محور الممانعة الإيراني ينكشف ويتراجع

محور الممانعة الإيراني ينكشف ويتراجع


14/01/2020

هشام ملحم

عشرة أيام هزت الشرق الأوسط، في الشهر الأول من السنة الأولى في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.

غارة أميركية صباح الثالث من الشهر الجاري قضت على قاسم سليماني قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني في بغداد، والذي كان يعتبر الشخصية الأمنية الأهم في إيران، وقضت أيضا على أبو مهدي المهندس، أحد أعمدة الهيمنة الإيرانية في العراق.

يوم الأربعاء ردت إيران بقصف صاروخي ضد قاعدتين عراقيتين تتواجد فيهما قوات أميركية، ولكنه كان قصفا سياسيا مصمما لإنقاذ وجه إيران، وليس لسفك الدم الأميركي، في أول تراجع إيراني في وجه الردع الأميركي منذ الغزو الأميركي للعراق في 2003.

فور انتهاء القصف قال وزير خارجية إيران محمد جواد ظريف "نحن لا نسعى للتصعيد أو الحرب"، وعقب ذلك رسالة إيرانية بنفس المضمون للولايات المتحدة عبر سويسرا التي تمثل مصالح الولايات المتحدة في إيران.

وفي اليوم ذاته، وخلال الساعات المتوترة التي عقبت القصف الصاروخي، ألحقت إيران المرتبكة بنفسها كارثة غير مقصودة حين أطلقت دفاعاتها الجوية صواريخ مضادة للطائرات اعتقادا منها أنها تصطاد طائرات أميركية وهمية، وأسقطت طائرة ركاب أوكرانية بعد دقائق من إقلاعها من مطار طهران الدولي قتل فيها 176 شخصا معظمهم إيرانيون أو من المولودين في إيران بمن فيهم عشرات المواطنين الكنديين.

خلال التهديدات والتهديدات المضادة التي تبادلها الطرفان، هدد الرئيس الأميركي دونالد ترامب بقصف أهداف إيرانية محورية لإيران بما في ذلك أهداف ثقافية في إشارة ضمنية إلى احتمال قصف مواقع أثرية تعتبر معالم هامة في تاريخ إيران. أثار هذا التهديد استنكارا قويا داخل وخارج الولايات المتحدة لأنه يتعارض مع التاريخ العسكري الأميركي ولأنه يمثل انتهاكا للقانون الدولي. المسؤولون في وزارة الدفاع أوضحوا أنهم لا يتوقعون مثل هذه الأوامر وأكدوا التزامهم بالقوانين الدولية.

في الأيام التي تلت القصف الصاروخي وتدمير الطائرة الأوكرانية، بلغ تضليل وكذب وتلفيق المسؤولين الإيرانيين السافر حدا غير مسبوق حتى بالمقاييس المتدنية للجمهورية الإسلامية منذ أكثر من أربعين سنة.

المرشد علي خامنئي ادعى أن القصف هو صفعة ضد الولايات المتحدة وأنها غير كافية، وأن إيران ستواصل العمل على طرد الولايات المتحدة وقواتها من الشرق الأوسط، في الوقت الذي ادعت فيه الماكينة الإعلامية الإيرانية أن القصف أدى إلى وقوع عدد كبير من القتلى والجرحى، وهو ادعاء لا أساس له.

وعلى مدى ثلاثة أيام كاملة، نفى المسؤولون الإيرانيون تأكيدات الخبراء في شؤون الطيران، وتقارير الاستخبارات الأميركية والكندية وصور الأقمار الاصطناعية، والصور والفيديوهات التي التقطها إيرانيون بهواتفهم المحمولة، والتي تظهر إطلاق الصواريخ وانفجار الطائرة في الجو، وادعوا أن استهداف الطائرة بصاروخ هو أمر مستحيل، وأن الطائرة تحطمت نتيجة خلل تقني.

وفي اليوم الرابع، بعد الكارثة أدرك المسؤولون الإيرانيون أن كذبهم قد ارتد عليهم، وألحق بهم أضرارا دولية لا يمكنهم تحمل تبعاتها خلال هذه المرحلة الحرجة والخطيرة، واضطروا بعدها للاعتراف بأن الطائرة تحطمت جراء صاروخ أطلق بالخطأ.

يمكن القول إن ما حدث بعد ذلك في شوارع وجامعات وساحات طهران وغيرها من المدن الإيرانية فاق بكثير أهمية قتل قاسم سليماني واقتراب الولايات المتحدة وإيران من حافة الحرب، في نزاعهما المستمر منذ الثورة الإسلامية في 1979.

عشرات الآلاف من الإيرانيين، ومعظمهم من الشابات والشباب من الطلاب والأكاديميين والفنانين والمثقفين وغيرهم من المواطنين الإيرانيين العاديين انتفضوا من جديد وهتفوا منددين بكذب وتضليل كبار المسؤولين، وطالبوا باستقالة المرشد علي خامنئي وغيره من المسؤولين البارزين لتسببهم ليس فقط بكارثة وطنية، بل بالتغطية الرخيصة عليها.

