"رحلة حياة زقزوق".. ماذا كتب وزير الأوقاف المصري السابق في مذكراته؟

"رحلة حياة زقزوق".. ماذا كتب وزير الأوقاف المصري السابق في مذكراته؟


15/04/2019

لا شكّ في أنّ هناك سرّاً وراء ما تفعله أوروبا بطالب أزهري، ذهب ليكمل تعليمه فيها؛ فبعدما يخرج من سراديب التعليم الديني المتوني، إلى فضاءات الجامعات الأوروبية، يتحول إلى عقلية فذة ناقدة، تجمع بين الأصالة والحداثة، فكما حدث في تشكل عقل طه حسين، ساهمت أوروبا في صناعة عقول كثير من الأزاهرة، حتى وإن لم يلقوا شهرة واسعة وعريضة.

اقرأ أيضاً: "رحلة حياة" لمحمود زقزوق.. دعوة للتأمل في واقع الشأن الديني المصري

كغيره من النخبة المصرية؛ أتى محمود حمدي زقزوق، وزير الأوقاف المصري الأسبق، من قلب القرية المصرية؛ إذ ولد في قرية الضهرية التابعة لمركز شربين الدقهلية، شمال مصر، في العام 1933، لأب حرص على أن يسجل تاريخ ميلاده بالساعة والدقيقة، فورث منه الابن الدقة التامة، وهو ما يلاحظه قارئ المذكرات هذه.

رجولة مبكرة
ما إن بلغ محمود سن السابعة حتى رحل والده عن الدنيا، إلا أنّ الله عوضه بأخيه الأكبر "المتولي"؛ الذي أكمل مسيرة الوالد في العلم والتربية بكل أمانة وإخلاص لا نظير لهما، على حدّ وصف الكاتب.

زقزوق: لا يوجد شيء اسمه حظّ إنما العمل والإرادة هما اللذان يحددان مسار الشخص

وعلى غير عادة أقرانه؛ اختار زقزوق الصغير أن يلتحق بالمعهد الديني في مدينة دمياط الساحلية، رافضاً أن يكمل دراسته في التعليم المدني، لا لشيء سوى أنه أراد أن ينتقل إلى حياة المدينة في دمياط، والإقامة مع الأقران، دون تكبد مشقة الذهاب والعودة اليومية لو كان التحق بالمدرسة الابتدائية في قرية الزرقا المجاورة.

كانت علامات النبوغ حينها؛ هي إتمام حفظ القرآن الكريم كاملاً، وكان هو قد فعل ذلك، وحصل على المركز الأول في مدينته، فحصل على اثنين من الجنيهات كجائزة له، إلا أنه ما يزال يذكر أنّه حصل على 187.5منها فقط.

اختار زقزوق الصغير أن يلتحق بالمعهد الديني في مدينة دمياط الساحلية

في العام 1947؛ التحق زقزوق بالمعهد الديني، فوجد أنّ له شيخاً مستنيراً، قرر فتح فصول لتدريس اللغتين؛ الإنجليزية والفرنسية للراغبين من الطلاب، فسارع هو لتعلم اللغتين، لكنّ هذا البرنامج كان قد توقف بمجرد انتقال الشيخ إلى معهد آخر، إلا أنه ما يزال يذكر لهذا الشيخ مكرمة أخرى؛ إذ إنّه دفعهم لشراء ملابس رياضية، وفرض عليهم ممارسة الرياضة يومياً، حتى أنه يقول ما أزال أمارس ما تعلمته وقتها من التمارين حتى يومنا هذا.

بيئة محافظة

بدأ زقزوق في كتابة المقالات والأشعار والقصص في صحيفة محدودة التوزيع، اسمها "سفينة الأخبار" وهو في سن الــ17 عاماً، إلا أنّه خاض معركة كتابية حامية الوطيس بينه وبين أحد كتاب الجريدة على صفحاتها، بعد أن نقد مقالاً لهذا الكاتب، رأى فيه مبالغة غير مقبولة في امتداحه لأحد رؤسائه لدرجة رفعه لمرتبة تكاد تقترب من مرتبة نبي الله إبراهيم، بعدها رأت إدارة الجريدة غلق هذا الجدل، والكتابة في أمور تهم القارئ وتعود عليه بالنفع والفائدة.

اختار زقزوق أن يلتحق بالمعهد الديني في مدينة دمياط الساحلية رافضاً أن يكمل دراسته في التعليم المدني

مذكرات زقزوق تشي بفتى يميل إلى المحافظة الدينية في صغره، فشنّ هجوماً على العادات والتقاليد والسلوكيات التي كان يشتمل عليها مولد السيد البدوي، وكتب ذلك في موضوع إنشاء منحه أستاذه الدرجة النهائية عليه، إلى أن جاء الأستاذ في الأسبوع التالي، وذراعه مكسورة، ومربوط عليها جبيرة، فاعتقد هذا الأستاذ أنّ ما جرى له هو عقاب من السيد البدوي لتشجيعه طالباً على نقده.

يبدي زقزوق تعجبّه من اعتقاد أستاذه؛ إذ يقول: "السيد البدوي قد توفاه الله منذ زمن بعيد، والميت لا يستطيع أن يفعل شيئاً، والرسول، عليه الصلاة والسلام، يقول: " إذا مات الميت انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له".

 انتشرت جماعة الإخوان في تلك الحقبة في أنحاء مصر كلها

إخوان في الطريق

تكاد لا تخلو مذكرات أحد من الجيل، الذي ولد في الربع الأول من القرن الماضي، من ذكر مواقف لهم مع جماعات الإخوان المسلمين، مما يشي بقوة انتشار تلك الجماعة في تلك الحقبة في أنحاء مصر كلها، وقد تحدث زقزوق عنهم في مذكراته: "كانت في قريتنا شعبة للإخوان، لكنّني مع مجموعة من الأصدقاء والزملاء قررنا إنشاء ناد رياضي ثقافي، وبرز نشاط النادي الثقافي في محاضرات ثقافية تعقبها مناقشات تدرب الشباب على التفاعل المثمر في المناقشات، مع التدريب على احترام الاختلاف في الآراء وعدم مصادرة أو رفض الرأي المخالف طالما كان في إطار الاحترام المتبادل، كما انخرط النادي برئاسة زقزوق في الأعمال الفنية والمسرحية والرياضية، إلا أنّ ذلك لم يعجب الإخوان فكان الصدام معهم".

بدأ زقزوق في كتابة المقالات والأشعار والقصص في صحيفة محدودة التوزيع اسمها سفينة الأخبار وهو في سن الــ17 عاماً

ويقول: في أحد الأيام؛ حدث خلاف بيني وبين القائم بأعمال الشعبة الإخوانية، فهددني بعمل يسلب النوم من عيني وتكون له عواقب وخيمة، ولا شكّ في أنّ النشاط البارز للنادي على المستويين الرياضي والثقافي في القرية كان أمراً غير مريح بالنسبة إلى الإخوة في الشعبة، ولم أهتم بالتهديد واعتبرته مجرد كلام، لكنّه نفذ تهديده؛ فقد جاءني، للمرة الأولى في حياتي، استدعاء من ضابط مباحث أمن الدولة بالمركز، وذهبت وقابلت الضابط المسؤول، وسألني أسئلة كثيرة تتعلق بالنادي وأنشطته، ومقر النادي، واجتماعتنا بالنادي، واشتراكات الأعضاء، وعلاقتنا بالأنشطة المشابهة في القرى المجاورة، كنت أجيب عن كلّ سؤال بمنتهى البراءة والصدق، فلم يكن لدي ما أخفيه.

اقرأ أيضاً: الأزهر يجدد نفسه لمواجهة أنجع مع جماعات الإسلام السياسي

عرف زقزوق أثناء التحقيق معه أنّ الشكوى ضدّه تتمحور حول أنّه وزملاؤه يديرون خلية شيوعية تحت مسمى النادي الرياضي الثقافي، ولما تبينت للضابط كيدية الشكوى المقدمة ضده، أعطاه البلاغ المقدم ضدّه، فوجده خالياً من أيّ توقيع، إلا أنه لم يشأ أن يفصح للضابط عن كاتبه مراعياً صلة القرابة البعيدة بينه وبين كاتبه الإخواني.

عزيمة واعتراف

تشي مذكرات زقزوق بفتى يتمتع بالقدرة والإرادة والعزم، كما أنه يتمتع بالقدرة على الاعتراف، كتب في إحدى الصحف حينها: لا يوجد شيء اسمه حظّ؛ إنما العمل والإرادة هما اللذان يحددان مسار الشخص، أما الحظّ فهو الحبل المهترئ الذي يتمسك به الكسالى، والذي لن يؤدي بهم إلا إلى طريق مسدود؛ إنه وهم.

اقرأ أيضاً: الأزهر والإخوان المسلمون.. صراع يتجدد

ومع أنّه درس علم العروض والقوافي إلا أنّه يعترف بأنّه فشل في كتابة الشعر؛ لأنه لم يكن يمتلك موهبته، إلا أنه نجح ككاتب مقال في صحيفة "الرسالة"؛ التي كان يرأسها الأستاذ أحمد حسن الزيات، بعد أن كتب فيها مقالات عن الأزهر والثورة، طالب فيها بضرورة تجاوب الأزهر مع ثورة يوليو، وإحداث إصلاحات جذرية، شكلاً وموضوعاً، وفي العدوان الثلاثي على مصر، عام 1956، تطوع زقزوق للجهاد ضدّ القوات المعادية ضمن صفوف الحرس الوطني.

وفي القاهرة؛ كان شغوفاً بالاستماع إلى محاضرات كبار الأساتذة والأدباء والمفكرين والشعراء في العديد من منتديات القاهرة، مثل الجمعية الجغرافية، وقاعة الشيخ محمد عبده بالأزهر، وجميعة الشبان المسلمين، وجميعة الشبان المسيحية، والجماعة الشعبية، وغيرها.

اقرأ أيضاً: بهذه الطريقة تخلد الإمارات ذكرى زيارة البابا وشيخ الأزهر

وواظب على الاستماع إلى الأستاذ عباس محمود العقاد، والأستاذ أحمد حسن الزيات، وبنت الشاطئ، والدكتور محمد البهي، ورأى بعض المعارك الأدبية بين الشاعرين عبد الله شمس الدين ونجيب سرور، كادت تتطور إلى اشتباك بالأيدي؛ كان هناك زخم أدبي وفكري وديني في فترات الخمسينيات من القرن الماضي.

عام 1962؛ وصل زقزوق إلى ألمانيا، والتحق بمعهد جوته ليستكمل دراسة اللغة الألمانية

زقزوق في ألمانيا

عام 1962؛ وصل زقزوق إلى ألمانيا، والتحق بمعهد جوته ليستكمل دراسة اللغة الألمانية، وبعد أن حصل على الشهادة المطلوبة التحق بجماعة ماريورج، إلا أنه رأى محدودية الدراسة الفلسفية في هذه الجامعة العريقة، فقد كانت الدراسة الفلسفية في هذا الفصل مقتصرة على سيمينار لدراسة كتاب دعائم ميتافيزيقا الأخلاق، للفيلسوف "كانت"، وكان يتولى التدريس رئيس القسم الأستاذ "كلاوس رايش"، وفضلاً عن ذلك؛ كان هناك أستاذ آخر تجاوز السبعين، هو الأستاذ "إيبنج هاوس"، يقوم بتدريس رسالة "حول السلام الدائم" لـ "كانت" أيضاً، كما كان يقوم أستاذ مساعد بتدريس نظرية المعرفة لـ "جون لوك".

شن زقزوق هجوماً على العادات والتقاليد والسلوكيات التي كان يشتمل عليها مولد السيد البدوي

في هذه الأثناء؛ يروي زقزوق موقفاً حدث له مع أحد الأساتذة الألمان: في نهاية الفصل الدراسي كنت في حاجة إلى إفادة من الجامعة بأنني حضرت على الأقل أحد هذه السيمينارات، بصفة منتظمة، لتقديمها إلى هيئة التبادل العلمي الألمانية لتجديد منحتي الدراسية، فذهبت إلى الأستاذ "إيبنج هاوس"، وطلبت منه هذه الإفادة المطلوبة، وذكرت له أنّ كشوف الحضور لدى المساعد تثبت ذلك، ولم تكن الهيئة المذكورة تطلب أكثر من ذلك، ولكن الأستاذ أصرّ على أن يعقد لي امتحاناً بعد أسبوع من هذه المقابلة.

يكمل: حبست نفسي في غرفتي في الفندق المتواضع الذي كنت أقيم فيه مدة الأسبوع المحدد، لأذاكر كتاب "كانت" حول "السلام الدائم"، وفي الموعد المحدد استقبلني الأستاذ، وظل يسألني حول قضايا الكتاب، وأنا أجيبه قدر الإمكان، واستمرت المقابلة قرابة ثلاثة أرباع الساعة، وفي النهاية؛ قال لي: إنّ المعاهدات الدولية، طبقاً للفيلسوف كانت، يجب الالتزام بها، وأضاف "جمال عبدالناصر لم يكن محقاً في إنهاء العمل بالاتفاقية الدولية حول قناة السويس. فقلت له: إنّ عبدالناصر كان سياسياً، أما كانت فهو فيلسوف بعيد عن الممارسة العملية، لكنه قال: عليك عندما تعود إلى مصر أن تنبه إلى ذلك، فقلت له: حسناً، سوف أحاول، ثم سألني: ماذا تريد أن أكتب لك؟ فقلت: لا أريد أكثر من مجرد إفادة بإثبات حضوري للسيمينار، فقال: لا، إنني سأكتب لك شهادة، وبالفعل كتب شهادة ما أزال أحتفظ بصورة منها".

الشكّ بين ديكارت والغزالي
انتقل زقزوق إلى جامعة ميونيخ؛ ليواظب على حضور محاضرات الأستاذ "راينهارد لاوت"، وتحدث معه ليكون مشرفاً على رسالته للدكتوراه، ووافق، ثمّ بدأ التفكير في موضوع للرسالة، وبعد بحث وتفكير انتهى إلى موضوع "الشك المنهجي لدى كل من ديكارت والغزالي".

الإمام الغزالي

يقول زقزوق: ديكارت، الذي جاء بعد الغزالي بقرابة خمسة قرون، معروف بأنّه "أبو الفلسفة الحديثة في أوروبا"، وقد بينت في الرسالة أنّ الشكّ المنهجي في كلّ خطواته موجود لدى الغزالي، وإن كان بإيجاز، أما لدى ديكارت؛ فقد عرضه في كتابه التأملات بتفصيل أكثر مما لدى الغزالي، ومع ذلك فالأفكار الأساسية التي تشكل أساس فلسفة ديكارت موجودة لدى الغزالي بشكل يدعو للدهشة.

اقرأ أيضاً: ماذا تعرف عن المشروع الإصلاحي للشيخ الأزهري محمود الشلتوت؟

ورغم أنّ الأستاذ "لاوت" كان يشير في محاضراته إلى أنّ الفلسفة الحقيقية بدأت بديكارت؛ فإنّه بروح الفيلسوف الموضوعي وافق على كلّ ما جاء في الرسالة، ولم يطلب تغيير شيء فيها.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية