طيب تيزيني في ذمة القراءة والنقد

طيب تيزيني في ذمة القراءة والنقد


20/05/2019

رحل طيب تيزيني عن دنيانا، أول من أمس السبت، مكللاً بمحبة ذويه وأصدقائه وطلابه، وأولئك الذين استمعوا إلى محاضراته المتواترة في المراكز الثقافية السورية كافة، وفي البيوت والصالونات أيضاً، وفي الندوات والمؤتمرات، في المدن السورية وفي غير عاصمة عربية؛ فلم يتوان طيب يوماً عن مشاركة مواطناته ومواطنيه في اهتماماتهم وهمومهم، ومشاركة أقرانه ورصفائه، من القوميين التقدميين والنهضويين، في رهاناتهم، ولم يخبُ اهتمامه الفكري والوجداني بالنهضة العربية وشروط إمكانها، وكشف العقبات التي تعترض سبيلها، على الرغم من المرارة التي كانت تطفر من أحاديثه عن "الحطام المفتوح".

اقرأ أيضاً: طيّب تيزيني يعانق الأبدية بتاريخ شخصي مشرف وجهود فكرية رائدة
يُعدُّ  تيزيني من المفكرين القوميين اليساريين البارزين في سوريا والعالم العربي، ولا سيما المشتغلين بالفلسفة تعليماً وبحثاً وتأليفاً. ويعد مشروعه الفكري، الذي لم يكتمل، واحداً من عدة مشاريع، من أبرزها مشروع محمد عابد الجابري، ومشروع حسن حنفي، ومشروع حسين مروة، ومشروع محمد أركون ...  فقد رفد  تيزيني المكتبة العربية بعدد وافر من الكتب تناول فيها ثلاث قضايا أساسية كان يرى فيها عوائق في طريق النهضة العربية: "الأولى، هي الفكر البنيوي غير التاريخي الذي يصدر أحكاماً غير تاريخية على العقل العربي ويدفع، من وجهة نظره، إلى التخلي عن فكر النهضة، (يُقصَد بذلك نقد العقل العربي للجابري، وقد خصص له كتاباً هو "من الاستشراق الغربي إلى الاستغراب المغربي"). والثانية، هي قضية قراءة وفهم الفكر الديني عموماً،  والنص القرآني خصوصاً. إذ رأى أنّه يمكن قراءة النص القرآني قراءة جدلية تاريخية وبالتالي الارتكاز عليه لطرح تصورات النهضة. وحل إشكالية العلاقة بين فكر النهضة، المرتكز على العقل، وبين فكر الذات، المرتكز على النقل. أما القضية الثالثة، فهي قضية فساد الواقع المجتمعي سواء على المستوى السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي، (ثلاثية الفساد)، من ناحية، والتحديات الحضارية التي تفرضها الحضارة الغربية من ناحية أخرى" 1.

حاول طيب تيزيني أن يؤسس التاريخ الاجتماعي الاقتصادي ومن ثم السياسي للعالم العربي في العصر الوسيط

تجدر الإشارة إلى أنّ تيزيني امتاز من المفكرين اليساريين بانشغاله بالسمات البنيوية الكبرى للفكر الإسلامي، بل "العربي الإسلامي"، بدءاً من النصوص التأسيسية (الأصول) إلى ما تلقفه جموع القراء والمفسرين والمؤولين والمجتهدين، (الفروع)، وعملية تموضع هذا الفكر اجتماعياً وتاريخياً وتراثياً، وتشظيه على أيدي الفرق والاتجاهات والمذاهب والأحزاب، وجموع المسلمين عموماً، حسب تعبيره2  . مرد هذا الانشغال إلى اعتقاده بأنّ الإسلام بأصوله وفروعه نتاج سيرورة تاريخية، اجتماعية اقتصادية وسياسية وسوسيو ثقافية غير معزولة عن العالم، وفي هذا يتجلى منهجه الماركسي، الذي قوامه المادية الجدلية والمادية التاريخية، بصفته منهجاً مفتوحاً، وليس بنية مغلقة. ولعل رؤيته للماركسية ومنهجها الجدلي على هذا النحو جعلته يحترم القراءات والتأويلات المختلفة ويعترف بشرعيتها المعرفية، ويدعو إلى ضرورة الحوار الديمقراطي و"احترام الرأي الآخر"، واعتبار الحوار واحترام الرأي الآخر شرطين ضروريين لإنتاج الحقيقة، أو التوصل إليها. فهو يقول، في هذا الصدد، ما نصه:

اقرأ أيضاً: حسين مروّة.. وُلد شيخاً ومات طفلاً برصاص الحقد الطائفي
"إننا مدعوون إلى الإقرار بضرورة الدفاع عن حرية الحوار العلمي الديمقراطي قولاً وفعلاً، ذلك لأنّ الحقيقة لا يمكن أن تنبثق على يد نظرية أو منهجية ما على نحو كلي ومطلق أولاً، ولأن الوضعية الفطرية العربية بالذات ما زالت وستبقى إلى أمد غير قصير تحتمل حداً من  من منهجية "الخطأ والصواب" 3 ... إن رفض الرأي الآخر مهما كان اتجاهه الأيديولوجي ومنزعه المعرفي من شأنه أن يقود إلى الحجْر على العقل وإلى إقالته حتى على صعيد التفكير الإسلامي،  وأن يفضي، من ثم، إلى تعطيل حرية البحث العلمي خصوصاً والنقدي على وجه العموم.  4هذه الرؤية المنفتحة على الآخر وعلى واقعية الاختلاف ومعقولية العالم وإمكانية خطأ الذات .. أضفت صدقية على نقده للنزعات السلفية في الفكر العربي المعاصر، ومصادراتها الإيمانية على التاريخ، بوجه عام، وعلى نقده لجماعات الإسلام السياسي، بوجه خاص. فهو من القائلين بـ "التواصل التراثي، واللاتواصل التاريخي"5

اقرأ أيضاً: الفلسفة كوصفة طبية
وإلى ذلك، لا بد من الإشارة إلى تواضعه ودماثة أخلاقه؛ فمن يتابع حواشي نصوصه أو هوامشها يتبين له مدى انفتاحه على الجديد، ومدى تواضعه في حضرة المعرفة؛ إذ يحيل على أعمال من هم في منزلة تلاميذه، بصفتها مراجع، في مواضيعها، ومصادر لموضوعه.
و تيزيني من أبرز المهتمين بالتراث العربي الإسلامي، قامت مقارباته للتراث العربي الإسلامي بوجه عام وللفكر العربي في العصر الوسيط، بوجه خاص، وللإسلام المحمدي الباكر بوجه أخص، على مبدأ أنّ الفكر هو دوماً فكر واقع ما، يتعين في الواقع المعني، أي في البنية الاجتماعية والتاريخية والتراثية، وأنّ جدلية الفكر والواقع هي مهماز النمو والتقدم. وقد اقترح من  أجل ذلك فرضية التواصل التراثي واللاتواصل التاريخي، إشارة إلى الانقطاعات والتحولات التاريخية الكبرى التي لم تحل دون التواصل التراثي. وإلى ذلك لا يمكن تعطيل جدلية الداخل والخارج؛ أي جدلية التأثير والتأثر القائمة دوماً بين الثقافات المختلفة، هنا الثقافة اليونانية والثقافة العربية، من جانب، والإسلام والديانات السابقة عليه من جانب آخر. هذه الجدلية التي درج على التعبير عنها في محاضراته وأحاديثه بمقولة: "الخارج داخلاً والداخل خارجاً".

اقرأ أيضاً: لماذا يهاب العرب والمسلمون الفلسفة؟
فقد رأى في الإسلام أصلاً وفرعاً، يتعين الأصل في "السيرة المحمدية"، التي أفصحت عن نفسها عبر "ثلاثة تجليات كبرى. وقد تمثلت هذه التجليات في شخصية النبي محمد، عليهالسلام، ما قبل الدعوة وما بعدها، مأخوذة بمثابتها بؤرة مركزية ذاتية وموضوعية تكثفت فيها سماته الخاصة وسمات عصره واتجاهاته الصغرى والكبرى أولاً، وفي النص القرآني مأخوذاً في سياق تبلوره واكتماله، بمثابته بنية ذهنية برزت "منجَّمة"، أي محقَّبة ومشخصة زماناً ومكاناً ثانياً، وفي النص الحديثي، في ضوء كونه تقاطعاً متمماً ومعقباً وشارحاً لذينك التجليين السابقين ثالثاً". أما الفروع فهي جملة النصوص والمواقف التي تفرعت عن الأصل وتعاظمت في المراحل التاريخية اللاحقة.

كتابات تيزيني تكشف عمق تواضعه في حضرة المعرفة إذ يحيل على أعمال من هم في منزلة تلاميذه بصفتها مراجع

إنّ مقولة "السيرة المحمدية" بتجلياتها المشار إليها، تفصح عن منهجية تيزيني: المادية التاريخية. ويفصح عنها أيضاً نقده لمفهوم "الجاهلية" و"العصر الجاهلي"؛ فقد اعتبر هذا العصر الجاهلي إرهاصاً بالإسلام، وهو مما يذكر بكتاب طه حسين الشهير، "في الشعر الجاهلي"، والذي يعد من بواكير التنوير في الثقافة العربية الحديثة، وقد أشار إليه  تيزيني وقبس منه6 .
إنّ نقد تيزيني لما يسميها "الإدانة الأيديولوجية للعصر الجاهلي" لا يشير إلى مصادرة الإسلامويين للتاريخ فقط، بل يشير إلى هشاشة الرؤية "القومية العربية" للتاريخ أيضاً. يقول  تيزيني: "إذا كان هناك، في البلدان العربية، من لا يزال يأخذ بموضوعة الأجناس والعروق عامة و بـ "وحدة الجنس العربي" على نحو خاص، فإنّ ذلك لم يعد يُدافَع عنه من موقع العلم، بمختلف فروعه وأنساقه"7 . إنّ ما يهم، في هذا المقام، هو الطابع النقدي، الذي اتسم به فكر  تيزيني.
لقد حاول تيزيني أن يؤسس التاريخ الاجتماعي الاقتصادي، ومن ثم، السياسي، للعالم العربي، في العصر الوسيط، على الوحدة البسيطة والمباشرة، (غير الجدلية)، بين الملك والإله، على نحو ما تخبرنا التواريخ القديمة وكتب "الآداب السلطانية"، وما ينجر عن هذه الوحدة من أشكال التملك، ولا سيما تملك الأرض، وأنماط الحكم8 ، ولهذا التأسيس، الذي لم يتابعه تيزيني فلسفياً، للأسف، أهمية كبيرة في أيامنا، لجلاء العلاقة بين الدين والسياسة، وكشف النقاب عن "الأصول" التاريخية للعقائد الدينية وعن مصادر هذه العقائد ومصائرها. عدم متابعة هذا التأسيس ناتج، في اعتقادنا، من كون النصوص المقدسة، تحل، في أحيان كثيرة، محل المعطيات التاريخية، لدى ماركسيين، كما هي الحال لدى التيولوجيين.
أجل، صار طيب في ذمة القراءة والنقد.

اقرأ أيضاً: الفلسفة الإسلامية: مشروع النسيان والنبذ
هذه دعوة للباحثات والباحثين من العاملات والعاملين في حقل الفلسفة أو الفكر النظري، ولا سيما طالبات الراحل العزيز وطلابه إلى قراءة أعماله ونقدها والبناء عليها. وهي دعوة مشفوعة  بالأسى؛ لأنّ الأغلب في تقاليدنا الثقافية أن يُكتَب عن الكتَّاب والأدباء والفنانين المبدعين والمفكرين، مدحاً أو ذماً، تقريظاً أو تشهيراً، وقلما يكتب غير ذلك، بعد رحيلهم عن دنيا الأحياء، أو عن دنيا الأموات الأحياء، ما يدل على انعدام أي مساحة أخلاقية للحوار، في ثقافتنا، وانعدام روح التشارك في إنتاج الحقيقة، في مجتمعاتنا ودولنا 9.


هوامش:

1- عن ويكيبيديا، الموسوعة الحرة، على الرابط: انقر هنا
2 - طيب تيزيني، النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة، دار الينابيع، دمشق، 1997، ص 7.
3 - الطيب تيزيني، على طريق الوضوح المنهجي، دار الفارابي، بيروت، 1989، ص 6.
4  - تيزيني، مقدمات أولية في الإسلام المحمدي الباكر، دار دمشق، دمسق، 1994، ص 25.
5 - تيزيني، الفكر العربي في العصر الوسيط،
6 - راجع/ي، تيزيني، الفكر العربي في بواكيره الأولى، ص 19 – 20.
7 - تيزيني، الفكر العربي في بواكيره الأولى، ص 37.
8 - راجع/ي، تيزيني، الفكر العربي في بواكيره الأولى، ص 84.
9 - كتبت عن الراحل عدة أعمال، هي في حدود ما نعرف: "الماركسية والتراث العربي الإسلامي": مناقشة لأعمال حسين مروه والطيب تيزيني"، توفيق سلوم، دار الحداثة، 1982. وظاهرة النص القرآني تاريخ ومعاصرة": رد على كتاب النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة للدكتور طيب تيزيني، سامر إسلامبولي، دار الأوائل، دمشق، 2002. "طيب تيزيني – من التراث إلى النهضة"، نبيل صالح، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، أغسطس 2008. وسلامة كيلة، "مناقشة لفكر ملتبس، المادية والمثالية في الماركسية" (منشور على موقع الحوار المتمدن، بدون بيانات)



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية