كالآتي:
"الآن، فقد تتابعت الاتفاقيات الدولية القاضية بتجريم الاسترقاق وتجارته، وقد بلغ عدد الاتفاقيات التي أُبرمت منذ عام 1832، إلى الآن، نحو ثلاثمائة اتفاقية، وفي 4 آب (أغسطس) عام 1877، في عهد الخديوي إسماعيل، وقّعت الحكومة المصرية اتفاقاً بالإسكندرية، يقضي بحظر تجارة الرقيق، وفرض عقوبات مشدّدة على ذلك، فبانعدام أسباب الرقّ، صار الناس كلّهم على أصل الحرية".
وفي مساء يوم 27 آب (أغسطس) 2017، في تمام الساعة 6 مساءً؛ نشرت دار الإفتاء فتوى نصّها: "ما ورد في قوله تعالى {مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ}، جاء تنظيماً لوضع خاصّ ببعض بنات آدم، من جملة نظام اجتماعي، كان معروفاً في وقته.
"صالح لكل زمان ومكان" عبارة تمت صياغتها في التاريخ المعاصر على يد الشيوخ ومن بينهم الشعراوي
هكذا أعلن الأزهر عن تغيّر الظروف التي أحاطت بأسباب نزول الآيات القرآنية، التي نظمت شؤون ملك اليمين، فمع انتفاء الظروف لم يعد ملك اليمين مقبولاً (كما ورد في فتوى الأزهر)؛ أي إنّ الأزهر هنا اعترف ضمنياً بتاريخية النص.
هنا يطرح تساؤل نفسه علينا: إن كنّا سنعتدّ بأسباب النزول في تفسير الآيات القرآنية، كما فعل الأزهر في مسألة السبي، وما يتبعها من استرقاق وتملّك، وإن كانت أحكام الفتوى تتغير تباعاً، بتغير الظروف التي أحاطت نزول الآيات التي شرعنت ملك اليمين، ألا يعدّ ذلك تناقضاً لمقولة: "النصّ الديني صالح لكل زمان ومكان؟"، فإن كانت ملك اليمين قد وردت صراحة في سور "المؤمنون"، و"الأحزاب" و"النساء"، ثم بات الزمان غير مناسب لاتخاذ النساء ملكاً لليمين، فألا يعدّ هذا دليلاً على أنّ النصّ غير قابل للتطبيق في كلّ زمان ومكان؟
مع العلم بأنّ "صالح لكل زمان ومكان" ليس نصاً دينياً، إنّما عبارة تمت صياغتها في التاريخ المعاصر على يد الشيوخ، ومن بينهم الشيخ محمد متولي الشعراوي.
وهنا، فإن مقولة "صالح لكل مكان وزمان"، قد تغلق باب الاجتهادات الفقهية والحقوقية الإنسانية على حدّ سواء، في كثير من قضايا العصر التي تتغير بتغيّر الزمان والمكان.