القمع الذي واجهته، أو يتوقع أن تواجهه، هذه التظاهرات أظهر من جديد شجاعة المواطنين الإيرانيين في التصدي لنظام لا يتورع عادة عن اللجوء السريع والتلقائي للعنف السافر لحماية نفسه. أن يطالب المتظاهرون الإيرانيون علنا وفي وضح النهار باستقالة علي خامنئي، وخاصة بعد التطورات السياسية والميدانية التي حدثت خلال هذه الأيام العشرة التي هزت إيران والشرق الأوسط، هو تحول نوعي في الأزمة التي يعيشها النظام الإسلامي في إيران.

وإذا لم تكن التظاهرات في إيران كافية لإحراج وكشف إفلاس النظام الإسلامي في طهران وما يسمى بمحور الممانعة الذي لعب قاسم سليماني دورا أساسيا في بنائه في العراق وسوريا ولبنان واليمن، اندلعت التظاهرات في العراق ولبنان مجددا.

رفض المتظاهرون في العراق تحويل بلدهم إلى مسرح اقتتال بين الولايات المتحدة وإيران، ورفض الكثيرون منهم دعوات وكلاء وعملاء إيران في العراق لانسحاب القوات الأميركية من العراق.

في لبنان، التظاهرات، التي بدأت لأسباب اقتصادية ولمكافحة الفساد، تركزت لاحقا ضد محور الممانعة الذي يمثل "حزب الله" الذي تموله وتسلحه إيران وحليفه، ما يسمى بالتيار الوطني الحر، الذي يعتبر العقبة الأساسية أمام التغيير في لبنان، على الرغم من أن الطبقة السياسية اللبنانية بمجملها فاسدة ومعادية للقيم والمؤسسات الديمقراطية الحقيقية.

ولكن وحده "حزب الله"، الذي يملك السلاح والتنظيم العسكري، وأثبت في السابق، كما في الأسابيع الأخيرة استعداده وجهوزيته لاستخدام العنف ضد المتظاهرين المسالمين.

ما يواجهه النظام الإسلامي في إيران ومحور الممانعة التابع له، هو أسوأ أزمة يواجهها هذا المحور منذ ولادته، ويمكن أن يزعزع أسس هذا المحور، إذا استمرت الانتفاضات في إيران العراق ولبنان، وإذا لم يحدث تدخل خارجي متسرع أو متهور يمكن أن يخدم، من دون قصد، النظام في طهران.

استعادة صدقية الردع الأميركي
هناك أسئلة شرعية عديدة تطرح في الولايات المتحدة والعالم، حول ما إذا كان لدى إدارة الرئيس ترامب الخطط السياسية والأمنية للرد على مضاعفات القضاء على قاسم سليماني، أو إذا كانت تملك بالفعل الأدلة التي تثبت أن سليماني كان يخطط لهجمات "وشيكة" ضد أهداف ديبلوماسية وعسكرية أميركية بما في ذلك مهاجمة 4 سفارات أميركية في المنطقة، وهي تهمة لم يذكرها المسؤولون لقيادات الحزبين في الكونغرس، والتي قال وزير الدفاع مارك إسبر أنه لا يعلم بها.

ما رشح حتى الآن، هو أن التخلص من قاسم سليماني ليس جزءا من تصور استراتيجي متكامل للتعامل مع الخطر الذي يمثله النظام الإيراني ضد مصالح الولايات المتحدة وحلفائها في الشرق الأوسط.

ولكن الانتقادات المشروعة ضد إدارة الرئيس ترامب، يجب أن لا تخفي حقيقة أن التصعيد الذي مثله قرار القضاء على قاسم سليماني، وهو تصعيد لم تتوقعه إيران على الإطلاق، يعتبر تحولا نوعيا في تعامل الولايات المتحدة مع إيران، منذ دخل الطرفان في مواجهة عسكرية فوق أراضي العراق منذ منتصف العقد الأول من القرن الحالي.

أخفق الرؤساء الأميركيون من ديمقراطيين وجمهوريين منذ الثورة الإسلامية في إيران، وتحديدا منذ أزمة الرهائن في 1979 في ردع إيران، أو إرغامها على دفع ثمن باهظ لانتهاكاتها.

أخفقت إدارة الرئيس جيمي كارتر في إنقاذ الرهائن في عملية عسكرية مكلفة ومحرجة. وإدارة الرئيس رونالد ريغان، أخفقت بشكل محرج في معاقبة إيران على تورطها في تفجير السفارة الأميركية، وكذلك تفجير مقر المارينز في بيروت في 1983، وقتل 241 منهم. الرئيس ريغان أمر بسحب القوات من بيروت مدعيا "إعادة انتشار" هذه القوات.

خلال عقد الثمانينيات وعقب تفجير مقر المارينز، صعّدت إيران من خلال "حزب الله" من تحديها لواشنطن عبر اختطاف رهائن أميركية في لبنان. وبدلا من معاقبة إيران ووكلائها في بيروت، مدت واشنطن يدها إلى "المعتدلين" في طهران، ودخلت معهم في مفاوضات محرجة تم بموجبها الإفراج عن الرهائن مقابل تسليم إيران أسلحة إسرائيلية لاستخدامها في حربها مع العراق، واستخدام العائدات المالية لتسليح القوات المعادية للثورة في نيكاراغوا، في ما عرف لاحقا باسم فضيحة "إيران ـ كونترا".

المواجهات العسكرية بين البحرية الأميركية والبحرية الإيرانية خلال الحرب العراقية ـ الإيرانية ألحقت بإيران أضرارا بالغة، ولكن الردع الأميركي بقي محدودا. في منتصف تسعينيات القرن الماضي فجّر عملاء إيران مبنى يقيم فيه عسكريون من سلاح الجو الأميركي في مدينة الخبر في السعودية، قتل فيه 19 عسكريا أميركيا. مرة أخرى أخفقت إدارة الرئيس بيل كلينتون في معاقبة إيران عسكريا.

في السنوات التي تلت الغزو الأميركي للعراق ومع بروز المقاومة المسلحة للوجود الأميركي، لعب قاسم سليماني دورا هاما في تسليح وتدريب القوى المعادية للولايات المتحدة ما أدى إلى مقتل 600 عسكري أميركي على يد هذه الميليشيات، وفقا لإحصائيات وزارة الدفاع.

تفادت إدارة الرئيس جورج بوش الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة مع إيران، في الوقت الذي كانت فيه قواتها في العراق تواجه تحديات عسكرية كبيرة. مرة أخرى لم ينجح الأميركيون في إقناع إيران بجدية وصدقية الردع الأميركي. واعتبرت إيران انسحاب القوات الأميركية من العراق في 2011 انتصارا لها ولوكلائها العراقيين.

خلال المفاوضات الطويلة بين إيران والولايات المتحدة التي أوصلت إلى الاتفاق النووي الدولي في 2015، رفض الرئيس باراك أوباما التصدي عسكريا للفظاعات التي ارتكبها النظام الإيراني والميليشيات التابعة له في سوريا بحجة أنه لا يريد إغضاب النظام الإسلامي في طهران خشية أن يؤدي ذلك إلى إنسحابه من المفاوضات، وهو موقف اعترض عليه الديبلوماسيون المحترفون في إدارة الرئيس أوباما، بمن فيهم الديبلوماسي البارز وليام بيرنز الذي بدأ المفاوضات الثنائية السرية مع إيران في سلطنة عمان.

مواقف أوباما المتناقضة والمترددة تجاه نظام بشار الأسد خلال الحرب في سوريا، أقنعت طهران بأن واشنطن لن تستخدم القوة العسكرية لمعاقبة نظام الأسد، حتى بعد استخدامه السافر للأسلحة الكيماوية ضد المدنيين السوريين.

لا أحد يعلم بيقين كيف ستتطور المواجهة المستمرة بين واشنطن وطهران خاصة وأن المسؤولين الإيرانيين ووكلائهم في المنطقة ومنهم حسن نصرالله قائد "حزب الله" في لبنان وقادة الميليشيات الموالية لإيران في العراق، يواصلون القول إن طريق المواجهة طويل، والثأر لقاسم سليماني لم ينته بعد.

ولكن مما لا شك فيه أن رد إيران المباشر والمحدود جدا على مقتل قاسم سليماني وإسراع المسؤولين الإيرانيين للتأكيد لواشنطن أن ردهم المسرحي قد انتهى، يوحي أن النظام الإيراني قد ارتدع، في الوقت الراهن على الأقل.

الرأي السائد في أوساط المحللين والخبراء في الشؤون الإيرانية هو أن النظام في طهران سوف يحاول الثأر لمقتل سليماني ولمواصلة الضغوط على الأميركيين في المنطقة، ولكن من خلال عملائهم ووكلائهم.

صحيح أن إيران تدرك أن الرئيس ترامب لا يريد حربا جديدة في الشرق الأوسط، ولكنها تدرك أيضا أن وضعها الاقتصادي الكارثي، والأهم من ذلك، وجود جماهير إيرانية بالآلاف في شوارع البلاد تنادي بإسقاط النظام، وضغوط في العراق ولبنان ضد وكلاء وعملاء إيران، كلها عوامل تجعل من أي عقاب أميركي عسكري، ولو كان محدودا ومقتصرا على غارات جوية مكثفة ضد قواتها العسكرية وبنيتها التحتية الاقتصادية، سيشكل ضربة سياسية ـ عسكرية قد لا يتحملها النظام.

هذا بحد ذاته يعتبر تحولا نوعيا لصالح واشنطن في العلاقة الطويلة والمعقدة بين إيران ومحور الممانعة من جهة والولايات المتحدة من جهة أخرى.

عن "الحرة"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية